Aperçu des sections

  • Section 1

    المحاضرة 3: روافد وعوامل اليقظة والنهضة الجزائرية:

                لا شك أن اليقظة والنهضة الجزائرية لم تقم بين عشية وضحاها كما أنها لم تقم بفضل جهة واحدة أو شخص واحد بل هي تفاعل وتراكم وانبعاث لمجموعة كبيرة وكثيرة من العناصر والأفكار والوسائل والحركات، وهذه اليقظة والنهضة التي أخذت في الظهور منذ نهاية القرن 19م وبداية 20م كانت لها روافد وعوامل كثيرة بلغت درجة التناقض والتنافر، ولكن هذه الحركة استطاعت بعد جهد وألم وصراع ومعاناة أن تمزج كل هذه العناصر وتوظفها. فقطبا التأثير هما قطبان متقابلان ونقصد بهما الحضارة الشرقية العربية الاسلامية وقطب الحضارة الغربية الفرنسية التي تقوّت بفضل الدعم السياسي والثقافي والعلمي والمادي في الجزائر المستعمرة.

          في هذه المحاضرة سنتكلم عن أهم الروافد والعوامل التي وقفت وراء اليقظة والنهضة الجزائرية وشكّلتها وأخرجتها في صورتها المعروفة والتي مثلت مظهرا من مظاهر المقاومة الثقافية:

    1- حركة محمد علي باشا التحديثية:

          جاءت حركة محمد علي باشا التحديثية بفضل الحملة الفرنسية على مصر، حيث خلفت هذه الحملة صدمة حضارية كبرى لدى المشارقة جعلتهم يوقنون بأن التطور والتحديث على النمط الغربي هو اسرع طريق لمواكبة العصر، وقد اتخذ محمد علي باشا هذا شعارا وبرنامجا لدولته، وبشّر المثقفون والكتاب وأصحاب السياسة وأذاعوا التطور الحاصل في دولته. ولعل من ثمار حركة التحديث في مصر إرسال البعثات العلمية والطلابية الى فرنسا واصدار رفاعة رافع الطهطاوي لكتاب ضمّ رحلته الى باريس سمّاها "تخليص الإبريز" دعا فيه هذا العالم الديني إلى النظم الديمقراطية والاهتمام بالتربية والتعليم والمرأة، ورغم أن الجزائريين كانوا أقرب من رفاعة الطهطاوي إلى الحضارة الفرنسية إلا أن أسلوبه وقربه منهم لكونه مسلما بعيدا عن المعركة جعل الجزائريين يتقبلون أحكامه إلى حد ما ويقتنعون على مضض بقوة الحضارة الغربية، ولعل كثرة التعليقات والشروحات وتقليد هذا الكتاب في العالم العربي والإسلامي تبرز قوة تأثيره باعتباره من مظاهر بدايات الحداثة والنهضة في العالم العربي والاسلامي.

    2- دور مصر:

         لقد برز دور مصر من خلال عدة عناصر يمكن إيجازها كالتالي:

    2-1- جامع الأزهر:

         فقد استمر جامع الازهر في دوره التعليمي والارشادي ورمزيته الدينية، ويسجل لنا التاريخ توافد العلماء الجزائريين عليه منذ القرون الأولى للاسلام طلبة وعلماء وحجاجا بل إن عددا منهم استقر به للعلم. وبعد الاحتلال الفرنسي للجزائر شكلت مصر مستقرا للكثير من العائلات الجزائرية وللعلماء وعلى رأسهم الشيخ ابن العنابي.

    وكان الجزائريون في طريقهم للحج يزورون أبناء بلدهم المهاجرين فيها وينزلون في الأزهر طلبا للعلم والإجازة او البركة، ومع مطلع القرن العشرين صارت أخبار الطلبة الجزائريين هناك معروفة مشهورة، وحذّرت التقارير  بأن عددهم في مصر أكبر من عددهم في المدارس الفرنسي الإسلامية بالجزائر.

    2-2- محمد عبده:

           وصلت أفكار الشيخ محمد عبده وتجديداته إلى الجزائر عبر تونس وعبر الصحافة وعبر الجزائريين العائدين من الحج ثم جاءت زيارته إلى الجزائر في 1904 لتبرز قوة أنصاره وتزيد من تكتلهم وتعلي من دعوتهم وصوتهم. فمحمد عبده جعله بعض الجزائريين رئيسا شرفيا لجريدته (المغرب) وراسلوه كثيرا، وبعد وفاته بقوا على اتصال مع تلميذه الشيخ محمد رشيد رضا ومجلته المنار وأتباعه الآخرين أمثال شكيب أرسلان، مظاهر التأثر والتعلق كثيرة على الإحصاء نذكر مثلا أن أبا اليقظان قد خصص عددا كاملا لتأبين شكيب أرسلان في جريدته "الأمة" وتناول أخباره ومآثره في أعداد أخرى من قبل، كتب عنه قائلا:"...كيف لا يبكي دما كل إصلاحي وكل معهد علمي وكل مجلس شرعي وكل منبر ومحراب في الشرق والمغرب وقد انهار طود من اطواده طالما اهتدى به في ظلمات المشاكل". وكتب الأديب والكاتب محمد السعيد الزاهري في مجلة "الرسالة" المصرية مبرزا دور مصر في اليقظة والنهضة الجزائرية:" كل حركة دينية وادبية في مصر لها صداها القوي في هذا المغرب العربي، فللأستاذ المرحوم الشيخ محمد عبده المصري أنصار ومريدون وكل اديب كبير مصري له انصار واشياع في بلاد المغرب العربي...والمطبوعات المصرية تحتل المقام الأول عندنا وسواء في ذلك الصحف والكتب والمجلات".

    أما الشاعر والأديب الإصلاحي الهادي السنوسي فكتب عن دور مصر في النهضة الجزائرية:" ومن منّا معشر الجزائريين من لم يفتح عينيه منذ انتهت الحرب الكبرى على آثار مدرسة اسماعيل صبر ي وحافظ وشوقي وطه حسين وأحمد امين والمنفلوطي والزيات من أفراد الرعيل الثاني، أقول الثاني لأنهم سبقوا بطبقة الشيخ محمد عبده وعبد العزيز جاويش وطنطاوي جوهري وعلي يوسف والمرصفي" ثم يذكر بعض الصحف المصرية ذات الأثر الكبير: "فكانت الهلال والمقتطف والمنار هذه الثلاثة على الخصوص رسل النهضة الأدبية الشرقية الى الشمال الافريقي وكان أساتذتنا يتخيرون لنا من منظومهم ومنثورهم ما يؤثروننا به لتثقيف عقولنا وإصلاح ألسنتنا وتبصيرنا ما تجود به أفكار المدرسة الحديثة في عالم الغرب". فتأثير مصر شمل مختلف مجالات الحياة الثقافية (الأدب، القصة، الشعر، النثر، الإذاعة، الغناء، المسرح، الصحافة، التفسير، الفلسفة، التاريخ...

    3- تونس:

          إذا ذكرت تونس ينصرف الذهن إلى جامع الزيتونة وهو أمر صحيح فيما يتعلق بتأثيرها على اليقظة والنهضة في الجزائر، وذلك بحكم قربها الجغرافي والتاريخي والثقافي والاجتماعي من الجزائر. وبفضل إصلاحاتها التعليمية بين 1910-1924 بلغ عدد طلبتها 3650 طالبا، ومن جهة أخرى ساهمت المدرسة الخلدونية ( ديسمبر 1896) التي تعتبر ثمرة للحركة العبدوية في مجال التعليم وكذلك المدرسة الصادقية في تحديث نظم التعليم، اضافة الى مئات الجمعيات والمدارس التي ؤاحت تتنافس على تطوير التعليم في تونس. وقد بلغ عدد الطلبة الجزائريين في تونس بداية الثلاثينات حوالي 200 طالب مسجل ليبلغ 1500 طالب عام 1952.

        ونظرا لقوة هذا العدد وتفاعله مع مختلف شؤون الحياة في تونس أنشأ الجزائريون عدة جمعيات لهم أشهرها جمعية الطلبة الجزائريين الزيتونيين كما ساهموا في نشاطات جمعية طلبة شمال افريقيا المسلمين(نوفمبر 1927). ومن الصعوبة بمكان تقديم عدد دقيق للطلبة الجزائريين في تونس رغم ان دراسات كثيرة حاولت ذلك إلا أنها لم تتمكن من ذلك لأن عددا منالطلبة كان لا يسجل بصفة رسمية وهناك من ينقطع وهناك من يسجل باسم مستعار خوف الرقابة...

    ولا تكاد مدينة من مدن الجزائر لا نجد منها طالبا درس في تونس سواء بداية القرن او في بداية خمسينات القرن العشرين بل أثناء الثورة التحريرية نفسها. ولكن من المفيد أن نذكر بعض الرواد الأوائل من الطلبة ممن لمعت أسماؤهم في عالم الشريعة والفكر والثقافة والأدب أمثال الشيخ عبد الحميد بن باديس والعربي التبسي ووزهير الزاهري والسعيد الزاهري وأبو اليقظان ومفدي زكريا ومحمد خير الدين ومحمد الهادي السنوسي والأمين سلطاني وعبد اللطيف سلطاني ومحمد العيد آل خليفة وأحمد سحنون ونعيم النعيمي وأبو القاسم سعد الله... بل إن الميزابيين شكلوا بعثات علمية إلى تونس منذ 1914 وفي 1916 و 1922 ...بلغت مئات الطلبة.

    4- دور الحجاز:

          شكلت الرحلة الحجية عبر العصور الإسلامية مناسبة دينية وثقافية تعود بالنفع والجديد على الجزائريين يجددون فيها العزم والارتباط بأصولهم وعقيدتهم، كما نلاحظ بأن الجزائريين قد تعاطفوا –أول الأمر- مع الحركة الوهابية والملك ابن سعود ودولته باعتبارها في –اعتقادهم- أنها ستمثل دولة إسلامية في جميع مناحي الحياة، لذلك تفاعلوا مع ابن سعود وتوسعاته في شبه الجزيرة وأخباره وإصلاحاته، يقول الشيخ البشير الإبراهيمي:" وللمغفور له الملك عبد العزيز آل سعود عاهل الجزيرة العربية مكانة سامية في نفوس المصلحين بالجزائر لما اشتهر به من إقامة حدود الله والقضاء على البدع والأضاليل وإحياء السنة النبوية".

    5- دور الصحافة الأجنبية:

         نالت الصحافة الفرنسية حصة الأسد في الجزائر المستعمرة من حيث القوة والوفرة والتأثير والدعم الرسمي لها، ومن حسن حظ النخبة الجزائرية ذات اللسان الفرنسي أنها قد ساهمت فيها فاستفادت منها في نشرها للتعلمي وللوعي والتمدن بين الأهالي، ولذلك فإن إنكار دور هذه الصحافة وإغفاله في المجالات الادبية والثقافية والاجتماعية يعتبر تجاوزا للحقائق وتغليبا للجانب السياسي الايديولوجي الذي كان يطغى فعلا على هذه الصحف ولكن لا ينبغي اغفال الدور والاتعكاسات الايجابية التي خلّفها انتشار هذه الصحف. فغالبية شباب النخبة الجزائرية كان يكتب ويتفاعل معها ويتكوّن منها وفيها ويستقي منه معلوماته ومعطياته وآرائه في انتظار تشكل صحافة وطنية خاصة به، وهو الأمر الذي لم يطل بعد ذلك، إذ تعتبر فترة ما بعد الحرب الع 1 فترة انتعاش هذه الصحافة الوطنية التي ولدت من المعاناة والاغتراب الحضاري والفكري الذي عانت منه هذه النخبة بطرق مختلفة.

    من جهة أخرى ساهمت الصحافة العربية الأجنبية في اليقظة والنهضة الجزائرية مساهمة فعالة على عدة جوانب فشكلت غذاء فكريا للجزائريين المحرومين من لغتهم وتراثهم وصلاتهم بأمتهم العربية والإسلامية كما وفّرت لهم ميدانا للكتابة والتعبير عن مطالبهم وآمالهم وإثبات أنهم لا زالوا على عهدهم وهويتهم إضافة إلى تنوير الجزائريين واطلاعهم على الأخبار الدولية والقضايا المطروحة للنقاش والتي كانت الإدارة الفرنسية تصبغها بصبغتها أو تحجبها عنهم في صحافتها.

    وما يوضح لنا مدى انتعاش حركة الصحف في الجزائر -رغم الرقابة والمنع- هو تقرير فرنسي يتحدث عن حجز السلطات الفرنسية 67 عنوانا لجرائد تونسية ومصرية وسورية متنوعة الأغراض في الفترة 1920-1954، فالتونسية مثل: النهضة، الهلال، الإرادة، الاسبوع، الزهرة، الزهو، المرجان، الزيتونة. أما المصرية فمنها الرابطة العربية، المصور، كل شيء، الاسلام. أما السورية فمنها سورية الجديدة، الجامعة الاسلامية، والسعودية مثل صوت الحجاز وأم القرى. 

    ويذكر المؤرخ الفرنسي شارل آجرون بأنه مع بداية القرن العشرين كان بالجزائر 117 دورية مصرية يتم تداولها .

    أما أكثر الجرائد والمجلات تأثيرا فهي المنار للشيخ محمد رشيد رضا والفتح لمحب الدين الخطيب، وقد كان أغلب المثقفين والادباء يقرأون هذين الجريدتين الخطيرتين في عالم السياسة والأدب والفكر، كتب أبو اليقظان عن "الفتح":" ولو عرفها الناس حق معرفتها وقدروها حق قدرها لما خلا منها مكتب عالم ولا منضدة محام ولا محفظة تلميذ ولا خزانة طبيب ولا ملف موظف". ومن الملاحظ أن الجزائريين لم يكتفوا بدور المتلقي لهذه الصحف والمجلات بل ساهموا فيها وتفاعلوا مع نقاشاتها، منهم عمر راسم وعمر بن قدور اللذين راسلا تونس ومصر واسطنبول والشيخ الطيب العقبي الذي كتب في جريدة القبلة واشرف على تحريرها كما كتب العقبي أيضا رفقة الأمين العمودي في جريدة "العصر الجديد" التونسية. وعيّن العقبي وكيلا له في تونس ليشرف على طباعة جريدته "الإصلاح" ويرسلها له إلى بسكرة. وذكر أحد الرحالة التونسيين في زيارة له إلى بسكرة عام 1926 بأن رواج الصحف التونسية فيها يكاد يكون مثل رواجها في تونس العاصمة.

     

    • Section 2

      محاضرة  رقم 4:

      - شخصيات جزائرية مساهمة في المقاومة الثقافية:

      من العسير فعلا تتبع جهود الشخصيات الجزائرية المختلفة التي ساهمت في المقاومة الثقافية عبر مراحلها الطويلة واشكالها ومظاهرها المتعددة (محافظة، مقاطعة، يقظة، نهضة، إصلاح، تحديث، اصطدام...) خاصة أن هذه المقاومة كانت باللغتين العربية والفرنسية وبوسائل يصعب تتبع بعضها إن كان أثرها نفسيا معنويا أدبيا، ولكننا سنحاول تركيز البحث على المحاولات والمبادرات الأولى قبل ان تصبح المقاومة الثقافية فعلا واسعا وعاما. من هذه الشخصيات نذكر:

       

      - عبد القادر المجاوي:

      ولد الشيخ عبدالقادر بن عبد الله بن محمد الحسني الجليلي المجاوي التلمساني في تلمسان عام 1264هـ الموافق لـ 1848م بتلمسان، في عائلة علم ودين وقضاء، فوالده فقيه وقاض معروف، امتهن القضاء بالجزائر ثم بطنجة بالمغرب بعد هجرته إليها.

             درس عبدالقادر المجاوي بالجزائر ثم هاجر مع عائلته إلى المغرب الأقصى كما هاجرت عائلات كثيرة هروبا من الاختلاط بالاستعمار الفرنسي وقبول سيادته خاصة بعد فشل مقاومة الأمير عبدالقادر.فأتم حفظ القرءان الكريم والمرحلة الابتدائية من تعليمه في طنجة ثم تطوان، ومنها انتقل إلى جامع القرويين بفاس أين استفاد من دروس شيوخ مجددين أمثال الفقيه محمد العلوي الفاسي والشيخ محمد قنون والشيخ محمد بن سودة والشيخ محمد بن جعفر الكتاني  وغيرهم. فنلاحظ من هذه النشأة أنها نشأة محافظة اعتمدت على الأصول والبيئة المحافظة في الجزائر ثم المغرب الأقصى، ولم تختلط بالأفكار والمؤثرات الفرنسية بعد.

      2- الإسهام التربوي و الثقافي والعلمي للشيخ عبد القادر المجاوي:

      أ- التعليم:

              عاد الشيخ عبد القادر إلى الجزائر بين سنتي 1869 و 1870م ،وهو ابن اثنتين وعشرين سنة، ومن الغريب أنه اختار مدينة قسنطينة في شرق الجزائر التي ربما لم يكن يعرفها من قبل، ولعل ما يفسر لنا هذا الاختيار هو أن أهالي وأعيان قسنطينة قد دعوه إليها لتعليم أبنائهم في مدرسة حرة ردّا منهم على اهتمام فرنسا المتزايد بالمدرسة الفرنسية الإسلامية (الشرعية) وسعيها لاحتكار التعليم والقضاء والدين الإسلامي، كما أن عبدالقادر المجاوي تربطه علاقة مصاهرة بعائلة الأمير عبدالقادر خاصة أبناء عبد القادر بن علي أبو طالب الذين استقروا بالشرق الجزائري واشتغلوا في القضاء، فربما كانوا هم الواسطة بين أعيان قسنطينة والشيخ عبد القادر المجاوي للاستقرار في قسنطينة.

            وربما تحت ضغط الظروف الدولية الضاغطة على فرنسا لجأت إلى مهادنة الجزائريين فسمحت للمجاوي بالتدريس وعيّنته بعد حوالي ثلاث سنوات 1873م واعظا بجامع سيدي الكتاني بقسنطينة، مما أتاح له نشر فكره الأصيل واعتزازه بالحضارة الإسلامية واللغة العربية وهويته الجزائرية للعامة من الناس، وربما عيّنته الإدارة الفرنسية بعد ذلك مدرسا بالمدرسة الفرنسية الإسلامية (الشرعية) بقسنطينة في 1878م لعزله عن الناس أو لإنجاح مشروع المدارس الإسلامية واستقطاب الجزائريين النافرين منها. وقد أسندت إليه الدروس الشرعية واللغوية في هذه المدرسة.

               استطاع المجاوي أن يؤثر في عدد معتبر من التلاميذ في قسنطينة سواء في الجامع أو المدرسة نذكر منهم: حمدان الونيسي أحد رواد النهضة الجزائرية الحديثة والمدرس بالمدرسة الفرنسية الإسلامية (الشرعية) وأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس فيما بعد، حيث تذكر بعض المصادر أن الونيسي قد حضر دروس الشيخ المجاوي مستمعا، والشيخ المولود بن الموهوب المدرس بالمدرسة الفرنسية الإسلامية وصاحب النشاط الإصلاحي المعروف وأحد رواد النهضة، وأحمد الحبيباتني، وأحمد بن سعيد بن مرزوق المدرس بجامع سيدي الكتاني، ومصطفى بن محمد زادي المدرس ببسكرة والمسيلة، ومحمد بن عبد الله شيخ زاوية بالمسيلة وغيرهم من التلاميذ.

              وبعد انتقال الشيخ المجاوي للتدريس بالمدرسة الفرنسية الإسلامية بالجزائر المعروفة بالثعالبية عام 1898م  ازداد نشاطه وإشعاعه في مجال الإصلاح والتربية والتعليم، فدرّس طلبة القسم العالي (الدراسات العليا) واستطاع أن يقيم توازنا خفيا في المدرسة ضد التيار الاستشراقي الضارب بقوة فيها، والذي رعته الإدراة الاستعمارية بحكم قرب المدرسة من دوائر السلطة (الحكومة العامة).

             وإضافة إلى مهمة التدريس أوكلت إلى الشيخ المجاوي مهمة الإمامة والوعظ بمسجد سيدي رمضان ابتداء من سنة 1908م .

            وكما ترك الشيخ المجاوي عددا من التلاميذ والمقربين في قسنطينة، ترك عددا مهما ومميزا من التلاميذ والمتأثرين والمعجبين بفكره وشخصيته الأصيلة المتفتحة في الجزائر، نذكر منهم:الشيخ عبد الكريم باش تارزي مفتي الحنفية في قسنطينة والشيخ حمود بن الدراجي قاضي الحنفية بالجزائر، والشيخ سعيد بن زكري المدرس بالثعالبية ومديرها بعد ذلك ، والشيخ محمود بن دالي المعروف بكحول المفتي وصاحب جريدة كوكب أفريقيا...، كما حضر مجلسه مؤقتا المصلح الميزابي الشيخ إبراهيم اطفيش في عام 1910  والذي أشاد به. ويذكر الأستاذ محمد علي دبوز أنه لمكانة الشيخ المجاوي وحربه على البدع ودعوته للإصلاح فإن القطب اطفيش أرسل عددا من طلبته النجباء في ميزاب للدراسة على يد الشيخ المجاوي أمثال الحاج الناصر الداغور وإبراهيم اطفيش وإبراهيم الطرابلسي والحاج الناصر بن إبراهيم كروش الذين سيصبحون فيما بعد من رموز الإصلاح الإباضي في منطقة ميزاب.

      ب- الإصلاح الديني والاجتماعي والفكري لدى الشيخ المجاوي:

           في حقيقة الأمر لم تنفصل هذه المجالات التعليم والوعظ والإصلاح والتأليف في حياة الشيخ المجاوي وإنما فصلناها عن بعضها البعض لتسهيل دراستها وتبيين أهميتها فقط، ففي المدرسة الشرعية بقسنطينة أو الجزائر وجامع الكتاني بقسنطينة أو جامع سيدي رمضان بالجزائر لم يتوقف الشيخ المجاوي عن نشر فكره ودعوته خاصة إذا علمنا أن تدريسه العلوم الشرعية واللغوية أتاح له التأثير وتبليغ دعوته بهدوء واطمئنان.

             وقد ذكرنا فيما سبق أن الشيخ المجاوي قد تأثر بتكوينه المتين وبالحياة العلمية في المغرب الأقصى، فكيف وصلته أخبار المشرق الإسلامي والنهضة الحديثة بمصر والجامعة الإسلامية التي سنجد أثرها في بعض كتبه؟

             يميل كثير من الباحثين إلى وصول تأثيرات الشرق عبر الحجيج والصحافة وبعض المهاجرين ، ونحن نعرف أن عائلة المجاوي ترتبط مصاهرة بعائلة الأمير عبد القادر (عائلة ابن علي أبو طالب) التي استقر أفرادها في بلاد الشام والمغرب الأقصى وزاروا الجزائر في مناسبات كثيرة وتمتعوا بتسهيلات إدارية من طرف السلطات الاستعمارية الفرنسية لمكانة هذه العائلة.

            ومن ناحية أخرى كانت للشيخ المجاوي  نفسه مراسلات مع عدد من العلماء والفقهاء في المشرق مثل الشيخ إبراهيم سراج المدني المُدرس بالمدينة المنورة، وقد قرّظ كتابَه "إرشاد المتعلمين" عدد من الكتاب والعلماء مثل وهبي أفندي مدرس اللغة الفرنسية بمصر، والسيد حامد سليق أحد علماء الشام...

              ومع مطلع القرن العشرين ازدادت أفكار الإصلاح وانتشرت فكرة الجامعة الإسلامية، وإذا عرفنا العلاقة بين الشيخ المجاوي وزميليه الشيخ عبد الحليم بن سماية (1866-1933م) الذي كان وراء زيارة الشيخ محمد عبده للجزائر في 1903، والشيخ مصطفى بن الخوجة المعروف بالمضربة (1848-1913) الذي كانت له أيضا مراسلات واتصالات مع الشيخ محمد عبده وغيرهم أدركنا أن الشيخ المجاوي كان مستوعبا لموضوع الإصلاح على المستويين المحلي والإسلامي. ويذكر عدد من الباحثين أن الشيخ عبدالقادر المجاوي كان من بين مؤيدي ومستقبلي الشيخ محمد عبده في زيارته للجزائر. بل إن أحد الباحثين وهو آلان كريستلو أكّد على أن الشيخ المجاوي لا يمكن إلا أن يكون قد زار المشرق، وحججه في ذلك طبع الشيخ المجاوي كتابَه إرشاد المتعلمين في القاهرة وارتباطه بعائلة الأمير عبدالقادر المستقرة بالشام. ولكن زيارة الشيخ المجاوي للمشرق لم تتأكد بعد للباحثين بصفة قاطعة. ولكن ما يهمنا في هذا الصدد هو التعامل مع فكر الشيخ المجاوي ودعوته منذ سبعينيات القرن التاسع عشر الميلادي، وليس مع مطلع القرن العشرين فقط، فبغض الطرف عن تدريسه ووعظه وإذا ما اكتفينا بكتابه إرشاد المتعلمين الذي طبعه عام 1877 بالقاهرة، فإننا نُقرّ للشيخ المجاوي بأسبقيته في مجال الإصلاح الديني والتعليمي والاجتماعي في ظروف تسودها سياسة استعمارية تقوم على طمس الدين واللغة والهوية ومسخها وعزل الجزائريين عن العالم العربي والإسلامي.

      فالشيخ المجاوي يُعد حلقة رابطة بين جيلين من العلماء والمصلحين الجزائريين، جيل الشيخ محمد بن الكبابطي والشيخ مصطفى بن العنابي... الذي واجه الفرنسيين غداة احتلالهم الجزائر ثم جيل النهضة واليقظة والحركة الإصلاحية التي انطلقت مع القرن العشرين وتزعّمها تلاميذ المجاوي وتلاميذ تلاميذه. ويصوّر لنا المؤرخ الجزائري أبو القاسم سعد الله حالة قسنطينة قبل وصول الشيخ المجاوي إليها قائلا:"...وهكذا جفّت ينابيع العلم الحر وغاضت بحور الفكر، وكاد هذا الليل الطويل ألا ينجلي لولا نفحة هبّت من الغرب ونعني بذلك حلول عبدالقادر المجاوي للتدريس في أحد المساجد بقسنطينة...".

            حارب الشيخ المجاوي الجمود والتعصب والخرافات والبدع التي كست معتقدات الناس وشعائرهم وامتدت إلى حياتهم، فراح يعلن في دروسه وكتبه ووعظه أن الإسلام بريء مما ألصق به واضح في أحكامه وبسيط بعيد عن التعقيد ملائم ومساير لكل عصر، ولذا نجده يؤلف - فيما بعد- شرحا لمنظومة الشيخ المولود بن الموهوب سماها: اللُّمع على نظم البدع، كما دعا إلى العودة إلى الأصول، وألف شروحا وكتبا في علم الكلام والتوحيد والعقائد.

              ولعل أكبر مجال تصدى له الشيخ المجاوي هو محاربة التجنس والتفرنج والاندماج والإلحاد رغم قوة تياره وتبني الإدارة الاستعمارية له، فقد كان مُعتزا بالحضارة العربية الإسلامية و الهوية الجزائرية فحافظ على لباسه الأصيل رغم تقلبه في الأوساط الفرنسية، ودعا الجزائريين إلى الاعتزاز بماضيهم وبتاريخ أجدادهم والنهوض والتقدم والاهتمام باللغة العربية ، يقول: "اعلم أن اللغة العربية هي أقدم لغات العلم المستعملة الآن وأوسعها، وفضلها على غيرها يشهد به كل من يعرفها ولو كان أعجميا، فهي أفصح اللغات منطقا وبيانا وأكثرها تصرفا في أساليب الكلام وأقبلها تفننا في النثر والنظام...". ومن جهة أخرى زهد في اللغة الفرنسية رغم أنه دعا إلى تعلم اللغات. ولم ينشر المجاوي في جريدة المبشر الناطقة باسم الإدارة الفرنسية مما يوحي أنه كان مدركا لأهداف الإدارة الفرنسية الرامية لاستغلال العلماء الجزائريين لصالحها.

              ويظهر لنا هذا الاهتمام باللغة العربية أيضا في تأليفه عددا كثيرا من المؤلفات بين شروح وكتب لتبسيط علوم اللغة العربية لتلاميذه كما سنرى.

             وفي المجال الاجتماعي دعا الشيخ المجاوي تلاميذه وقومه إلى التماشي مع روح العصر وخصص كتبا منها ما يتعلق بشؤون المرأة، ومنها ما يتعلق بالاقتصاد والمعاش والصنائع، كما ألح على طلب العلم، فمثلا كتب في كتابه إرشاد المتعلمين قائلا:"...ولقد ساءني ما رأيت في هذا الزمان من فتور المعلمين والمتعلمين حتى أن أهل قطرنا من إخواننا المسلمين القسنطينيين والجزائريين والوهرانيين قد تراكم عليهم الجهل...". ورأى أن على المتعلم أن يتعلم ما يفيده من علوم الدين والدنيا: القرءان الكريم، الحديث النبوي، علم الفرائض، علم الفقه، علوم العربية، المنطق، علم الطب، علم الكتابة، الحساب، الهندسة، الزراعة، المساحة، الجغرافية، الهيئة، علم الرماية، السباحة، الفروسية، وغير ذلك من العلوم.

             وقد استفادت النوادي والجمعيات الجزائرية من نشاط ومحاضرات الشيخ المجاوي التي كان يلقيها والمركزة على التقدم والاعتزاز باللغة العربية والدين الإسلامي والأجداد، منها نادي صالح باي والرشيدية..

      ج- دور الشيخ المجاوي في الحياة السياسية:

      يبدو أن الشيخ المجاوي كان حذرا في تعامله مع الإدارة الاستعمارية، فكان يتجنب الاصطدام بها لذا نجده طيلة أكثر من أربعين سنة من التعليم والوعظ والإصلاح الهادئ لم يتعرض للسجن أو النفي أو التوقيف رغم متابعة الرقابة الفرنسية له.

      ورغم ذلك نجد للشيخ المجاوي حضورا في عريضة مظالم كتبها أهالي قسنطينة إلى لجنة التحقيق البرلمانية الفرنسية 1891م.

      د-دور الشيخ المجاوي في الصحافة:

      سعى المجاوي إلى نشر أفكاره الإصلاحية الهادئة عبر الصحافة العربية ومن المحتمل أنه تجنب النشر في جريدة "المبشر" الناطقة باسم الإدارة رغم صدورها باللغة العربية، فقد كتب مقالا عام 1902 في جريدة "المنتخب في مصالح المغرب" الصادرة بقسنطينة منذ 1882.

            ومن ناحية أخرى سعى تلميذه الشيخ كحول إلى نشر محاضراته التي كان يلقيها في النوادي والجمعيات عبر جريدته كوكب أفريقيا( أكثر من 20 مقالة)، وكذلك فعلت جريدة المغرب عام 1903 (7 مقالات أو محاضرات). ومن هذه المقالات نذكر: مشاهير العرب الذين تضرب بهم الأمثال، العلم، العادة، الطب العربي قبل الإسلام، التربية، شهر المولد النبوي، الكبر والعجب، تعليم الأطفال، سلامة الإنسان في حفظ اللسان...

      هـ-التأليف:

            يُعد الشيخ عبدالقادر المجاوي من القلائل الذين جمعوا بين التعليم والتأليف، فقد ألّف في أغراض متنوعة وبأسلوب متين متخصص، وأغلب مؤلفاته موجهة بالأساس إلى تلامذته في المدرسة الفرنسية الإسلامية(الشرعية) في مجال العلوم الشرعية واللغوية، فيبدو وكأنه يضع مقررات للدراسة، ونذكر منها:

      1- إرشاد المتعلمين: طبعه في القاهرة عام 1877، ويبدو أنه ألّفه لتلاميذه كتبسيط لدروسه، وهو أشهر كتبه على الإطلاق، وقد قسّمه إلى مقدمة وأربعة فصول وخاتمة، جعل الفصل الأول في علوم اللسان، والثاني في علوم الأديان، والثالث في علوم الأبدان، والرابع في المعاش. وقد أثار الكتاب امتعاض الدوائر الاستعمارية خاصة بعدما نشرت جريدة المبشر ملخصا له تحت عنوان "كتاب نافع" فردّت الصحافة الاستعمارية بمقال آخر تحت عنوان "كتاب شر" واتهمته بأنه قد أثار الناس في قسنطينة.

      2- القواعد الكلامية: وهو في علم الكلام، طبعه في عام 1911 في مطبعة فونتانا، ويقع في 157 صفحة، وهو موجه لطلبة القسم العالي في المدرسة الثعالبية، جعله في مقدمة وعشرة فصول وخاتمة.

      3- تحفة الأخيار فيما يتعلق بالكسب والاختيار: وهو في علم الكلام. جعله في ستة فصول (في أهل الجبر. في قول أهل القدر. في تحقيق ما هو الحق وهو مذهب أهل السنة. لا فعل حقيقة إلا لله وللعبد بالله. الاعتقاد بأن للعبد في الأفعال الاختيارية كسبا. المؤثر الحقيقي هو الفاعل المختار).

      4- منظومة في التوحيد: من المحتمل أن تكون هي "القواعد الكلامية" حيث أن أغلب من يذكرها يذكر شرح المولود بن الموهوب لها، ومن الثابت أن ابن الموهوب قرظ كتاب " القواعد الكلامية".

      5- الفريدة السنية في الأعمال الجيبية: طبعته إدارة مدرسة الثعالبية في مطبعة فونتانا بالجزائر في 1904، وهو في علم الفلك موجه للتلاميذ، يقع في 85 صفحة، حيث جعله في مقدمة وعشرين وخاتمة وزوده بأرجوزات لتسهيل الحفظ.

       6- شرح منظومة ابن غازي في الوقت:  في الفلك. ألفه في قسنطينة وطبعه بها.

      7- اللُّمع على نظم البدع: وهو شرح لمنظومة تلميذه وزميله الشيخ المولود بن الموهوب. طبعها عام 1330هـــــــ الموافق لعام 1912 بمطبعة فونتانا بالجزائر، وهي تقع في 198 صفحة، وقد قرظه تلميذه محمود كحول وأحمد بن الشيخ. وتمت إعادة طبع هذا الكتاب في إطار تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية2011.

      8- الإفادة لمن يطلب الاستفادة: طبعه في الجزائر عام 1901.

      9- كشف اللثام عن شواهد قطر ابن هشام: في النحو، انتهى من تأليفه عام 1295هــــ الموافق لعام 1878 ميلادية، وطبعه في قسنطينة. و تمت إعادة طبعه في إطار تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية 2011.

      10- شرح نظم المجرادية الجمل: طبعه في المطبعة البونية عام 1894، والمجرادية لأبي عبدالله محمد بن مجراد. وتمت إعادة طبعه في إطار تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية 2011.

      11- الدُرر النحوية على المنظومة الشبراوية: طبعه في الجزائر في عام 1907 بمطبعة فونتانا، وهو في النحو. وكتب بأنه انتهى من تأليفه في صفر 1296هــــــــ الموافق لعام 1879.

      12- نصيحة الإخوان:  وذكر بعنوان آخر هو "نصيحة المريدين"، ألفه في قسنطينة بينما طبعه في تونس، وهو شرح لقصيدة محمد المنزلي في التصوف (القادرية)، طبعه في تونس، عام1314 هـ، ورغم أن المجاوي لم يعرف بتصوفه إلا أن المؤرخ سعد الله يرجح أنه ألفه مجاملة لأصهاره القادريين.

      13- نزهة الطرف في المعاني والصرف:توجد نسخة مخطوطة ضمن مجموع تحت رقم 654 في مصلحة الثقافة والتراث بوزارة الشؤون الدينية (الجزائر) ، وتم تحقيقه ضمن الأعمال الكاملة للمجاوي. وتقع هذه النسخة في 12 ورقة.

       14- المرصاد في مبادئ الاقتصاد:وهو في الاقتصاد.

      15- شرح جمل الخونجي: وهو مختصر في علم المنطق، طبعه طبعة حجرية، وكتب في مخطوطته الأصلية أنه فرغ من تأليفه في 29 رجب 1295هـــ الموافق لعام 1878، وعدد أوراقه تسع  صفحات.

                    وقد تلقى تلامذته وزملاؤه هذه الكتب بالمدح والتقريظ، أمثال الشيخ كحول وابن الموهوب...وحتى الصحافة الأهلية.خاصة أن كتبه امتازت باللغة المتينة والأفكار الجريئة، وقد وصف الدكتور سعد الله الشيخ المجاوي من خلال كتاباته بأنه كان:"ضليعا في فنون النثر بعامة" لابتعاده عن السجع والصنعة والتكلف في المبنى على حساب المعنى.

       3-وفاته:

                     توفي الشيخ عبدالقادر المجاوي في قسنطينة يوم السبت 6 أكتوبر 1914 ،وليس كما تذكره كثير من الكتابات والدراسات التي تذكر عام 1913، وقد أشار الأستاذ الدكتور مولود عويمر إلى اعتماده على جريدة معاصرة لوفاة المجاوي وهي جريدة "الفاروق" التي نعت الشيخ المجاوي في عددها رقم 80 الصادر في 02 أكتوبر 1914 وذكرت تاريخ وفاته بالضبط، ثم تابعت أخبار تأبينه وأعلنت استعدادها لاستقبال تعازي الجزائريين في عددها رقم 81 الصادر في 09 أكتوبر 1914 ،وقد ودفن بقسنطينة، وحضر جنازته كثير من الشخصيات والعلماء والتلاميذ.

                    وقد كتب الصحفي والمصلح محمد الأمين العمودي عن أثر أساتذة المدارس الفرنسية الإسلامية (الشرعية)- ومنهم الشيخ المجاوي- في تخريج جيل جزائري واعٍ وغيور قائلا:"...لم تطل المدة حتى ظهرت نتيجة عمل أولئك الآباء المحسنين وتكونت شبيبة مهذبة تتوقد غيرة وهياما بالنهوض والرقي".

             بينما كتبت مجلة الشهاب عن الشيخ عبدالقادر المجاوي: "...العلامة الأستاذ عبدالقادر المجاوي-رحمه الله- هذا الرجل هو أبو النهضة العلمية بقسنطينة، وهو شيخ الناس بجميع عمالتها، عليه تخرّج القضاة ورجال المحاكم والتدريس والفتوى...ولو كان هذا الرجل من أمة عالمة لأحيت ذكراه في كل مناسبة...".

                  ولغزارة علمه وعلوّ مكانته وأهمية نشاطه وسبقه الإصلاحي استطاع الشيخ المجاوي أن ينتزع لقب شيخ الجماعة من الشيخ حميدة العمّالي المدرس بالمدرسة الفرنسية الإسلامية (الثعالبية) في الجزائر وأن يحظى بلقب أب النهضة الجزائرية الحديثة بتركيزه على ثلاثية الدين والعلم والوطن.

                    فساهم بعلمه وشخصيته ومواقفه وتلاميذه في الحفاظ على سلسلة العلماء الجزائريين المقاومين للتجنيس والتفرنج والإلحاد وطمس الهوية الإسلامية العربية للجزائريين، وتغلب على الإدارة الاستعمارية التي أرادت أن تستغله في المدارس الفرنسية الإسلامية والمساجد فاستغلها هو في تكوين جيل من العلماء سيقودون النهضة الجزائرية الحديثة والحركة الإصلاحية وأعاد لهم التوازن أمام جماعات وصحافة الاستشراق التي تعد هذه المدارس أهم مراكزها، موظِّفا التعليم والوعظ والتأليف والصحافة وسائلَ في مشروعه الذي اتصف بطول المدة وبالهدوء في التنفيذ.

       

       

      • Section 3

        محاضرة: تابع/ شخصيات مساهمة في المقاومة الثقافية

        2- محمد بن رَحَّال:

        ولد محمد بن الحاج حمزة بن رحال في 16 ماي 1857، والده هو آغا ندرومة(تلمسان)، ولد في عائلة علمية ومالية معروفة خرّجت القضاة والمعلمين، فوالده تولى العدالة الشرعية في تلمسان ثم القضاء على منطقته ندرومة في دولة الأمير عبد القادر الجزائري، كما عيّنته السلطات الفرنسية بعد ذلك آغا ندرومة. درس محمد بن رحال في المدرسة القرآنية ثم بالمدرسة الابتدائية الفرنسية العربية ثم في كوليج دي فرانس بمدينة الجزائر التي سرهان ما حولت الى ثانوية حيث تخرج فيها، ليلتحق بالجيش مؤقتا ويتركه للعودة إلى بلدته ندرومة في جويلية 1874، عُين خليفة آغا عام 1876 ثم قايد لندرومة بعد وفاة والده عام 1879.

        ويبدو أن الثقافة المزدوجة لابن رحال وأصالة عائلته وروح المحافظة داخلها وارتباطه بالطريقة الدرقاوية ورحلته الى باريس 1878 كلها عوامل أثرت في دفعه نحو خدمة قومه، فقام بعدة خطوات أولاها استقالته من منصب قايد عام 1884 ودعمه للمطالب الوطنية والعرائض كما دعّم حركة الامير خالد بعد ذلك. ووقف ضد سياسة الإدماج التي كانت الادارة الفرنسية تسعى إلى إنجاحها في الجزائر بضرب الهوية، فكتب محتجا:" هذا الشعب يواصل تمسكه بتقاليده، فهو يأخذ بالأشياء الجديدة من دون أن يقطع صلته بماضيه وخصوصياته". وفي دفاعه عن اللغة العربية والاسلام دافع عن التعليم العربي وابدى ملاحظته بان التعليم الفرنسي عقيم لأنه لا يدرس للجزائريين بلغتهم كما رأى بضرورة تعليم القرءان القرءان الكريم في كل مكان لأنه:"غاية في الإفادة لتهذيب الأخلاق، ومن تعاليمه أنه يحترم الأبوة والشيخوخة".

        وكتب عن واقع تدريس اللغة العربية في المدارس: "ليس هناك سوى في برامج بعض المدارس الأساسية الأهلية ما نسجل حصة نصف ساعة للعربية يوميا، ولا يمتحن فيها في امتحان الشهادة الابتدائية ولكن ايضا لاختفاء المدرسين الأكفاء" موضحا أنه ادّعاء وتمثيل لا أكثر:" هذا الاهتمام بالعربية عبارة عن مظاهر وذكريات وهل يعقل أن يدرس العربية مدرسين فرنسيين أو من الجزائريين الذين تكّونوا تكوينا سطحيا في مدرسة عادية بمعدل اربع ساعات اسبوعيا ولبضع شهور فقط"، كما تطرق الى مشكل عدم تعميم التدريس: "وعلى الرغم من هذه المحاولة الضعيفة فالعربية الابتدائية لا تدرس في جهات أخرى على الرغم من ان هذه اللغة تعد لغة الأمومة بالنسبة لملايين السكان المسلمين، وإذا كانت حاجتنا لا بد منها للمدرسة الفرنسية فإنها لا يمكن أن تكون بديلا أبدا للسان الأهلي".

        وفي مناسبة أخرى يكتب ابن رحال مدافعا ومذكرا بأهمية اللغة العربية: "تصوروا شعبا بلا لسان بعبر به عن آرائه واستجلاء أفكار سابقة وتثقيف الفكر وترجمة المشاعر وتطوير النطق والعيش والتقدم؟ إن هذا غير مقبول لأن اللغة هي أداة التكوين الفكري والثقافي".

        وبالنسبة لرؤيته للإسلام وقضايا التجديد والنهوض ورغم انخراطه في الطريقة الدرقاوية التي قد يكون لجوؤه إليها بحثا عن الاطمئنان والهروب من الزحف التغريبي المادي الفرنسي الذي اقترب منه، إلا أنه دعا الى تجديد الفهم للإسلام ورسالته المتجددة وتنقيته مما لصق به من انحرافات وخرافات وإعمال العقل والنقد:" إن الذي يعطل المجتمع الإسلامي اليوم هو جهله العميق ليس فقط جهل الفنون والعلوم الراهنة بل أيضا جهل أشياء كثيرة من دينه ما عدا بعض الممارسات الخارجية وبعض الاعتقادات الاساسية، فالديانة تحولت إلى مجموعة من الأغلاط والأحكام المسبقة وانحرافات، وأن كل ما يأتي من الخارج هو موضوع لحذر غير مبرر وتحريمات طائشة ومجادلات لا قيمة لها".

         

        ويلخص ابن رحال الحل لتطور العالم الاسلامي وتشرذمه بقوله: " إن الدول الإسلامية متأخرة ومجزأة لكن انتشار التعليم يجعلها تستعيد مكانتها".

        2-1- مشروع ابن رحال لتطوير وإصلاح التعليم العالي( الشرعي) في الجزائر:

        باعتبار ابن رحال شخصية علمية وثقافية وسياسية واجتماعية مرموقة ومعروفة بين الأهالي فقد قابلته لجنة التحقيق البرلمانية التي زارت الجزائر في عام 1892، وقد قدم لها ابن رحال مشروعا يحوي رؤيته لإصلاح التعليم العالي في الجزائر الذي كانت تتولاه المدارس الفرنسية الاسلامية الثلاث في كل من الجزائر وتلمسان وقسنطينة، وذلك إدراكا منه لأهمية التعليم في أي نهضة وتطور، احتوى مشروعه العناصر التالية:

        - إعادة شاملة لتنظيم المدارس الفرنسية الإسلامية.

        - تحديد مدة الدراسة ب 3 سنوات.

        - زيادة عدد المعلمين واختيارهم من ابرز العلماء ذوي الاستقلالية واستقدامهم من الخارج إن تطلب الأمر.

        - تعيين معلمين فرنسيين ذوي خبرة يتكلمون ويكتبون باللغة العربية وذلك لتعليم الطلبة اللغة الفرنسية والعلوم الابتدائية.

        - في نهاية السنة الثالثة يتم إجراء امتحان الانتقال الى المدرسة الثعالبية حيث يكمل الطلبة دراستعم العليا في مدة سنتين ويتلقون محاضرات في المدارس العليا للآداب والعلوم بما فيها المحاضرات الأولية للحقوق الفرنسية.

        - عند انتهاء السنة الخامسة يتم إجراء امتحان حول البرنامج المدرس، والمطلوب أن يكون الامتحان لصالح نجاح الإصلاح ذاته في قسم كبير لصالح العلوم الإسلامية، وأن يكون الامتحان صعبا للغاية من هذه الناحية. وبالنسبة للبرنامج الفرنسي فإننا نضع المواد التي نعتبرها ملائمة.

        - تتويج هذا الامتحان يكون بشهادة معادلة للبكالوريا، بحيث تفتح كل المجالات أمام الشباب الذين يقدمون كفاءات علمية لا ريب فيها.

        لقد أثارت آراء ابن رحال حول تطوير التعليم واصلاحه في الجزائر ردود فعل معارضة، نذكر منها تصريح المدعو سيباتيه " إن ابن رحال يريد أن يبين أنه لتوطيد تفوق الفرنسية في الجزائر من المفيد تطوير تعليم اللغة العربية، إن هذا المذهب مضاد بصورة مطلقة لكل تعليم في التاريخ، عندما تريد أمة ان تصل لتسريب حضارتها إلى امة أقل تطورا فإن ذلك يكون بنشر لغتها التي يجب أن تربط بها للحصول على هذه النتيجة".

        2-2- إسهامه ونشاطه الثقافي:

        مثّل ابن رحال نموذجا مضيئا للمزج بين الحضارتين الشرقية والغربية أو التمسك بالأصالة في مقابل الانفتاح على الجوانب الفكرية والمادية للحضارة الغربية، وذلك بفضل نشاته الدينية والوطنية من جهة وتكوينه الثقافي القوي واعتزازه بماضي عائلته ووطنه، فكتب في غحدى المناسبات:" ...صحيح أنه لا يجب ان نقبل كل ما تمنحه لنا الحضارة بعيون مغمضة فكثير من الأشياء التي لا تحسد عليها يمكن أن تترك دون كبير أثر، ولكت يمكننا بالمقابل أن نستعير عددا كبيرا من منتجاتها دون خطر بل بفائدة وعلى حسابنا الخاص، وتستطيع أن تتبنى كل ميدان العلوم البحتة وجزءا هاما من التنظيم الداخلي والسياسي ونظام الأشغال العمومية والتعليم وكل ما يتعلق بالتجارة والزراعة والصناعة دون تعديلات كبيرة، فلا شيء يخالف في العقيدة بل بالعكس أنه يحثه أو يفرضه". فساهم ابن رحال أيضا بالخطابة والكتابة والمحاضرات والشكاوي والعرائض في التنديد بالواقع الاجتماعي والتربوي والثقافي، ويمكن أن نجمل أهم نشاطاته العلمية والثقافية وحتى في الكتابة التاريخية والترجمة في إنجازاته التالية:

        - ملاحظات حول تعليم الأهالي (مخطوط)، 1886.

        - دراسة حول تطبيق التعليم العمومي في البلاد العربية، 1887.

        - تاريخ السودان (مالي) في القرن 16. ترجمة إلى اللغة الفرنسية.

        - تاريخ ندرومة، من تأليف والده (لعلها ترجمة أو نشر).

        - تاريخ بني سناسن.

        - محاضرة في مؤتمر المستشرقين بباريس بعنوان:"مستقبل الاسلام" 1897: حيث دافع فيها عن الجانب الاجتماعي والأخلاقي في الحضارة العربية الاسلامية، ومما ورد في محاضرته:" لنرى التخريب الذي سببه تفكيك الأسرة، انحراف الأخلاق، الإدمان تحديد النسل، المضاربة في البورصة، الإجهاد في العمل، الإفراط في الثروة، التطرف في اللهو، الإفراط في الانغماس وإطلاق العنان للأهواء والشهوات، الإفراط في الحرية...كلها مظاهر تؤدي بنا لنسأل أنفسنا من هو الأكثر مرضا الحضارة الاسلامية أو الغربية؟ ألا يمكننا اعتبار الاسلام يحافظ على نفسه؟". - محاضرات أمام علماء جامعة القرويين بالمغرب بدعوة من المقيم العام الفرنسي بالمغرب.

        كل هذه النشاطات والإسهامات جعلت أثره كبيرا في عالم الثقافة والسياسة والنهضة، كما أن كثرة شهادات كبار رجال العلم والثقافة والسياسة تعكس أهميته، كتب عنه المؤرخ أبو القاسم سعد الله قائلا:" كان صوت الجزائر العميقة وصوت التاريخ، ولم ينسيه الوظيفة والاعتبار المعنوي لدى الفرنسيين الدفاع عن الثقافة واللغة العربية والحضارة الاسلامية". سعد الله، الثقافي، ج6، ص 223

        أمّا الشيخ البشير الابراهيمي فكتب عنه:"...وينظر إلى الجزائريين بعين المسلم فيرى أنهم بلاء على أنفسهم قبل بلاء الاستعمار وأن الواجب أن يصلحوا أنفسهم بجمع الكلمة والمحافظة على الدين إلى غير ذلك من أنواع الإصلاح الداخلي الممكن".

        توفي ابن رحال عام 1928 .

        3- محمد بن العربي (1850-1939):

        ولد محمد بن العربي في شرشال حيث تلقى مبادئ القراءة والكتابة والقرءان الكريم ثم انتقل إلى الجزائر ودخل المدرسة العربية الفرنسية ثم كلية الطب، انتقل إلى باريس حيث نال شهادة الدكتوراه في الطب عام 1884 ليصبح أول جزائري يحصل على شهادة الدكتوراه، أتقن ابن رحال لغات أخرى إلى جانب العربية والفرنسية وانفتح على الحياة الثقافية في فرنسا وكان من أصدقائه الأديب الفرنسي المعروف فيكتور هيقو.

        طالب محمد بن العربي من لجنة التحقيق البرلمانية عام 1892 إلغاء القوانين الاستثنائية واحترام القضاء الإسلامي والتعليم باللغة العربية...وعارض إلغاء المحاكم الشرعية رفقة صديقه ابن رحال عام 1891 وقادا حركة احتجاجية واسعة لأجل ذلك، انتخب عضوا في المجلس البلدي عام 1888. توفي في أكتوبر 1939.

        4- محمد بن مصطفى بن الخوجة:

        ولد محمد بن مصطفى بن الخوجة المعروف بالكَمَال في مدينة الجزائر حوالي 1865 في عائلة كرغلية معروفة بالعلم والتقوى، درس القرءان الكريم ومبادئ اللغة العربية في الكتاتيب ثم المساجد، عين حزّابا في الجامع الأعظم بمدينة الجزائر ثم بالجامع الجديد في 1880. وفي عام 1886 عين مدرسا بالجامع الكبير وكاتبا في جريدة "المُبشر" إلى غاية 1901 حيث غادرها.

        عُرف عن الشيخ محمد بن مصطفى بن الخوجة تحمسه للإصلاح الديني والنهضة والتطور فكان من مستقبلي الشيخ محمد عبده في زيارته الى الجزائر ومن ملازميه خلالها. وعرف عنه ايضا دعوته الى الاهتمام بالمرأة تربية وتعليما وتكوينا وحقوقا، وقد ألّف كتابا في ذلك يعد سبقا فكريا في البلاد العربية وهو " الاكتراث لحقوق الإناث" عام 1895، كما ألّف كتابا آخر هو "اللباب في أحكام الزينة واللباس والحجاب" عام 1907.

        5- عمر راسم:

        ولد عمر راسم في مدينة الجزائر في ربيع الاول 1302هـــ/ 1884، درس بالمدارس القرءانية ليعين حزّابا في جامع صفر وعمره لم يتجاوز 12 سنة ثم التحق بالمدرسة الثعالبية التي طرد منها بسبب مشاغباته الفكرية. تعرّف على عالم الطباعة والصحافة بعد تعيينه في المطبعة الرسمية التي كانت تطبع جريدة المبشر، وهو ما أتاح له الانفتاح على السياسة والحداثة والصراع الحضاري القائم.

        من إسهاماته المبكرة تكوينه فرقة مسرحية وغنائية للفن الأندلسي، وفي 1908 اعلن عن اصداره لجريدة "الجزائر" لكنه لم يتمكن من توزيعها لعجزه المالي رغم دعايته الكبيرة لها. كما عمِل عمر راسم مراسلا لعدة جرائد وطنية واجنبية مثل جريدتي "المرشد" و"مرشد الأمة" التونسيتين كما نشر فيهما عدة مقالات، التحق بجريدة "الحق" الوهرانية التي كانت تصدر باللغة الفرنسية ليتولى فيها إدارة وتحرير القسم العربي واستطاع أن يجعله جريدة مستقلة بهذا الاسم، وكان يتولى كل جوانب إخراج الجريدة من كتابة وتحرير وخط وزخرفة وتصفيف بما عرف عنه من مهارة وجمال خط وبراعة في فن المنمنمات في الزخرفة والرسم...ولكن توقفت في 1912.

        وفي عام 1913 أصدر عمر راسم جريدته ذو الفقار التي صدر منها 4 أعداد فقط لتتوقف في 28 جوان 1914. وبحكم أن عمر راسم كان من مؤيدي فكرة الجامعة الإسلامية والدولة العثمانية خاصة خلال فترة الحرب العالمية الأولى فإن الرقابة الفرنسية كانت تحيط به وبكتاباته، خاصة أنه كان يكتب المنشورات والملصقات ويلصقها سرا في جدران المدينة، ليتهم بعد ذلك بتوجيه رسالة إلى إحدى الصحف المصرية تؤيد الدولة العثمانية ضد فرنسا وحلفائها، لذلك تعرض للسجن والقمع ولم يطلق سراحه إلا عام 1923 لينصرف نحو عالم الفن والرسم.

        وحول دوره وإسهامه وفكره دارت نقاشات كثيرة هدفت إلى تصنيف دوره وفكره، ويذهب المؤرخ المتخصص في عالم الصحافة الجزائرية الأستاذ زهير إحدادن إلى أن عمر راسم لم يكن سياسيا بالدرجة الأولى بل كان إصلاحيا دينيا متأثرا بدعوة محمد عبده، كما كان يميل ويؤيد الأفكار الاشتراكية لما تحمله من عدالة ومساواة، فيمكن اعتباره من هذه الناحية من رواد الاشتراكية الإسلامية في الجزائر إلى حد ما.

        • Section 4

          دور الزوايا و لكتاتيب القرءانية والمدارس في المقاومة الثقافية:

          أولا: الزوايا

          الزاوية لغة من فعل زوي يزوي أي جمع وزاوية البيت ركنه أو هي من فعل تنزوى بمهنى انعزل وابتعد، وسميت الزاوية بذلك لانعزال أهلها وابتعادهم عن الحياة المادية ومركزها.

          أما اصطلاحا فهي مؤسسة دينية(إسلامية) تطور هدفها تاريخيا من كونها رباطا عسكريا لمراقبة الغزاة وصدّهم إلى تدريس القرءان الكريم وعلومه وجمع المريدين للذكر والخلوة واستقبال اللاجئين وعابري السبيل للأكل والشرب والإقامة الدائمة أو الاستراحة...فدورها قد تطور من دور جهادي ليضاف له الدور التربوي والاجتماعي...

          وإذا أردنا أن نبرز الدور الثقافي الذي ساهمت به الزوايا في الجزائر لمقاومة الاستعمار الفرنسي وجب علينا تفصيل أدوراها ومناطق انتشارها أولا. فبالنسبة لدورها الجهادي الذي تميزت به طيلة القرن التاسع عشر في مختلف المناطق كما رأينا في مقياس المقاومة العسكرية حيث تزعّم شيوخ الزوايا والطرق الصوفية التي تتبعها هذه الزوايا حركة الجهاد: الأمير عبد القادر، موسى بن الحسن الدرقاوي، بوعمامة، بومعزة، الحداد، عبد الحفيظ الخنقي، سي الصادق، فاطة انسومر...أما دورها العلمي فكانت تدرس القرءان الكريم وعلومه وعلوم اللغة العربية، وكان مؤسسوها يراعون عامل عزلتها وجمع أكبر عدد ممكن من الطلبة، وهناك من الزوايا من بلغت مستوى التعليم العالي (الطبقة العليا) بفضل شيوخها ومدرسيها كما سنرى. ومن المواد الأساسية التي كانت الزوايا تدرسها غالبا:

          - القرءان الكريم حفظا

          - علوم القرءان

          - العقيدة (التوحيد)

          - الفقه

          - الحديث الشريف صحيح البخاري ومسلم

          - علوم اللغة (نحو، صرف، بلاغة...)

          ويتم تدريس هذه العلوم في شكل متون ومنظومات زشرزح وحواشي مقررة لم تتغير من قرون، ولعل التجديد الوحيد الذي طرا عليها هو إضافة شروح لها أو اختصارات أو حواشي ممن يجدون في أنفسهم مكنة في ذلك من العلماء.

          كانت الدراسة تتم عادة بعد صلاة الفجر إلى الزوال حيث يصلي الطلبة صلاة الظهر ويتناولون وجبة الغداء ويأخذون قسطا من الراحة ليعاودوا الدراسة الى صلاة العشاء، فهو تعليم مغلق إذا صحّ القول. وينتقل الطلبة من مستوى إلى آخر ايتدائي متوسط عالي بعد إلمامهم بهذه المقررات، حيث يقوم شيخ الحلقة بامتحان الطالب حفظا وفهما ليمنحه إجازة شفوية أو مكتوبة بذلك فينتقل إلى الحلقة أو الطبقة أو المساوى الذي يليه وهكذا.

          وفي الوقت الذي اختفت فيه المعاهد العلمية وتراجع عدد الزوايا ومستواها بفعل السياسة الاستعمارية الفرنسية القاسية وكثرة مؤسساتها التغريبية وقوتها ودعمها المادي والسياسي بقيت الزوايا المؤسسة التعليمية والتربوية الوحيدة والأخيرة التي تضمن للجزائريين تعليما دينيا وتربويا محافظة على الدين الإسلامي واللغة العربية والتراث بصفة عامة.

          إن الكثير من الاعترافات والثناء الذي بثّه رجال النهضة الجزائرية والااصلاح في حق الزوايا يؤكد الدور الخطير لها ويذكر به، ففي الوقت الذي انهزمت فيه البلاد عسكريا وماديا وفُقدت فيه المدارس والمعاهد ووقعت المساجد تحت السيطرة والتأميم الفرنسي وحرم الجزائريون من حق إنشاء الجمعيات والنوادي والمدارس وهاجر الكثير من العلماء والنخبة العلمية والطلبة استطاعت الزوايا الحفاظ على عناصر الهوية باللجوء إلى الانغلاق وروح المحافظة على عناصر الهوية (الدين الإسلامي، اللغة العربية، التاريخ، العادات والتقاليد) والتراث العلمي بصفة عامة إضافة إلى دورها الاجتماعي الكبير بالإشراف على الحياة الاجتماعية من زواج وطلاق وعقود وصلح وحل للمنازعات وتنظيم للطقوس الدينية والاجتماعية (زواج، مواسم، جنازات...). يقول أحد المؤرخين الفرنسيين:" بالرغم من أن لهذه الطرق الصوفية صبغة دينية متصوفة فإنها كانت لدورها الاقتصادي والاجتماعي أحزاب سياسية بالإضافة إلى دورها الغامض التصاعدي قد جعلها جمعيات سرية من الدرجة الأولى فقد نظمت حملات دعائية سرية محكمة ضد الفرنسيين بواسطة اتصالات خفية".

          أما رئيس اللجنة البرلمانية الفرنسية التي كلفت بالتحقيق في الجزائر عام 1892 فقد كتب عن أثر هذه المؤسسات في توجيه الشعب الجزائري:" إنهم لا يريدون العمل طبقا لقوانينا وحقوقنا السياسية ولا يريدون أن يتعلموا بتعليمنا ولا أن يستفيدوا من خدمتنا العسكريةن إنهم يطالبون بوضوح وبساطة بالمحافظة على قانون احوالهم الشخصية والمحافظة القوية على تعاليم القرءان ".

          ومن الملاحظ أن الزوايا قد جرّبت مختلف أساليب الجهاد والمقاومة من العمل المسلح ضد العدو الفرنسي إلى العزلة والقطيعة والانصراف إلى العلم والتربية الروحية وحتى المشاركة مع الاستعمار الفرنسي في مراحل معينة لاقتناع بعض أفرادها بعدم تعارض الحضارة الفرنسية الغربية مع الإسلام ولكن هذه المجموعة قليلة وانحصر هدفها في تحصيل دعم فرنسي لها، ولكن صوتها كان غير مسموع وتأثيرها ضعيف كما غلبت عليها المحافظة.

          وسنحاول التعريف بأهم الزوايا التي ساهمت بدرجة اكبر في عملية المقاومة الثقافية خاصة مع مطلع القرن العشرين منبهين إلى أن الكثير من أبناء النخبة الثقافية والاصلاحية قد تخرّج في هذه الزوايا:

          1- زاوية الهامل:

          تعتبر من أهم الزوايا والمراكز العلمية في منطقة الوسط الجزائري بل الجزائر عموما، تأسست عام 1862 على يد الشيخ محمد بن أبي القاسم الذي ولد قرب حاسي بحبح بالجلفة عند أخواله ثم انتقل إلى منطقة القبائل للدراسة والتربية الروحية ليعود إلى منطقته مقدما للطريقة الرحمانية. وقد استشار الشيخ محمد بن أبي القاسم زعماء المقاومة والجهاد بين سلوكه الجهاد المسلح ضد الكفار أو سلوكه طريق العلم ومجاهدة النفس والتربية السلوكية للأتباع فأرشدوه إلى الثانية، ويروى أنه راسل الأمير عبد القادر للانضمام إلى جيشه لكنه وجّهه الى معركة ومهمة إعداد الرجال وتربيتهم لأن الجنود موجودون لكن أهل العلم والصلاح قلّة. لذلك أسّس زاوية له قرب بوسعادة (100 كم شرق الجلفة) استطاعت استقطاب عدد كبير من أبناء المنطقة (المسيلة، منطقة أولاد نايل عموما) كما ربطت الزاوية علاقات قوية مع زوايا منطقة القبائل بحكم الرابطة الصوفية فكان يدرس بها الطلبة من منطقة القبائل ويتبادل الشيوخ الزيارات والهدايا والتبرعات، ومن ناحية أخرى أدى التزامها بالحياد وابتعادها عن السياسة الى ابتعاد السلطات الفرنسية عن عرقلتها فاستطاعت بفضل ذلك تخريج الحفاظ والطلبة، وأصبحت مع مطلع القرن العشرين من أهم المراكز الثقافية والعلمية الجزائرية خاصة أن من بين شيوخها من اشتهر في الآفاق مثل الشيخ عبد الرحمن الديسي صاحب المؤلفات والمناظرات الشهيرة والمراسلات الكثيرة والشاعر عاشور الخنقي صاحب كتاب "منار الإشراف على فضل عصاة الأشراف" والذي ردّ عليه الديسي بكتاب "هدم منار الإشراف". وقد كتب الديسي في مختلف الأغراض والعلوم والفنون منها ما تم تحقيقه ونشره ومنها ما لا يزال مخطوطا، وكانت حلقاته العلمية تجتذب الطلبة والمريدين والشيوخ إلى مركزه الدائم في زاوية الهامل.

          إن دور زاوية الهامل اتسم بعدة سمات:

          - مركز لتعليم القرءان الكريم وعلوم الشريعة.

          - مركز لتعليم اللغة العربية.

          - مركز لنشر التراث العربي والإسلامي.

          - مركز لحماية الشباب من مخاطر الجهل والانحرافات الاجتماعية.

          - مركز لحماية الشباب من التفرنج والإدماج في الحضارة الفرنسية.

          - مركز لتجميع ونسخ الكتب والمخطوطات والمراسلات.

          - مركز للقاء العلماء والشيوخ والطلبة من داخل الجزائر وخارجها، ولا يمكن أن نستعرض قائمة العلماء والشيوخ الذين زاروا هذه الزاوية ويكفي أن نذكر من علماء المغرب الأقصى الشيخ محمد بن الحسن الحجوي ومحمد عبد الحي الكتاني والشيخ أحمد سكيرج في القرن 20م.

          2- زاوية طولقة:

          أسّسها علي بن عمر بداية القرن 19م  وهي زاوية رحمانية ظهرت في واحات طولقة قرب بسكرة، اشتهرت بابتعادها عن الخرافات والبدع واتجاهها للعلم وجمع المخطوطات والكتب حتى لقبت "وحيد الإيالة" وهناك من قدّر عدد المخطوطات فيها بــ 30 ألف مخطوط، وقد تخرّج كثير من الطلبة منها ممن لمعت أسماءهم بعد ذلك في عالم الفقه والفكر والأدب والإصلاح...

          مولود الزريبي ونعيم النعيمي وفرحات الدراجي واحمد بن العابد العقبي وزهير الزاهري وسعيد الزاهري وعلي بن عمارة البرجي...

          3- زاوية عبد الرحمن اليلولي:

          يعود تأسيس هذه الزاوية الى القرن 17 م في منطقة القبائل، واشتهرت بإقبال الطلبة وخيرة الشيوخ عليها، وقد أشاد الشيخ محمد السعيد بن زكري في كتابه "أوضح الدلائل" الذي دعا فيه إلى إصلاح الزوايا، ولكن هذه الزاوية بالنسبة له شكلت الاستثناء حيث كان نظامها يقوم على:

          - اعتمادها على التطوع والتبرعات من المحسنين والطلبة

          - شيخ الزاوية يتقاضى أجرا ثابتا نظير إشرافه عليها

          - وجود نظام داخلي ومجلس تأديبي دائم ويومي، والعقوبة عادة هي إنجاز الأعمال لفائدة الزاوية أو دفع مبلغ من المال

          - اشتراك الطلبة في أعمال الزاوية من طهي وغسل وتنظيف وجلب المؤرن

          - الاكتفاء بالطعام البسيط لتربية الطلبة على الصبر والقناعة فوجبة الغداء والعشاء هي كسكس الشعير ولمجة من التين المجفف.

          - الدراسة عادة تنطلق من صلاة الصبح إلى صلاة العشاء يوميا.

          - قراءة الحزب الراتب مرتين في اليوم (الصبح وبعد صلاة المغرب).

          الراحة اليومية بين العصر والمغرب والأسبوعية يوم الخميس.

          - يشرف لمْقدّم على النظام الداخلي.

          - لا يغادر شيخ الزاوية زاويته إلا لمدة عشرة أيام في كل شهرين، وينوب عنه في غيابه طالب ذو كفاءة عالية علما وخلقا.

          - يتردد على الزاوية بعض المريدين والضيوف وعابري السبيل من أجل الزيارة والبركة، وهناك من يبقى مقيما بالزاوية لفترة طويلة.

          4- الزاوية السحنونية:

          أسست في القرن التاسع عشر في منطقة القبائل، ونشطت أكثر على عهد شيخها محمد السعيد امقران الذي أسس زاوية فرعية لها في تاغراست (واد الصومام). استطاعت استقطاب الطلبة من داخل الجزائر وحتى من خارجها، ووصل العدد في بعض الأوقات إلى 500 طالب، تمكنت من إدخال تحديثات عليها فعقدت المجالي العلمية والندوات وارسلت بعض طلبتها الى تونس في منتصف الثلاثينات، كما ضمّت مكتبة غنية (10 آلاف كتاب ومخطوط) كما اشتركت في المجلات والمكتبات التونسية والمصرية...

          وأضافت الزاوية بعض المواد العصرية للتدريس مثل مبادئ العلوم وتدبير الصحة وكتاب الثبات ومبادئ الهندسة وأصول الجبر.

          5- الزاوية البوعبدلية:

          في بطيوة بأرزيو في وهران، أسسها الشيخ أبي عبد الله بن عبد القادر (1867-1952)، أيّدت جمعية العلماء في رسالتها الاصلاحية والتربوية، أشاد الشيخ ابن باديس بها وبشيخها فقال عنه"" ليتني كنت ابنا من أبنائه".

          6- زاوية الهاشمي:

          أشرفت عليها عائلة الهاشمي في وادي سوف، حيث طرّرتها من نواح عدة مركزة على الجانب العلمي متأثرة في ذلك بجامع الزيتونة وبالحركة الاصلاحية وحالة النهضة في الجزائر، وووضعت مخططا لها لاستيعاب 500 طالب وتجهيز قاعتين كبيرتين للمحاضرات وعشرين غرفة للاقامة ومخزنا للأرز والتمر، كما استقدمت اساتذة اكفاء مثل الشيخ علي بن ساعد وعبد القادر الياجوري إضافة إلى أساتذة من الجنوب التونسي، فساهمت في نشر التعليم محاربة الأمية، وقد أكمل كثير من طلبتها الدراسة في الزيتونة بعد ذلك مساهمين في الحياة العلمية والثقافية في منطقة شوف بعد ذلك.

          7- زوايا منطقة توات:

          تُعتبر منطقة توات من أكثر المناطق الجزائرية تفوقا من حيث عدد الزوايا والطلبة وجودة المقرررات الدراسية والإتقان وذلك بفضل عزلتها وبعدها عن المؤثرات الخارجية والمشاغل التي عادة ما تخرج الزوايا وطلبتها وشيوخها من عزلتهم إضافة إلى الرصيد التاريخي للمنطقة حيث اعتبرت لقرون همزة وصل بين شمال الجزائر ووسطها وبقية إفريقيا وما وراء الصحراء. تحتوي منطقة توات على كثير من القصور والواحات قدّرها بعضهم ب 300 واحة وقصر، و سنكتفي بالاشارة الى زاويتين فقط على سبيل الإيضاح:

          7-1- الزاوية الكنتية:

          ظهرت منذ تلقرن السابع الهجري الموافق للقرن الثالث عشر الميلادي على يد محمد الصغير الكنتي وحافظت على دورها التربوي والتعليمي الى اليوم في توات، برز منها علماء ومصلحون كثر.

          7-2- الزاوية البكرية:

          أسّسها الشيخ محمد البكري خلال القرن 19 م، ساهمت في الحفاظ على اللغة العربية والقرءان الكريم وعلومه كما اعتبرت ملجأ لعابري السبيل بدل اللجوء إلى المنصرين الفرنسيين المتربصين بهم، ساهمت أيضا في الابقاء على الصلات الحضارية والدينية بين الجزائر وإفريقيا من خلال رحلات وزيارات الطلبة والشيوخ اليها.

          تكن أهمية زوايا توات إضافة الى الدور التربوي والتعليمي في حفاظها على المخطوطات والآثار العلمية للحضارة الإسلامية بفضل حرص أهلها على النسخ والشرح والاختصار والتحشية والنظم لمختلف الآثار العلمية والدينية والأدبية.

          فرغم كل النقائص إلا أن الزوايا – كما رأينا- مثّلت حتى بداية القرن 20م منافسا علميا ودينيا وقوميا وتربويا لموجة التعليم والمسخ الفرنسي، وقد كتب أحد الفرنسيين في عام 1891 : " إن التعليم في الجزائر الآن تحت إشراف الأهالي أنفسهم والزاوية حيث يتعلم التلاميذ القرءان وتفسيره هي المؤسسة التعليمية الوحيدة في المستعمرة".

           

          • Section 5

            محاضرة:

            ثانيا- دور الكتاتيب القرءانية والمدارس في المقاومة الثقافية:

            الكُتّاب أو المحْضرة أو المعْمرة أو المسيد أو العْرْبية كلها أسماء لمحل تعليم القرءان الكريم ومبادئ اللغة العربية وهو عادة قرب المسجد أو داخل الأحياء السكنية وفي الأرياف قد تخصص له خيمة معينة. ويُسنَد الأمر إلى شيخ عادة ما يكون حافظا للقرءام الكريم أو نصفه مع اتصافه بالانضباط والصرامة والتفرغ للتدريس. أما التلاميذ فعادة ما يبدأون الدراسة بعد عامهم الخامس يستعملون الألواح الخشبية التي يطلونها بالطين ويكتبون عليها بأقلام من قصب وحبر من صوف محروق يدعى "الدواية" وهي لفظ دارج من لفظة "دواة" الفصيحة. يقوم التلاميذ بتكرار وحفظ ما كتبه الشيخ لكل واحد منهم ثم يتداولون على استظهار ما حفظوه على الشيخ، حيث يبدأ التلميذ عادة من الحروف الألفبائية فالفاتحة فالناس فالفلق إلى أن يختم الحزب الأول فالثاني إلى أن يبلغ ختم القرءان.

             لقد سعت السلطات الفرنسية إلى إخضاع الكتاتيب من خلال مرسوم 06 ديسمبر 1871 للرقابة الفرنسية لتتوالى قرارات منع تدريس القرءان الكريم واللغة العربية وصولا إلى قرار شوتان1938...وإذا كانت الكتاتيب طريقة معروفة في البلاد الإسلامية فإننا يمكن أن نقول بأنه من النادر ألا يدرس الطفل المسلم في هذه الكتاتيب في ظل عدم وجود المدارس الرسمية خاصة أنه يعتبر مرحلة تحضيرية لا بد منها قد تطول إلى أن يصبح عمر التلميذ 20 سنة عندما لا يتمكن من الانتقال إلى زاوية.


             

            - مرحلة التعليم العربي الحر:

            أمام تطبيق فرنسا لسياسة ثقافية استعمارية استهدفت توطيد أركان ومظاهر التعليم الفرنسي واللغة والثقافة الاستعمارية وإضعاف اللغة العربية من خلال منظومة استعمارية محكمة. فظهرت مدارس خاصة بالأهالي لكنها تدرس اللغة العربية بلهجة عامية دارجة خاصة بكل منطقة من المناطق الجزائرية كما سعت الى نشر اللهجة البربرية وتشجيعها رغبة في ضرب اللغة العربية الجامعة للجزائريين.

            ورغم قرارات المنع والقمع وحالة العوز التي أصابت المعلمين والمستقبل البائس الذي كان في انتظار من يتعلمون في المدارس العربية ويتركون المدارس الفرنسية لم يستسلم الجزائريون فاستمرت الحلقات التربوية والمدارس لتنطلق حملة تربوية كبيرة بعد حالة اليقظة والنهضة التي عرفتها البلاد قبل الحرب العالمية الأولى. فظهرت المدارس العربية تمييزا لها عن المدارس الفرنسية الرسمية، والملاحظ أن بدائتها كانت محتشمة على جميع الأصعدة لكنخا استطاعت بلوغ مستوى مقبول بعد عقود من العمل والكفاح واستطاعت تقليد النموذج التحديثي الغربي من حيث التنظيم وتوزيع المواد والمعلمين والجلوس على الطاولات واستعمال الكراريس والدفاتر والسبورة وإجراء الامتحانات واحترام المنهاج واستعمال الكتب...

            تُعتبر المدرسة الصدّيقية التي أسسها عباس حمّانة لأبناء الميزابيين في تبسة عام 1913 أول نموذج للمدرسة الحرة فبرنامجها وطني عربي إسلامي ووسائلها عصرية إلى حد ما، وقد أشاد المفكر مالك بن نبي بها بعد ذلك في مذكراته "شاهد القرن"، ولا شك أنها كانت متأثرة بالمدرسة الخلدونية والصادقية في تونس، وقد حاربتها الشلطات الفرنسية، ويميل الكثير إلى أن مقتل مديرها  وصاحب فكرتها عباس حمّانة بطريقة بشعة لم يكن عفويا وإنما كانت وراءه الادراة الاستعمارية.

            كما يمكن أن نلاحظ بأن كثيرا من الكتاتيب في المدن وبمبادرة من معلميها الشباب قد تحوّلت إلى مدارس حرة وذلك بإضافة بعض التنظيم والمواد الدراسية التي لا تعدو أن تكون نحوا وصرفا وحسابا.

            ومع ازدهار الحركة الاصلاحية في الجزائر تكاثرت هذه المدارس خاصة أنها لم تكن تحتاج عادة إلى رخصة وتنظيم وإنّما إلى مال ومتطوعين ومعلمين اثنين أو ثلاثة فأهذت في الانتشار في مختلف مناطق الوطن. فأسس الشيخ عبد الحميد بن باديس مدرسة حرة في حي أربعين شريفا في قسنطينة بعد رجوعه من الزيتونة عام 1917 وتطور عدد طلبتها من 200 طالبا عام 1917 إلى 300 طالب عام 1936.

            1- مدرسة الإخاء:

            تأسست في بسكرة عام 1931 بفضل تظافر جهود مجموعة من المعلمين خريجي الزيتونة أمثال محمد خير الدين الذي أشرف عليها ومجموعة من الأعيان على رأسهم الحفناوي دبابش الذي انتخب رئيسا ومديرا لها، تشكلت للمدرسة هيئة إدارية وأعلنت أن هدفها:" القضاء على الجهل الذي تعيشه الأمة الجزائرية والعمل على تلافي هذا الخطر المنذر بالاضمحلال".ونلاحظ هنا أن هذه المدرسة اتبعت الخطة نفسها التي اتبعتها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين حيث جعلت شيخ بلدية بسكرة رئيسا شرفيا لها وهو ما سرّع في حصولها على رخصة الإدراة وموافقتها على قانونها الاساسي، وهو ما تمّ فعلا في أوت 1931.

            انطلقت المدرسة فعليا في أوت 1931 وتكونت من ثلاث طبقات أو سنوات أو مستويات الطبقة الاولى برئاسة محمد خير الدين، الطبقة الثانية برئاسة محمد بن ابراهيم الطرابلسي والطبقة الثالثة برئاسة بلقاسم بن ميمون الغسيري إضافة الى وجود معلمين آخرين من خريجي الزيتونة والزوايا... وقد تجاوز عدد تلاميذها المئة تلميذ بأربعة أقسام في اكتوبر 1932.

            ومن ميزات مدرسة الإخاء مستوى المعلمين الجيد والانضباط واستعمال السبورة والكراريس والأقسام ونظام الامتحان وتدريس مواد النحو والصرف والقراءة والسيرة والحفظ وإقامة الحفلات والمسرحيات والمحاضرات...

            لكن هذه المدرسة سرعان ما توقفت بسبب الصراع السياسي والفكري بين أعضاء إدارتها.

            2- مدرسة الهدى:

            تأسست عام 1931 بالقنطرة بين الأوراس والزيبان، تأسست على يد جمعيتها المحلية بقيادة موسى بن حمودة ثم موسى بن حفيظ مدعومين في ذلك من النواب والأعيان مثل الطبيب سعدان والسيد محمد بن لمبارك رمضان. بدأت التدريس مؤقتل داخل المسجد، تطورت بعد ذلك لتصبح من المدارس التابعة لجمعية العملماء المسلمين وتفتتح رسميا عام 1947 بأربعة أقسام، فأشرفت عليها نخبة من المعلمين خريجي الزيتونة والزوايا وتلاميذ معهد الشيخ عبد الحميد بن باديس أمثال: مدرسة محمد الأمين سلطاني، عبد اللطيف سلطاني، علي بن الطاهر يختاتو، المبروك هوشاتت، عبد الباقي نور الدين...كما درّس بها مؤقتا عبد الرحمن رمضان والسعيد رمضان وأحمد بن ذياب ومحمد الصالح رمضان...

            وبفضل هذه المدرسة نالت القنطرة لقب سيدة الصحراء في التعليم حيث طلبتها الى الجامع الأخضر في قسنطينة والى الزيتونة وأحيت المناسبات العلمية والدينية...

            وقد أولت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الأهمية للتعليم ولإنشاء المدارس الحرة وقدر عدد المدارس الناشطة منها في 1943: 140 مدرسة أما في عام 1951 فقدر ب 125 مدرسة ناشطة حوَت 300 قسم (فصل)، وهناك من يذكر بأن عدد المدارس الحرة التابعة لجمعية العلماء هو 400 مدرسة أشرف عليها 700 معلم ووصل مجموع من درس في هذه المدارس 75 ألف تلميذ، كثير منهم صار معلما فيها.

            وتدعمت المدارس الحرة التابعة لجمعية العلماء بتوحيد مناهجها وتوحيد الامتحانات السنوية وذلك ابتداء من 25 جوان 1947 وتم تحديد مراكز وطنية لإجراء امتحان شهادة التعليم الابتدائي. وتم تشكيل لجنة التعليم العليا برئاسة الشيخ العباس بن الحسين و أحد عشر عضوا آخر، وحدد دورها كالتالي:

            - وضع منهاج موحد للتعلم العربي.

            - وضع الكتب المقررة له.

            - تصنيف المعلمين إلى درجات حسب الكفاءة والأقدمية والثقافة (الموسوعية).

            - الإشراف على الامتحانات والمسابقات لقبول المعلمين.

            - وضع برامج لكل مادة من مواد الدراسة.

            - إعداد الشهادات الدراسية.

            - تعيين المفتشين.

            - تنقلات المعلمين وترقيتهم وتكوينهم.

            وبذلك أضيف البعد البيداغوجي (العلمي/ التربوي) للمدارس الحرة وصارت لها قيمتها العلمية ومصداقية شهاداتها الممنوحة، خاصة أن الكثير من الطلبة كانوا يتوجهون إلى معهد الشيخ عبد الحميد بن باديس في قسنطينة لإتمام دراستهم باعتباره فرعا من فروع جامع الزيتونة يضمن لهم مستوى التعليم الثانوي أو يتجهون مباشرة إلى الزيتونة.

            وعلى صعيد آخر بدأ مشروع تكوين المعلمين وطبع دروس نموذجية جاهزة للتلقين، كما تم اشتراط حصول المعلمين على شهادة التحصيل من جامع الزيتونة. ومن المفيد استعراض المواد المقررة والحجم الساعي المقرر أسبوعيا حسب المستويات وهي المستوى التحضيري الابتدائي المتوسط.

             وتوجد أيضا مدارس عربية حرة ظهرت وهي مستقلة عن جمعية العلماء تابعة لبعض الطرق الصوفية أو الأحزاب السياسية أو الأحرار أو الجمعيات المحلية وقد كان الهدف دائما هو نشر اللغة العربية ومبادئ الدين الإسلامي والعلوم التراثية والعصرية بما يحافظ على هوية وبقاء الشعب الجزائري. كما توجد المدارس الحرة التي انتشرت في الصحراء وفي منطقة ميزاب وهي لا تكاد تخنلف عن مدراس جمعية العلماء ما عدا مدرسة الحياة التي امتازت بفعاليتها ومستواها المادي والعلمي الكبير، ونعتبر أنها نافست معهد ابن باديس الذي تفوقت عليه من حيث السبق الزمني.

            3- مدرسة دار الحديث:

            افتتحت يوم 27 سبتمبر 1937 بمدينة تلمسان، تعتبر من المدراس الدينية الكبرى في الجزائر. كانت المدرسة تتشكل من طابق ارضي يضم مسجدا للصلاة وقاعة للمحاضرات وخشبة للمسرح أما الطابق الأول ففيه إدارة المدرسة أما الطابق الثاني فضمّ قاعات الدراسة المكونة من خمسة أقسام

            انطلقت المدرسة برئاسة وإدارة الشيخ محمد البشيرالابراهيمي، وهو ما يعكس أهمية هذه المؤسسة، وقد تولى التدريس فيها أيضا حيث درّس علم التفسير وموطأ الامام مالك، أما الأستاذ أحمد بن ذياب فدرّس اللغة العربية، أما الشيخ محمد مرزوق درّس التفسير...لكن سرعان ما أغلقتها السلطات الفرنسية لعدم امتلاكها الرخصة في 31 ديسمبر 1937.

            عادت المدرسة إلى النشاط بعد إطلاق سراح الشيخ الابراهيمي في 1943، وأدى الابراهيمي مهمته رفقة مساعديه وهم الشيخ محمد الصالح رمضان وعبد المجيد مزيان وعبد الوهاب بن منصور...فمثّلت عاصمة العلم والثقافة والإصلاح في الغرب الجزائري ونشرت اللغة العربية والعلوم العربية الاسلامية والفكر الاصلاحي المقاوم للغزو الثقافي الغربي. قامت السلطات الفرنسية بإغلاقها في 29 ماي 1956 وحوّلتها إلى ثكنة عسكرية.

            وفي شهادة الشيخ محمد الصالح رمضان في منزله بالقبة عام 2006 ذكر لنا أجواء الدراسة في هذه الدار الأنيقة واستقبالها لمختلف النشاطات الثقافية والأناشيد والمسرحيات، ففي هذه الدار تمّ استقبال فرقة يوسف وهبي المسرحية التي أدّت مسرحيات هادفة تفاعل معها الطلبة والأساتذة، وقد خلّدت الصحافة الجزائرية آنذاك هذه الزيارة كما أن الشيخ محمد الصالح رمضان قد أصدر كتابا يروي تفاصيل هذه الزيارة ونشاطاتها والقصائد والكلمات التي قدّمها الطلبة والأساتذة الجزائريون ترحيبا وابتهاجا بهذه الفرقة ومنها قصيدته: "برغم العدا نحو قوم عرب". كما أن للشيخ محمد الصالح رمضان كتابا آخر بعنوان: "مدرسة دار الحديث" يتحدث بتفصيل عن نشأة هذه الدار ونشاطاتها علما أنه يعتبر من قدامى تلاميذ الشيخ ابن باديس في الجامهع الأخضر ومن مؤسسي مدرسة دار الحديث والمشرفين على إدارتها رفقة الشيخ البشير الإبراهيمي.

            4- معهد الشيخ عبد الحميد بن باديس:

            افتتح رسميا في أكتوبر 1947 بإشراف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تحقيقا لرغبة الشيخ عبد الحميد بن باديس في إنشاء كلية دينية في الجزائر لتخرج الأئمة والمدرسين على غرار الزيتونة والأزهر والقرويين...لذلك أطلق اسمه على هذا المعهد اعرتافا بدوره في المشروع وفي النهضة الثقافية والتربوية التي عرفتها الجزائر.

            كان مقر هذا المعهد في شارع الفقون بساحة البطحاء خلف المسجد الكبير بقسنطينة، وخصص للمرحلة الثانوية حيث يلتحق به التلاميذ الناجحون في مسابقة الشهادة الابتدائية، وبإمكان من يدرس به ويتخرج فيه أن يسجل في كلية دار العلوم بالقاهرة كما استطاع أن يحصل على اعتراف جامع الزيتونة ومعادلة شهادته فصار فرعا من فروعه لأنه كان يطبق البرنامج نفسه. فكان المعهد يمنح شهادة الأهلية للطلبة بعد دراستهم أربع سنوات، وانطلقت الدراسة بالطلبة الذكور أولا ثم شملت الدراسة الإناث خاصة بعد الخمسينات. أما المواد المقررة فهي القرءان والأخلاق والقواعد والتوحيد والتاريخ والجغرافيا والرسم والإملاء والتجويد واللغة الفرنسية والحساب والهندسة والعلوم الطبيعية، أي 30 ساعة أسبوعيا من الدراسة. وبلغ أساتذة المعهد 15 أستاذا دائما أما المؤقتون والذين كانوا يدرسون العلوم واللغة الفرنسية فكانوا متطوعين.

            وسعى معهد ابن باديس إلى توفير الإقامة للطلبة وسمّاها " دار الطلبة" منذ عام 1948 لكن رغم التوسيعات وبلوغها 4 عمارات كاملة إلا أن مشكل الإقامة ظل قائما وهو ما اضطر الطلبة دائما للإيجار أو المبيت في الحمامات والمقاهي والمساجد، لأن عددهم كان كبيرا: ففي العام الأول بلغ الألف ثم في الموسم الثاني (1948-1949) صار 600 طالب، وفي موسم 1949-1950 انخفض إلى 450 طالب ليرتفع مجددا في موسم 1950-1951 إلى 638 طالبا وإلى 801 طالبا في موسم 1952-1953 إضافة إلى الطلبة المستمعين الأحرار أو المسجلين في الدروس المسائية (95 طالبا). وأمام عجز المعهد عن استقبال الطلبة استعملت المساجد للتدريس مثل مسجد سيدي بومعزة ومسجد سيدي قموش والجامع الكبير...

            ومن الأساتذة الذين درّسوا بالمعهد نذكر مديره الشيخ العربي التبسي ومديره الثاني محمد خير الدين (1950) وأمينه العام أحمد رضا حوحو والأستاذ أحمد حماني وعبد المجيد حيرش ونعيم النعيمي وحسين أحمد هني وعباس بن الشيخ الحسين ومولود نجار...أما بعد عام 1950 فالتحق بلقاسم البيضاوي وجعفري عمر وشرفي علي وبروح أحمد العدوي معطى الله والطاهر حراث ومحمد الحفناوي. توقف نشاط المعهد في 03 سبتمبر 1957 بعد اغتيال عدد من طلبته وأساتذته وحوّلته السلطات الفرنسية إلى ثكنة عسكرية لقوات المظليين.

            وتخرّجت فيه نخبة ثقافية وعلمية ودينية وإدارية وثورية كثيرة جمع بعضا منها الباحث عبد الله مقلاتي في كتابه إسهام شيوخ معهد ابن باديس...

            5- المدرسة الكتانية:

            عُرفت أيضا بالمعهد الكتاني، تأسست في 1947 في قسنطينة في ساحة نيقري رقم 9 برئاسة الشيخ ابن الحملاوي شيخ الزوايا الرحمانية في منطقة واد العثمانية، ويبدو أن تأسيسها كان في إطار المنافسة مع جمعية العلماء االمسلمين التي استطاعت إنجاح مشروعها معهد ابن باديس.

            استقطب المعهد الكتاني الطلبة من نواحي قسنطينة وبلغ عددهم عام 1949 حوالي 120 طالبا، واستطاع الحصول على موافقة جامع الزيتونة ليصبح فرعا من فروعه عام 1952 كما فعل معهد ابن باديس من قبل. واستمر في نشاطه العلمي والثقافي إلى غاية موسم 1954-1955.

            • ملخص عام للدروس

              تتناول هذه المطبوعة المقاومة الثقافية الجزائرية مع بداية القرن العشرين الميلادي للسياسة الاستعمارية الفرنسية متعددة المجالات والوسائل والاستراتيجيات، كما تتطرق إلى مظاهر هذه المقاومة و روافدها وجذورها ورموزها وأعلامها وميادينها ووسائلها المختلفة والمتجددة بحكم طول الفترة الزمنية التي امتدت طيلة نصف قرن منذ بزوغ القرن العشرين الميلادي تقريبا.

              أولا: روافد وعوامل اليقظة والنهضة الجزائرية:

              سنتكلم عن أهم الروافد والعوامل التي وقفت وراء اليقظة والنهضة الجزائرية وشكّلتها وأخرجتها في صورتها المعروفة والتي مثلت مظهرا من مظاهر المقاومة الثقافية:

              1- حركة محمد علي باشا التحديثية:

              كانت حركة محمد علي باشا التحديثية نتيجة للحملة الفرنسية على مصر، حيث خلفت هذه الحملة صدمة حضارية كبرى لدى المشارقة جعلتهم يوقنون بأن التطور والتحديث على النمط الغربي هو أسرع طريق لمواكبة العصر، وقد اتخذ محمد علي باشا هذا شعارا وبرنامجا لدولته، وبشّر المثقفون والكتاب وأصحاب السياسة وأذاعوا التطور الحاصل في دولته. ولعل من ثمار حركة التحديث في مصر إرسال البعثات العلمية والطلابية إلى فرنسا وإصدار رفاعة رافع الطهطاوي لكتاب ضمّ رحلته إلى باريس سمّاها "تخليص الإبريز" دعا فيه هذا العالم الديني إلى النظم الديمقراطية والاهتمام بالتربية والتعليم والمرأة.

              2- دور مصر: لقد برز دور مصر من خلال عدة عناصر يمكن إيجازها كالتالي:

              2-1- جامع الأزهر:

              كان الجزائريون في طريقهم للحج يزورون أبناء بلدهم في مصر وينزلون في الأزهر طلبا للعلم والإجازة أو البركة، ومع مطلع القرن العشرين صارت أخبار الطلبة الجزائريين هناك معروفة مشهورة، وحذّرت التقارير بأن عددهم في مصر أكبر من عددهم في المدارس الفرنسية الإسلامية بالجزائر.

              2-2- محمد عبده:

              وصلت أفكار الشيخ محمد عبده وتجديداته إلى الجزائر عبر تونس وعبر الصحافة وعبر الجزائريين العائدين من الحج ثم جاءت زيارته إلى الجزائر في 1903 لتبرز قوة أنصاره وتزيد من تكتلهم وتعلي من دعوتهم وصوتهم.

              وقد جعل بعض الجزائريين الشيخ محمد عبده رئيسا شرفيا لجرائدهم مثلما هو الحال مع جريدة (المغرب) كما أنهم راسلوه كثيرا، وبعد وفاته بقوا على اتصال مع تلميذه الشيخ محمد رشيد رضا ومجلته المنار وأتباعه الآخرين أمثال شكيب أرسلان، ومظاهر التأثر والتعلق كثيرة على الإحصاء.

              وكتب الشاعر والأديب الإصلاحي الهادي السنوسي عن دور مصر في النهضة الجزائرية:" ومن منا معشر الجزائريين من لم يفتح عينيه منذ انتهت الحرب الكبرى على آثار مدرسة اسماعيل صبري وحافظ وشوقي وطه حسين وأحمد أمين والمنفلوطي والزيات من أفراد الرعيل الثاني، أقول الثاني لأنهم سبقوا بطبقة الشيخ محمد عبده وعبد العزيز جاويش وطنطاوي جوهري وعلي يوسف والمرصفي" ثم يذكر بعض الصحف المصرية ذات الأثر الكبير: "فكانت الهلال والمقتطف والمنار هذه الثلاثة على الخصوص رسل النهضة الأدبية الشرقية إلى الشمال الافريقي وكان أساتذتنا يتخيرون لنا من منظومهم ومنثورهم ما يؤثروننا به لتثقيف عقولنا وإصلاح ألسنتنا وتبصيرنا ما تجود به أفكار المدرسة الحديثة في عالم الغرب".

              فتأثير مصر شمل مختلف مجالات الحياة الثقافية (الأدب، القصة، الشعر، النثر، الاذاعة، الغناء، المسرح، الصحافة، التفسير، الفلسفة، التاريخ...

              3- تونس:

              إذا ذكرت تونس ينصرف الذهن إلى جامع الزيتونة وهو أمر صحيح فيما يتعلق بتأثيرها على اليقظة والنهضة في الجزائر، وذلك بحكم قربها الجغرافي والتاريخي والثقافي والاجتماعي من الجزائر.

              وقد بلغ عدد الطلبة الجزائريين في تونس بداية الثلاثينات حوالي 200 طالب مسجل ليبلغ 1500 طالب عام 1952.

              ونظرا لقوة هذا العدد وتفاعله مع مختلف شؤون الحياة في تونس أنشأ الجزائريون عدة جمعيات لهم أشهرها جمعية الطلبة الجزائريين الزيتونيين كما ساهموا في نشاطات جمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين(نوفمبر 1927). ومن المفيد أن نذكر في قائمة سريعة بعض الرواد الأوائل من الطلبة ممن لمعت أسماؤهم في عالم الشريعة والفكر والثقافة والأدب أمثال الشيخ عبد الحميد بن باديس والعربي التبسي ووزهير الزاهري والسعيد الزاهري وأبو اليقظان ومفدي زكريا ومحمد خير الدين ومحمد الهادي السنوسي والأمين سلطاني وعبد اللطيف سلطاني ومحمد العيد آل خليفة واحمد سحنون ونعيم النعيمي وأبو القاسم سعد الله... بل إن الميزابيين شكلوا بعثات علمية إلى تونس منذ 1914 وفي 1916 و 1922 ...بلغت مئات الطلبة.

              4- دور الحجاز:

              شكلت الرحلة الحجية عبر العصور الإسلامية مناسبة دينية وثقافية تعود بالنفع والجديد على الجزائريين يجددون فيها العزم والارتباط بأصولهم وعقيدتهم، كما نلاحظ بأن الجزائريين قد تعاطفوا – أول الأمر- مع الحركة الوهابية والملك ابن سعود ودولته باعتبارها في – اعتقادهم- أنها ستمثل دولة إسلامية في جميع مناحي الحياة، لذلك تفاعلوا مع ابن سعود وتوسعاته في شبه الجزيرة وأخباره وإصلاحاته، يقول الشيخ البشير الإبراهيمي:" وللمغفور له الملك عبد العزيز آل سعود عاهل الجزيرة العربية مكانة سامية في نفوس المصلحين بالجزائر لما اشتهر به من إقامة حدود الله والقضاء على البدع والأضاليل وإحياء السنة النبوية".

              4- دور الصحافة الأجنبية:

              نالت الصحافة الفرنسية حصة الأسد في الجزائر المستعمرة من حيث القوة والوفرة والتأثير والدعم الرسمي لها، فغالبية شباب النخبة الجزائرية كان يكتب ويتفاعل معها ويتكوّن منها وفيها ويستقي منه معلوماته ومعطياته وآرائه في انتظار تشكل صحافة وطنية خاصة به، وهو الأمر الذي لم يطل بعد ذلك، إذ تعتبر فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى فترة انتعاش هذه الصحافة الوطنية التي ولدت من المعاناة والاغتراب الحضاري والفكري الذي عانت منه هذه النخبة بطرق مختلفة.

              من جهة أخرى ساهمت الصحافة العربية الأجنبية في اليقظة والنهضة الجزائرية مساهمة فعالة على عدة جوانب فشكلت غذاء فكريا للجزائريين المحرومين من لغتهم وتراثهم وصلاتهم بأمتهم العربية والإسلامية كما وفّرت لهم ميدانا للكتابة والتعبير عن مطالبهم وآمالهم وإثبات أنهم لا زالوا على عهدهم وهويتهم إضافة إلى تنوير الجزائريين واطلاعهم على الأخبار الدولية والقضايا المطروحة للنقاش والتي كانت الإدارة الفرنسية تصبغها بصبغتها أو تحجبها عنهم في صحافتها.

              أما أكثر الجرائد والمجلات الأجنبية تأثيرا فهي المنار للشيخ محمد رشيد رضا والفتح لمحب الدين الخطيب، وقد كان أغلب المثقفين والادباء يقرأون هذين الجريدتين الخطيرتين في عالم السياسة والادب والفكر، كتب أبو اليقظان عن "الفتح":" ولو عرفها الناس حق معرفتها وقدروها حق قدرها لما خلا منها مكتب عالم ولا منضدة محام ولا محفظة تلميذ ولا خزانة طبيب ولا ملف موظف".

              ومن الملاحظ أن الجزائريين لم يكتفوا بدور المتلقي لهذه الصحف والمجلات بل ساهموا فيها وتفاعلوا مع نقاشاتها، منهم عمر راسم وعمر بن قدور اللذين راسلا تونس ومصر واسطنبول والشيخ الطيب العقبي الذي كتب في جريدة القبلة وأشرف على تحريرها كما كتب العقبي رفقة الأمين العمودي في جريدة "العصر الجديد" التونسية. وعيّن العقبي وكيلا له في تونس ليشرف على طباعة جريدته "الإصلاح" ويرسلها له إلى بسكرة.

               ثانيا- شخصيات جزائرية مساهمة في المقاومة الثقافية:

              من العسير فعلا تتبع جهود الشخصيات الجزائرية المختلفة التي ساهمت في المقاومة الثقافية عبر مراحلها الطويلة واشكالها ومظاهرها المتعددة (محافظة، مقاطعة، يقظة، نهضة، إصلاح، تحديث، اصطدام...) خاصة أن هذه المقاومة كانت باللغتين العربية والفرنسية وبوسائل يصعب تتبع بعضها إن كان أثرها نفسيا معنويا أدبيا، ولكننا سنحاول تركيز البحث على المحاولات والمبادرات الأولى قبل أن تصبح المقاومة الثقافية فعلا واسعا وعاما. من هذه الشخصيات نذكر:

              1- عبد القادر المجاوي:

              ولد الشيخ عبدالقادر بن عبد الله بن محمد الحسني الجليلي المجاوي التلمساني في تلمسان عام 1264هـ الموافق لـ 1848م بتلمسان، في عائلة علم ودين وقضاء، فوالده فقيه وقاض معروف، امتهن القضاء بالجزائر ثم بطنجة بالمغرب بعد هجرته إليها.

              - الإسهام التربوي و الثقافي والعلمي للشيخ عبد القادر المجاوي:

              أ- التعليم:

              عاد الشيخ عبد القادر إلى الجزائر بين سنتي 1869 و 1870م ، فعيّنته بعد حوالي ثلاث سنوات 1873م واعظا بجامع سيدي الكتاني بقسنطينة، مما أتاح له نشر فكره الأصيل واعتزازه بالحضارة الإسلامية واللغة العربية وهويته الجزائرية للعامة من الناس، وربما عيّنته الإدارة الفرنسية بعد ذلك مدرسا بالمدرسة الفرنسية الإسلامية (الشرعية) بقسنطينة في 1878م لعزله عن الناس أو لإنجاح مشروع المدارس الإسلامية واستقطاب الجزائريين النافرين منها. وقد أسندت إليه الدروس الشرعية واللغوية في هذه المدرسة.

              وبعد انتقال الشيخ المجاوي للتدريس بالمدرسة الفرنسية الإسلامية بالجزائر المعروفة بالثعالبية عام 1898م  ازداد نشاطه وإشعاعه في مجال الإصلاح والتربية والتعليم، فدرّس طلبة القسم العالي (الدراسات العليا) واستطاع أن يقيم توازنا خفيا في المدرسة ضد التيار الاستشراقي الضارب بقوة فيها، والذي رعته الإدارة الاستعمارية بحكم قرب المدرسة من دوائر السلطة (الحكومة العامة).

                     وإضافة إلى مهمة التدريس أوكلت إلى الشيخ المجاوي مهمة الإمامة والوعظ بمسجد سيدي رمضان ابتداء من سنة 1908م .

              ب- الإصلاح الديني والاجتماعي والفكري لدى الشيخ المجاوي:

              بغض الطرف عن تدريسه ووعظه وإذا ما اكتفينا بكتابه إرشاد المتعلمين الذي طبعه عام 1877 بالقاهرة، فإننا نُقرّ للشيخ المجاوي بأسبقيته في مجال الإصلاح الديني والتعليمي والاجتماعي في ظروف تسودها سياسة استعمارية تقوم على طمس الدين واللغة والهوية ومسخها وعزل الجزائريين عن العالم العربي والإسلامي.

              فالشيخ المجاوي يُعد حلقة رابطة بين جيلين من العلماء والمصلحين الجزائريين، جيل الشيخ محمد بن الكبابطي والشيخ مصطفى بن العنابي... الذي واجه الفرنسيين غداة احتلالهم الجزائر ثم جيل النهضة واليقظة والحركة الإصلاحية التي انطلقت مع القرن العشرين وتزعّمها تلاميذ المجاوي وتلاميذ تلاميذه. ويصوّر لنا المؤرخ الجزائري أبو القاسم سعد الله حالة قسنطينة قبل وصول الشيخ المجاوي إليها قائلا:"...وهكذا جفّت ينابيع العلم الحر وغاضت بحور الفكر، وكاد هذا الليل الطويل ألا ينجلي لولا نفحة هبّت من الغرب ونعني بذلك حلول عبدالقادر المجاوي للتدريس في أحد المساجد بقسنطينة...".

                     وفي المجال الاجتماعي دعا الشيخ المجاوي تلاميذه وقومه إلى التماشي مع روح العصر وخصص كتبا منها ما يتعلق بشؤون المرأة، ومنها ما يتعلق بالاقتصاد والمعاش والصنائع، كما ألح على طلب العلم، فمثلا كتب في كتابه إرشاد المتعلمين قائلا:"...ولقد ساءني ما رأيت في هذا الزمان من فتور المعلمين والمتعلمين حتى أن أهل قطرنا من إخواننا المسلمين القسنطينيين والجزائريين والوهرانيين قد تراكم عليهم الجهل...".

              ورأى أن على المتعلم أن يتعلم ما يفيده من علوم الدين والدنيا: القرءان الكريم، الحديث النبوي، علم الفرائض، علم الفقه، علوم العربية، المنطق، علم الطب، علم الكتابة، الحساب، الهندسة، الزراعة، المساحة، الجغرافية، الهيئة، علم الرماية، السباحة، الفروسية، وغير ذلك من العلوم.

                   وقد استفادت النوادي والجمعيات الجزائرية من نشاط ومحاضرات الشيخ المجاوي التي كان يلقيها والمركزة على التقدم والاعتزاز باللغة العربية والدين الإسلامي والأجداد، منها نادي صالح باي والرشيدية..

              د-دور الشيخ المجاوي في الصحافة:

              سعى المجاوي إلى نشر أفكاره الإصلاحية الهادئة عبر الصحافة العربية ومن المحتمل أنه تجنب النشر في جريدة "المبشر" الناطقة باسم الإدارة رغم صدورها باللغة العربية، فقد كتب مقالا عام 1902 في جريدة "المنتخب في مصالح المغرب" الصادرة بقسنطينة منذ 1882.

              ومن ناحية أخرى سعى تلميذه الشيخ كحول إلى نشر محاضراته التي كان يلقيها في النوادي والجمعيات عبر جريدته كوكب أفريقيا( أكثر من 20 مقالة)، وكذلك فعلت جريدة المغرب عام 1903 (7 مقالات أو محاضرات). ومن هذه المقالات نذكر: مشاهير العرب الذين تضرب بهم الأمثال، العلم، العادة، الطب العربي قبل الإسلام، التربية، شهر المولد النبوي، الكبر والعجب، تعليم الأطفال، سلامة الإنسان في حفظ اللسان...

              هـ-التأليف:

                    يُعد الشيخ عبدالقادر المجاوي من القلائل الذين جمعوا بين التعليم والتأليف، فقد ألّف في أغراض متنوعة وبأسلوب متين متخصص، وأغلب مؤلفاته موجهة بالأساس إلى تلامذته في المدرسة الفرنسية الإسلامية(الشرعية) في مجال العلوم الشرعية واللغوية، فيبدو وكأنه يضع مقررات للدراسة، ونذكر منها:

              1- إرشاد المتعلمين: طبعه في القاهرة عام 1877.

              2- القواعد الكلامية: وهو في علم الكلام، طبعه في عام 1911 في مطبعة فونتانا.

              3- تحفة الأخيار فيما يتعلق بالكسب والاختيار: وهو في علم الكلام.

              4- الفريدة السَنية في الأعمال الجيبية: طبعته إدارة مدرسة الثعالبية في مطبعة فونتانا بالجزائر في 1904، وهو في علم الفلك موجه للتلاميذ.

              6- شرح منظومة ابن غازي في الوقت:  في الفلك. ألفه في قسنطينة وطبعه بها

              7- اللُّمع على نظم البدع: وهو شرح لمنظومة تلميذه وزميله الشيخ المولود بن الموهوب. طبعها عام 1330هـــــــ الموافق لعام 1912 بمطبعة فونتانا بالجزائر.

              8- الإفادة لمن يطلب الاستفادة: طبعه في الجزائر عام 1901.

              9- كشف اللثام عن شواهد قطر ابن هشام: في النحو، انتهى من تأليفه عام 1295هــــ الموافق لعام 1878 ميلادية، وطبعه في قسنطينة.

              10- شرح نظم المجرادية الجمل: طبعه في المطبعة البونية عام 1894.

              11- الدُرر النحوية على المنظومة الشبراوية: طبعه في الجزائر في عام 1907 بمطبعة فونتانا، وهو في النحو.

              14- المرصاد في مبادئ الاقتصاد: وهو في الاقتصاد.

              - محمد بن رَحَّال:

              ولد محمد بن الحاج حمزة بن رحال في 16 ماي 1857، والده هو آغا ندرومة(تلمسان)، ولد في عائلة علمية ومالية معروفة خرّجت القضاة والمعلمين، فوالده تولى العدالة الشرعية في تلمسان ثم القضاء على منطقته ندرومة في دولة الأمير عبد القادر الجزائري، كما عيّنته السلطات الفرنسية بعد ذلك آغا ندرومة. درس محمد بن رحال في المدرسة القرآنية ثم بالمدرسة الابتدائية الفرنسية العربية ثم في كوليج دي فرانس بمدينة الجزائر التي سرعان ما حولت الى ثانوية حيث تخرج فيها، ليلتحق بالجيش مؤقتا ويتركه للعودة إلى بلدته ندرومة في جويلية 1874، عُين خليفة آغا عام 1876 ثم قايد لندرومة بعد وفاة والده عام 1879.

              ويبدو أن الثقافة المزدوجة لابن رحال وأصالة عائلته وروح المحافظة داخلها وارتباطه بالطريقة الدرقاوية ورحلته الى باريس 1878 كلها عوامل أثرت في دفعه نحو خدمة قومه، فقام بعدة خطوات أولاها استقالته من منصب قايد عام 1884 ودعمه للمطالب الوطنية والعرائض كما دعّم حركة الامير خالد بعد ذلك. ووقف ضد سياسة الإدماج التي كانت الادارة الفرنسية تسعى إلى إنجاحها في الجزائر بضرب الهوية، فكتب محتجا:" هذا الشعب يواصل تمسكه بتقاليده، فهو يأخذ بالأشياء الجديدة من دون أن يقطع صلته بماضيه وخصوصياته". وفي دفاعه عن اللغة العربية والاسلام دافع عن التعليم العربي وابدى ملاحظته بأن التعليم الفرنسي عقيم لأنه لا يدرس للجزائريين بلغتهم كما رأى بضرورة تعليم القرءان الكريم في كل مكان لأنه:"غاية في الإفادة لتهذيب الأخلاق، ومن تعاليمه أنه يحترم الأبوة والشيخوخة".

              وكتب عن واقع تدريس اللغة العربية في المدارس: "ليس هناك سوى في برامج بعض المدارس الأساسية الأهلية ما نسجل حصة نصف ساعة للعربية يوميا، ولا يمتحن فيها في امتحان الشهادة الابتدائية ولكن أيضا لاختفاء المدرسين الأكفاء" موضحا أنه ادّعاء وتمثيل لا أكثر:" هذا الاهتمام بالعربية عبارة عن مظاهر وذكريات وهل يعقل أن يدرس العربية مدرسين فرنسيين أو من الجزائريين الذين تكّونوا تكوينا سطحيا في مدرسة عادية بمعدل اربع ساعات اسبوعيا ولبضع شهور فقط"، كما تطرق الى مشكل عدم تعميم التدريس: "وعلى الرغم من هذه المحاولة الضعيفة فالعربية الابتدائية لا تدرس في جهات أخرى على الرغم من أن هذه اللغة تعد لغة الأمومة بالنسبة لملايين السكان المسلمين، وإذا كانت حاجتنا لا بد منها للمدرسة الفرنسية فإنها لا يمكن أن تكون بديلا أبدا للسان الأهلي".

              وفي مناسبة أخرى يكتب ابن رحال مدافعا ومذكرا بأهمية اللغة العربية: "تصوروا شعبا بلا لسان بعبر به عن آرائه واستجلاء أفكار سابقة وتثقيف الفكر وترجمة المشاعر وتطوير النطق والعيش والتقدم؟ إن هذا غير مقبول لأن اللغة هي أداة التكوين الفكري والثقافي".

              وبالنسبة لرؤيته للإسلام وقضايا التجديد والنهوض ورغم انخراطه في الطريقة الدرقاوية التي قد يكون لجوؤه إليها بحثا عن الاطمئنان والهروب من الزحف التغريبي المادي الفرنسي الذي اقترب منه، إلا أنه دعا الى تجديد الفهم للإسلام ورسالته المتجددة وتنقيته مما لصق به من انحرافات وخرافات وإعمال العقل والنقد:" إن الذي يعطل المجتمع الإسلامي اليوم هو جهله العميق ليس فقط جهل الفنون والعلوم الراهنة بل أيضا جهل أشياء كثيرة من دينه ما عدا بعض الممارسات الخارجية وبعض الاعتقادات الاساسية، فالديانة تحولت إلى مجموعة من الأغلاط والأحكام المسبقة وانحرافات، وأن كل ما يأتي من الخارج هو موضوع لحذر غير مبرر وتحريمات طائشة ومجادلات لا قيمة لها".

              ويلخص ابن رحال الحل لتطور العالم الاسلامي وتشرذمه بقوله: " إن الدول الإسلامية متأخرة ومجزأة لكن انتشار التعليم يجعلها تستعيد مكانتها".

              لقد أثارت آراء ابن رحال حول تطوير التعليم وإصلاحه في الجزائر ردود فعل معارضة، نذكر منها تصريح المدعو سيباتيه " إن ابن رحال يريد أن يبين أنه لتوطيد تفوق الفرنسية في الجزائر من المفيد تطوير تعليم اللغة العربية، إن هذا المذهب مضاد بصورة مطلقة لكل تعليم في التاريخ، عندما تريد أمة ان تصل لتسريب حضارتها إلى امة أقل تطورا فإن ذلك يكون بنشر لغتها التي يجب أن تربط بها للحصول على هذه النتيجة".

              - إسهامه ونشاطه الثقافي:

              مثّل ابن رحال نموذجا مضيئا للمزج بين الحضارتين الشرقية والغربية أو التمسك بالأصالة في مقابل الانفتاح على الجوانب الفكرية والمادية للحضارة الغربية، وذلك بفضل نشأته الدينية والوطنية من جهة وتكوينه الثقافي القوي واعتزازه بماضي عائلته ووطنه، فكتب في إحدى المناسبات:" ...صحيح أنه لا يجب أن نقبل كل ما تمنحه لنا الحضارة بعيون مغمضة فكثير من الأشياء التي لا تحسد عليها يمكن أن تترك دون كبير أثر، ولكت يمكننا بالمقابل أن نستعير عددا كبيرا من منتجاتها دون خطر بل بفائدة وعلى حسابنا الخاص، وتستطيع أن تتبنى كل ميدان العلوم البحتة وجزءا هاما من التنظيم الداخلي والسياسي ونظام الأشغال العمومية والتعليم وكل ما يتعلق بالتجارة والزراعة والصناعة دون تعديلات كبيرة، فلا شيء يخالف في العقيدة بل بالعكس أنه يحثه أو يفرضه".

               فساهم ابن رحال أيضا بالخطابة والكتابة والمحاضرات والشكاوي والعرائض في التنديد بالواقع الاجتماعي والتربوي والثقافي، ويمكن أن نجمل أهم نشاطاته العلمية والثقافية وحتى في الكتابة التاريخية والترجمة في إنجازاته التالية:

              - ملاحظات حول تعليم الأهالي (مخطوط)، 1886.

              - دراسة حول تطبيق التعليم العمومي في البلاد العربية، 1887.

              - تاريخ السودان (مالي) في القرن 16. ترجمة إلى اللغة الفرنسية.

              - تاريخ ندرومة، من تأليف والده (لعلها ترجمة أو نشر).

              - تاريخ بني سناسن.

              - محاضرة في مؤتمر المستشرقين بباريس بعنوان:"مستقبل الاسلام" 1897: حيث دافع فيها عن الجانب الاجتماعي والأخلاقي في الحضارة العربية الاسلامية، ومما ورد في محاضرته:" لنرى التخريب الذي سببه تفكيك الأسرة، انحراف الأخلاق، الإدمان تحديد النسل، المضاربة في البورصة، الإجهاد في العمل، الإفراط في الثروة، التطرف في اللهو، الإفراط في الانغماس وإطلاق العنان للأهواء والشهوات، الإفراط في الحرية...كلها مظاهر تؤدي بنا لنسأل أنفسنا من هو الأكثر مرضا الحضارة الاسلامية أو الغربية؟ ألا يمكننا اعتبار الاسلام يحافظ على نفسه؟".

              - محاضرات أمام علماء جامعة القرويين بالمغرب بدعوة من المقيم العام الفرنسي بالمغرب.

              كل هذه النشاطات والإسهامات جعلت أثره كبيرا في عالم الثقافة والسياسة والنهضة، كما أن كثرة شهادات كبار رجال العلم والثقافة والسياسة تعكس أهميته، كتب عنه المؤرخ أبو

              3- محمد بن العربي (1850-1939):

              انتقل إلى باريس حيث نال شهادة الدكتوراه في الطب عام 1884 ليصبح أول جزائري يحصل على شهادة الدكتوراه، أتقن لغات أخرى إلى جانب العربية والفرنسية وانفتح على الحياة الثقافية في فرنسا وكان من أصدقائه الأديب الفرنسي المعروف فيكتور هيقو.

              طالب محمد بن العربي من لجنة التحقيق البرلمانية عام 1892 إلغاء القوانين الاستثنائية واحترام القضاء الإسلامي والتعليم باللغة العربية...وعارض إلغاء المحاكم الشرعية رفقة صديقه ابن رحال عام 1891 وقادا حركة احتجاجية واسعة لأجل ذلك، انتخب عضوا في المجلس البلدي عام 1888. توفي في أكتوبر 1939.

              4- محمد بن مصطفى بن الخوجة:

              عُرف عن الشيخ محمد بن مصطفى بن الخوجة تحمسه للإصلاح الديني والنهضة والتطور فكان من مستقبلي الشيخ محمد عبده في زيارته الى الجزائر ومن ملازميه خلالها. وعرف عنه أيضا دعوته الى الاهتمام بالمرأة تربية وتعليما وتكوينا وحقوقا، وقد ألّف كتابا في ذلك يعد سبقا فكريا في البلاد العربية وهو " الاكتراث لحقوق الإناث" عام 1895، كما ألّف كتابا آخر هو "اللباب في أحكام الزينة واللباس والحجاب" عام 1907.

              5- عمر راسم:

              ولد عمر راسم في مدينة الجزائر في ربيع الاول 1302هـــ/ 1884، درس بالمدارس القرءانية ليعين حزّابا في جامع صفر وعمره لم يتجاوز 12 سنة ثم التحق بالمدرسة الثعالبية التي طرد منها بسبب مشاغباته الفكرية. تعرّف على عالم الطباعة والصحافة بعد تعيينه في المطبعة الرسمية التي كانت تطبع جريدة المبشر، وهو ما أتاح له الانفتاح على السياسة والحداثة والصراع الحضاري القائم.

              من إسهاماته المبكرة تكوينه فرقة مسرحية وغنائية للفن الأندلسي، وفي 1908 اعلن عن اصداره لجريدة "الجزائر" لكنه لم يتمكن من توزيعها لعجزه المالي رغم دعايته الكبيرة لها. كما عمِل عمر راسم مراسلا لعدة جرائد وطنية واجنبية مثل جريدتي "المرشد" و"مرشد الأمة" التونسيتين كما نشر فيهما عدة مقالات، التحق بجريدة "الحق" الوهرانية التي كانت تصدر باللغة الفرنسية ليتولى فيها إدارة وتحرير القسم العربي واستطاع أن يجعله جريدة مستقلة بهذا الاسم، وكان يتولى كل جوانب إخراج الجريدة من كتابة وتحرير وخط وزخرفة وتصفيف بما عرف عنه من مهارة وجمال خط وبراعة في فن المنمنمات في الزخرفة والرسم...ولكن توقفت في 1912.

              وفي عام 1913 أصدر عمر راسم جريدته "ذو الفقار" التي صدر منها 4 أعداد فقط لتتوقف في 28 جوان 1914. تعرض للسجن والقمع ولم يطلق سراحه إلا عام 1923 لينصرف نحو عالم الفن والرسم.

              6- قدور رودوسي:

              ولد قدور رودوسي في مدينة الجزائر عام 1878 في عائبة تجارية تعود أصولها الى قبرص، درس بالكتاتيب القرءانية ثم تعلم اللغة الفرنسية وبحكم ممارسة عائلته للتجارة سافر إلى بلدان كثيرة واطلع على أوضاعها وثقافاتها (تركيا، مصر، الشام...) فقرر إنشاء مكتبة عربية في الجزائر، وهو ما تحقق في عام 1896 برفقة أخيه في القصبة وقد سمّاها الثعالبية تبرّكا بالولي الصالح عبد الرحمن الثعالبي الذي يقع ضريحه غير بعيد عنها. وفي 1903 غيّرت المكتبة مقرها إلى اسفل المدينة وتدعّمت بمطبعة عربية تعد أول مطبعة عربية في الجزائر، ساهمت مساهمة فعالة في عالم الثقافة والنهضة الجزائرية، وكانت بواكير هذه المطبعة هي مؤلفات تراثية جزائرية تعكس عراقة أهل هذه البلاد في الثقافة والعلوم:

              - تفسير القرءان للثعالبي. - البستان لابن مريم. - عنوان الدراية للغبريني. - طباعة المصحف الشريف بخط عمر راسم. - متن الأجرّومية. - متن ابن عاشر.

              7- محمد بن أبي شنب:

              ولد محمد بن أبي شنب في المدية عام 1286هــ/ 1869 في عائلة ميسورة، درس في مسقط رأسه ثم انتقل للدراسة في مدرسة المعلمين ببوزريعة ( مدينة الجزائر) ليتخرج فيها عام 1888 معلما، وبعد تعيينه معلما في المدية عاود استكمال دراسته في جامعة الجزائر وتخرج فيها ليعين أستاذا في المدرسة الرسمية بقسنطينة ثم بالثعالبية بالجزائر بالإضافة إلى مساهمته في التدريس في جامعة الجزائر، تحصل ابن شنب على شهادة الدكتوراه في اللغة والأدب العربي عام 1922 ليلتحق بصفة رسمية أستاذا بجامعة الجزائر جنبا إلى جنب مع كبار الأساتذة والمستشرقين الفرنسيين ابتداء من عام 1924 وإلى غاية وفاته عام 1929.

              إن دور محمد بن أبي شنب في النهضة والمقاومة الثقافية الجزائرية أثار جدلا كبيرا بين من يعتبره مجرد موظف لدى الإدارة الاستعمارية وبين من يعتبر دوره إثباتا واستمرارا للوجود الثقافي الجزائري وإنقاذه من الذوبان والتلاشي أمام حضارة فرنسية قوية مدعومة. فدوره فيما يتعلق بإحياء التراث العربي والإسلامي والجزائري بصفة خاصة دور كبير تعكسه بعض الآثار المادية قبل الأثر النفسي المعنوي الذي حققه بوجوده في المدرسة الشرعية(الثعالبية) وجامعة الجزائر وفي مؤتمرات المستشرقين وهذه أهم أعماله التي خدم بها الثقافة العربية والإسلامية الجزائرية:

              - رسالة دكتوراه حول الشاعر أبي دلامة.

              - كتاب في العروض.

              - ترجمة رسالة لأبي حامد الغزالي" تربية الأطفال".

              - ترجمة نص إجازة الشيخ عبد القادر الفاسي.

              - تحقيق ونشر كتاب البستان لابن مريم.

              - تحقيق ونشر كتاب عنوان الدراية للغبريني.

              - مقالات في مجلات كثيرة.

              - مشاركة في مؤتمرات المستشرقين حول اللغة العربية.

              - اختياره عضوا في مجمع اللغة العربية بدمشق وهذا تأكيد على انتماء الجزائر وأبنائها للبلاد العربية.

              - محافظته الدائمة على لباسه الوطني المتمثل في القندورة والسروال العربي والعمامة.

               9- المولود بن الموهوب:

              وُلد المولد بن الموهوب عام 1866 بقسنطينة، درس على يد والده الذي كان قاضيا ثم على صهره الشيخ محمد المكي الصحراوي والشيخ محمد الدراجي في النحو ثم درس على الشيخ عبد القادر المجاوي التوحيد والحديث والتفسير والمنطق والعروض طيلة اثنتي عشر عاما، عين أستاذا للفقه والعلوم العربية في المدرسة الفرنسية الإسلامية بقسنطينة عام 1895، وقد نال عدة تكريمات وأوسمة تكريما لجهوده في ميدان التربية والتعليم.

              برز الشيخ المولود في الوعظ والتدريس والمحاضرة في مدارس ومساجد ونوادي قسنطينة ونشر في الصحافة ايضا، وقد ربطته علاقة قوبة بأستاذه وشيخه عبد القادر المجاوي الذي كرّمه بأن شرح منظومته  التي ندد فيها بالبدع فأسمى المجاوي شرحه على هذه المنظومة "اللُّمع على نظم البدع". ولابن الموهوب أيضا  نظم لمقدمة ابن آجرّوم وكتاب مختصر الكافي في العروض والقوافي وكتاب تقارير على مسائل وتشاطير مشهورة.

              10- صالح بن مهنا:

              وُلد صالح بن مهنا عام 1840 في قسنطينة أو القل حسب روايات أخرى ولكن المرجح أن أصوله من منطقة القل، درس في الزيتونة ونال درجة التطويع ثم درس بالأزهر ونال شهادة العالمية، ليعود حوالي عام 1890 الى الجزائر ويعين إماما بالمسجد الكبير في قسنطينة كما درّس أيضا بالزاوية الحنصالية، اشتهر ابن مهنا بحربه على البدع والخرافات، وقد قامت فرنسا بمصادرة مكتبته  "التي لا تقدر بثمن" ردا على هجومه المتكرر على أصحاب البدع وبعض الزوايا  وبعض الطرق الصوفية. كما عزلته من الإمامة لبعض الوقت.

              10-1- آثاره:

              - "تنبيه المغترين في الرد على إخوان الشياطين" وهو رد على تقديس الأشراف

              - الفتح الربّاني في الرد على المهدي المغربي الوزاني

              - رحلة أزهرية

              - مناسك الحج

              - إظهار الحق

              - تعاليق على رحلة الورثلاني

              وله أعمال ورسائل أخرى.

              11- محمد السعيد بن زكري:

              وُلد عام 1851 في منطقة القبائل، حفظ القرءان الكريم ودرس علوم اللغة العربية، عمل مدرسا بالجامع الكبير وإماما بمسجد سيدي رمضان بالجزائر، كما عين مدرسا للفقه في المدرسة الثعالبية ليعين مفتيا للمذهب المالكي بالجزائر.

              ساهم ابن زكري في تكوين نخبة ثقافية ودينية وفي تنشيط الندوات والمحاضرات في النوادي والجمعيات والصحافة، عُرف بدعوته لإصلاح الزوايا مما طرأ على بعضها من انحرافات وخرافات وضعف، وألف في ذلك كتابا خاصا: " أوضح الدلائل على وجوب إصلاح الزوايا ببلاد القبائل".

              11- عبد الحليم بن سماية:

              ولد الشيخ  عبد الحليم بن سماية عام 1283هــ/ 1866 بمدينة الجزائر في عائلة تعود أصولها إلى أتراك أزمير، درس بالجزائر على يد الشيخ حسين بوشاشية في حفظ القرءان واللغة العربية والفقه والتوحيد، وعلى الشيخ الطاهر تيطوس درس المنطق والبلاغة، كما درس الحساب والمواريث على صهره الشيخ علي بن حمودة، كما درس على مشايخ آخرين أمثال الشيخ بن عيسى والعلامة محمد المكي بن عزوز وأبي القاسم الحفناوي...

              اشتهر الشيخ عبد الحليم بن سماية بعلمه الغزير وموسوعيته الكبيرة و باعتزازه بهويته الجزائرية وشخصيته، كما حارب كل مظاهر الكذب والبدع والخرافات والنفاق...ودرّس في مواضع محتلف في مدرسة باب الواد علم 1896 ثم بالجامع الجديد عام 1900 كما درّس بالمدرسة الثعالبية الخاصة بالدراسات العليا في علوم الشريعة الاسلامية، وتخرج على يديه كثير من أفراد النخبة الجزائرية، وقد كرّمه الفرنسيون بالأوسمة المخصصة لرجال العلم نظير انضباطه وصرامته رغم أن مواقفه لم تكن لتروق لهم.

              وإلى جانب سعة اطلاعه وانفتاحه على علوم عصره تميّز الشيخ عبد الحليم بتأييده الكبير للحركة الاصلاحية والمدرسة العبدوية، فكان يعتبر نصيره الأول في الجزائر، وفي الزيارة الأولى للشيخ محمد عبده للجزائر في 1904 كان الشيخ ابن سماية هو الممهد و المهندس لها، وقبل ذلك كان أول من درّس كتاب الشيخ عبده "رسالة التوحيد" ومن الساعين لنشر وتوزيع مجلة المنار للشيخ محمد رشيد رضا تلميذ الشيخ محمد عبده، وتحتفظ لنا الوثائق بصورة للشيخ محمد عبده والشيخ عبد الحليم بن سماية بمناسبة زيارة عبده للجزائر، هذه الصورة نشرها وعلّق عليها الشيخ أحمد توفيق المدني.

              وترك ابن سماية إضافة إلى التلاميذ والأنصار والمحاضرات والمواعظ والندوات والنوادر القوية آثارا مخطوطة شكلت استمرارا وامتدادا للثقافة الجزائرية والعربية والإسلامية منها:

              - فلسفة الإسلام (قدّم الفصل الأول منه الى مؤتمر المستشرقين الرابع عشر في 1905 بالجزائر).

              - اهتزاز الأطواد والرُّبى من مسألة تحليل الربا، طبع عام 1911.

              - الكنز المدفون والسر المكنون.

              - رسالة في الرد على شُبَه المُبطلين.

              - أشعار.

              - مقالات صحفية في الأخلاق والاجتماع نشرت في جريدة "كوكب إفريقيا" وجريدة "الإقدام".

              13- عمر بن قدور:

              وُلد عمر بن قدور في مدينة الجزائر علم 1304هــ/ 1886 درس بالكتاتيب والمساجد ثم سافر إلى المشرق لإتمام دراسته وهناك أعجب بالصحافة وعمل مراسلا لعدة صحف تونسية ومصرية وعثمانية، فنشر له مصطفى كامل صاحب جريدة اللواء عدة مقالات لذلك رثاه عمر بن قدور رثاء مريرا بعد وفاته. وفي 1326هــ/ 1908 رجع إلى الجزائر بدعوة من مدير جريدة الأخبار فيكتور باروكاند وكلّفه برئاسة تحرير القسم العربي فيها التي نشط فيها الى غاية 1914، كما أنه أصدر جريدة الفاروق عام 1913 باللغة العربية ونالت شهرة واسعة بفضل شهرته الصحفية، ودعا فيها إلى النهضة والإصلاح والاتحاد...

              وبسبب تأييده لفكرة الجامعة الإسلامية وتحمسه  لها وتأييده المعلن للدولة العثمانية خاصة في الحرب العالمية الأولى اعتقلته السلطات الفرنسية ولم يفرج عنه إلا في 1920، ليعاود نضاله الصحفي وهذه المرة بالاشتراك مع التاجر الميزابي محمد بن بكير فأصدرا جريدة "الصِّدّيق" التي دعت إلى الاصلاح الديني والاجتماعي والاهتمام بالتربية والتعليم واللغة العربية والإسلام...ولكنه سرعان ما تركها حيث في عددها السادس غادرها ليُصدر من جديد جريدته "الفاروق" في شكل مجلة مواصلا رسالته الصحفية والاصلاحية النهضوية، فأصدر منها خمسة عشر عددا لتتوقف في 1921.

              - عبد الرحمن بن الحفاف (1881-1957):

              ولد في عائلة علمية ودينية، فجده ووالده كانا مفتيين للمذهب المالكي بالجزائر، درس بالمدرسة الفرنسية الإسلامية وعرف بثقافته العربية والفرنسية الواسعة، شغل منصب باش عدل لكنه سرعان ما تركه لينتقل إلى دار الحبوس للإشراف على وثائقها. أصدر كتابه "المدخل إلى دراسة الإسلام"  أو" المدخل إلى معرفة الاسلام introduction a l’étude de l’Islam" عام 1921 وطبعه في مطبعة لاتوبوليتو المشهورة واستعان الراسم الشهير عمر راسم لرسم واجهة الكتاب التي هي عبارة عن زخرفة إسلامية جميلة مكتوب في أعلاها "بسم الله الرحمن الرحيم".

              كما أّلف الشيخ عبد الرحمن بن الحفاف عام 1952 كتابا آخر بعنوان " مصادر الحضارة الغربية والعالمية" دافع فيه عن الحضارة الفينيقية (الشرقية عموما) مبرزا فضلها على الحضارة الغربية والعالمية.

              وأصدر كذلك كتابا آخر بعنوان "تاريخ الأبجدية من العصور الأولى إلى يومنا هذا" مبرزا أن جميع الأبجديات الموجودة في العالم ترجع أصولها إلى الأبجدية العربية المعروفة بالأبجدية الفينيقية، وهو رد قوي على أطروحات المدرسة الاستعمارية التي سعت بكل ما تملك لطمس الحضارة والآثار الفينيقية في بلاد المغرب لصالح الحضارة الرومانية.

              كما أصدر رفقة المستعرب الفرنسي المسلم فيكتور سبيلمان كراسة حول إصلاح القضاء فيما يتعلق بالمرأة المسلمة. 

              ثالثا- دور الزوايا و لكتاتيب القرءانية والمدارس في المقاومة الثقافية:

              وإذا أردنا أن نبرز الدور الثقافي الذي ساهمت به الزوايا في الجزائر لمقاومة الاستعمار الفرنسي وجب علينا تفصيل أدوراها ومناطق انتشارها أولا. فبالنسبة لدورها الجهادي الذي تميزت به طيلة القرن التاسع عشر في مختلف المناطق كما رأينا في مقياس المقاومة العسكرية حيث تزعّم شيوخ الزوايا والطرق الصوفية التي تتبعها هذه الزوايا حركة الجهاد: الأمير عبد القادر، موسى بن الحسن الدرقاوي، بوعمامة، بومعزة، الحداد، عبد الحفيظ الخنقي، سي الصادق، فاطة انسومر...أما دورها العلمي فكانت تدرس القرءان الكريم وعلومه وعلوم اللغة العربية، وكان مؤسسوها يراعون عامل عزلتها وجمع أكبر عدد ممكن من الطلبة، وهناك من الزوايا من بلغت مستوى التعليم العالي (الطبقة العليا) بفضل شيوخها ومدرسيها كما سنرى. ومن المواد الأساسية التي كانت الزوايا تدرسها غالبا:

              - القرءان الكريم حفظا

              - علوم القرءان

              - العقيدة (التوحيد)

              - الفقه

              - الحديث الشريف صحيح البخاري ومسلم

              - علوم اللغة (نحو، صرف، بلاغة...)

              ويتم تدريس هذه العلوم في شكل متون ومنظومات وشروح وحواشي مقررة لم تتغير من قرون، ولعل التجديد الوحيد الذي طرا عليها هو إضافة شروح لها أو اختصارات أو حواشي ممن يجدون في أنفسهم مكنة في ذلك من العلماء.

              كانت الدراسة تتم عادة بعد صلاة الفجر إلى الزوال حيث يصلي الطلبة صلاة الظهر ويتناولون وجبة الغداء ويأخذون قصطا من الراحة ليعاودوا الدراسة الى صلاة العشاء، فهو تعليم مغلق إذا صحّ القول. وينتقل الطلبة من مستوى إلى آخر ايتدائي متوسط عالي بعد إلمامهم بهذه المقررات، حيث يقوم شيخ الحلقة بامتحان الطالب حفظا وفهما ليمنحه إجازة شفوية أو مكتوبة بذلك فينتقل إلى الحلقة أو الطبقة أو المساوى الذي يليه وهكذا.

              وفي الوقت الذي اختفت فيه المعاهد العلمية وتراجع عدد الزوايا ومستواها بفعل السياسة الاستعمارية الفرنسية القاسية وكثرة مؤسساتها التغريبية وقوتها ودعمها المادي والسياسي بقيت الزوايا المؤسسة التعليمية والتربوية الوحيدة والأخيرة التي تضمن للجزائريين تعليما دينيا وتربويا محافظة على الدين الإسلامي واللغة العربية والتراث بصفة عامة.

              إن الكثير من الاعترافات والثناء الذي بثّه رجال النهضة الجزائرية والااصلاح في حق الزوايا يؤكد الدور الخطير لها ويذكر به، ففي الوقت الذي انهزمت فيه البلاد عسكريا وماديا وفُقدت فيه المدارس والمعاهد ووقعت المساجد تحت السيطرة والتأميم الفرنسي وحرم الجزائريون من حق إنشاء الجمعيات والنوادي والمدارس وهاجر الكثير من العلماء والنخبة العلمية والطلبة استطاعت الزوايا الحفاظ على عناصر الهوية باللجوء إلى الانغلاق وروح المحافظة على عناصر الهوية (الدين الإسلامي، اللغة العربية، التاريخ، العادات والتقاليد) والتراث العلمي بصفة عامة إضافة إلى دورها الاجتماعي الكبير بالإشراف على الحياة الاجتماعية من زواج وطلاق وعقود وصلح وحل للمنازعات وتنظيم للطقوس الدينية والاجتماعية (زواج، مواسم، جنازات...). يقول أحد المؤرخين الفرنسيين:" بالرغم من أن لهذه الطرق الصوفية صبغة دينية متصوفة فإنها كانت لدورها الاقتصادي والاجتماعي أحزاب سياسية بالإضافة إلى دورها الغامض التصاعدي قد جعلها جمعيات سرية من الدرجة الأولى فقد نظمت حملات دعائية سرية محكمة ضد الفرنسيين بواسطة اتصالات خفية".

              أما رئيس اللجنة البرلمانية الفرنسية التي كلفت بالتحقيق في الجزائر عام 1892 فقد كتب عن أثر هذه المؤسسات في توجيه الشعب الجزائري:" إنهم لا يريدون العمل طبقا لقوانينا وحقوقنا السياسية ولا يريدون أن يتعلموا بتعليمنا ولا أن يستفيدوا من خدمتنا العسكرية، إنهم يطالبون بوضوح وبساطة بالمحافظة على قانون احوالهم الشخصية والمحافظة القوية على تعاليم القرءان ".

              1- زاوية الهامل:

              تأسست عام 1862 على يد الشيخ محمد بن أبي القاسم الذي انتقل إلى منطقة القبائل للدراسة والتربية الروحية ليعود إلى منطقته مقدما للطريقة الرحمانية. وقد استشار الشيخ محمد بن أبي القاسم زعماء المقاومة والجهاد بين سلوكه الجهاد المسلح ضد الكفار أو سلوكه طريق العلم ومجاهدة النفس والتربية السلوكية للأتباع فأرشدوه إلى الثانية، لذلك أسّس زاوية له قرب بوسعادة (100 كم شرق الجلفة) استطاعت استقطاب عدد كبير من أبناء المنطقة (المسيلة، منطقة أولاد نايل عموما) كما ربطت الزاوية علاقات قوية مع زوايا منطقة القبائل بحكم الرابطة الصوفية فكان يدرس بها الطلبة من منطقة القبائل ويتبادل الشيوخ الزيارات والهدايا والتبرعات، ومن ناحية أخرى أدى التزامها بالحياد وابتعادها عن السياسة الى ابتعاد السلطات الفرنسية عن عرقلتها فاستطاعت بفضل ذلك تخريج الحفاظ والطلبة، وأصبحت مع مطلع القرن العشرين من أهم المراكز الثقافية والعلمية الجزائرية خاصة أن من بين شيوخها من اشتهر في الآفاق مثل الشيخ عبد الرحمن الديسي صاحب المؤلفات والمناظرات الشهيرة والمراسلات الكثيرة والشاعر عاشور الخنقي...

              إن دور زاوية الهامل اتسم بعدة سمات:

              - مركز لتعليم القرءان الكريم وعلوم الشريعة.

              - مركز لتعليم اللغة العربية.

              - مركز لنشر التراث العربي والإسلامي.

              - مركز لحماية الشباب من مخاطر الجهل والانحرافات الاجتماعية.

              - مركز لحماية الشباب من التفرنج والإدماج في الحضارة الفرنسية.

              - مركز لتجميع ونسخ الكتب والمخطوطات والمراسلات.

              - مركز للقاء العلماء والشيوخ والطلبة من داخل الجزائر وخارجها، ولا يمكن أن نستعرض قائمة العلماء والشيوخ الذين زاروا هذه الزاوية ويكفي أن نذكر من علماء المغرب الأقصى الشيخ محمد بن الحسن الحجوي ومحمد عبد الحي الكتاني والشيخ أحمد سكيرج في القرن 20م.

              2- زاوية طولقة:

              أسّسها علي بن عمر بداية القرن 19م  وهي زاوية رحمانية ظهرت في واحات طولقة قرب بسكرة، اشتهرت بابتعادها عن الخرافات والبدع واتجاهها للعلم وجمع المخطوطات والكتب حتى لقبت "وحيد الإيالة" وهناك من قدّر عدد المخطوطات فيها بــ 30 ألف مخطوط، وقد تخرّج كثير من الطلبة منها ممن لمعت أسماءهم بعد ذلك في عالم الفقه والفكر والأدب والإصلاح...مولود الزريبي ونعيم النعيمي وفرحات الدراجي واحمد بن العابد العقبي وزهير الزاهري وسعيد الزاهري وعلي بن عمارة البرجي...

              3- زاوية عبد الرحمن اليلولي:

              يعود تأسيس هذه الزاوية الى القرن 17 م في منطقة القبائل، واشتهرت بإقبال الطلبة وخيرة الشيوخ عليها، وقد أشاد الشيخ محمد السعيد بن زكري في كتابه "أوضح الدلائل" الذي دعا فيه إلى إصلاح الزوايا، ولكن هذه الزاوية بالنسبة له شكلت الاستثناء حيث كان نظامها يقوم على:

              - اعتمادها على التطوع والتبرعات من المحسنين والطلبة

              - شيخ الزاوية يتقاضى أجرا ثابتا نظير إشرافه عليها

              - وجود نظام داخلي ومجلس تأديبي دائم ويومي، والعقوبة عادة هي إنجاز الأعمال لفائدة الزاوية أو دفع مبلغ من المال

              - اشتراك الطلبة في أعمال الزاوية من طهي وغسل وتنظيف وجلب المؤرن

              - الاكتفاء بالطعام البسيط لتربية الطلبة على الصبر والقناعة فوجبة الغداء والعشاء هي كسكس الشعير ولمجة من التين المجفف.

              - الدراسة عادة تنطلق من صلاة الصبح إلى صلاة العشاء يوميا.

              - قراءة الحزب الراتب مرتين في اليوم (الصبح وبعد صلاة المغرب).

              الراحة اليومية بين العصر والمغرب والأسبوعية يوم الخميس.

              - يشرف لمْقدّم على النظام الداخلي.

              - لا يغادر شيخ الزاوية زاويته إلا لمدة عشرة أيام في كل شهرين، وينوب عنه في غيابه طالب ذو كفاءة عالية علما وخلقا.

              - يتردد على الزاوية بعض المريدين والضيوف وعابري السبيل من أجل الزيارة والبركة، وهناك من يبقى مقيما بالزاوية لفترة طويلة.

              - الزاوية البكرية في توات (جنوب الجزائر):

              أسّسها الشيخ محمد البكري خلال القرن 19 م، ساهمت في الحفاظ على اللغة العربية والقرءان الكريم وعلومه كما اعتبرت ملجأ لعابري السبيل بدل اللجوء إلى المنصرين الفرنسيين المتربصين بهم، ساهمت أيضا في الإبقاء على الصلات الحضارية والدينية بين الجزائر وإفريقيا من خلال رحلات وزيارات الطلبة والشيوخ إليها.

              تكمن أهمية زوايا توات إضافة إلى الدور التربوي والتعليمي في حفاظها على المخطوطات والآثار العلمية للحضارة الإسلامية بفضل حرص أهلها على النسخ والشرح والاختصار والتحشية والنظم لمختلف الآثار العلمية والدينية والأدبية.

              رابعا- دور الكتاتيب القرءانية والمدارس في المقاومة الثقافية:

              الكُتّاب أو المحْضرة أو المعْمرة أو المسيد أو العْرْبية كلها أسماء لمحل تعليم القرءان الكريم ومبادئ اللغة العربية وهو عادة قرب المسجد أو داخل الأحياء السكنية وفي الأرياف قد تخصص له خيمة معينة. ويُسنَد الأمر إلى شيخ عادة ما يكون حافظا للقرءام الكريم أو نصفه مع اتصافه بالانضباط والصرامة والتفرغ للتدريس. أما التلاميذ فعادة ما يبدأون الدراسة بعد عامهم الخامس يستعملون الألواح الخشبية التي يطلونها بالطين ويكتبون عليها بأقلام من قصب وحبر من صوف محروق يدعى "الدواية" وهي لفظ دارج من لفظة "دواة" الفصيحة. يقوم التلاميذ بتكرار وحفظ ما كتبه الشيخ لكل واحد منهم ثم يتداولون على استظهار ما حفظوه على الشيخ، حيث يبدأ التلميذ عادة من الحروف الألفبائية فالفاتحة فالناس فالفلق إلى أن يختم الحزب الأول فالثاني إلى أن يبلغ ختم القرءان. وإذا كانت الكتاتيب طريقة معروفة في البلاد الإسلامية فإننا يمكن أن نقول بأنه من النادر ألا يدرس الطفل المسلم في هذه الكتاتيب في ظل عدم وجود المدارس الرسمية خاصة أنه يعتبر مرحلة تحضيرية لا بد منها قد تطول إلى أن يصبح عمر التلميذ 20 سنة عندما لا يتمكن من الانتقال إلى زاوية.

              خامسا- التعليم العربي الحر:

              أمام تطبيق فرنسا لسياسة ثقافية استعمارية استهدفت توطيد أركان ومظاهر التعليم الفرنسي واللغة والثقافة الاستعمارية وإضعاف اللغة العربية من خلال منظومة استعمارية محكمة. فظهرت مدارس خاصة بالأهالي لكنها تدرس اللغة العربية بلهجة عامية دارجة خاصة بكل منطقة من المناطق الجزائرية كما سعت إلى نشر اللهجات البربرية وتشجيعها رغبة في ضرب اللغة العربية الجامعة للجزائريين.

              ورغم قرارات المنع والقمع وحالة العوز التي أصابت المعلمين والمستقبل البائس الذي كان في انتظار من يتعلمون في المدارس العربية ويتركون المدارس الفرنسية لم يستسلم الجزائريون فاستمرت الحلقات التربوية والمدارس لتنطلق حملة تربوية كبيرة بعد حالة اليقظة والنهضة التي عرفتها البلاد قبل الحرب العالمية الأولى. فظهرت المدارس العربية تمييزا لها عن المدارس الفرنسية الرسمية، والملاحظ أن بدايتها كانت محتشمة على جميع الأصعدة لكنها استطاعت بلوغ مستوى مقبول بعد عقود من العمل والكفاح واستطاعت تقليد النموذج التحديثي الغربي من حيث التنظيم وتوزيع المواد والمعلمين والجلوس على الطاولات واستعمال الكراريس والدفاتر والسبورة وإجراء الامتحانات واحترام المنهاج واستعمال الكتب...

              تُعتبر المدرسة الصدّيقية التي أسسها عباس حمّانة لأبناء الميزابيين في تبسة عام 1913 أول نموذج للمدرسة الحرة فبرنامجها وطني عربي إسلامي ووسائلها عصرية إلى حد ما، وقد أشاد المفكر مالك بن نبي بها بعد ذلك في مذكراته "شاهد القرن"، ولا شك أنها كانت متأثرة بالمدرسة الخلدونية والصادقية في تونس، وقد حاربتها الشلطات الفرنسية، ويميل الكثير إلى أن مقتل مديرها  وصاحب فكرتها عباس حمّانة بطريقة بشعة لم يكن عفويا وإنما كانت وراءه الإدارة الاستعمارية.

              كما يمكن أن نلاحظ بأن كثيرا من الكتاتيب في المدن وبمبادرة من معلميها الشباب قد تحوّلت إلى مدارس حرة وذلك بإضافة بعض التنظيم والمواد الدراسية التي لا تعدو أن تكون نحوا وصرفا وحسابا

              ومع ازدهار الحركة الإصلاحية في الجزائر تكاثرت هذه المدارس خاصة أنها لم تكن تحتاج عادة إلى رخصة وتنظيم وإنّما إلى مال ومتطوعين ومعلمين اثنين أو ثلاثة فأهذت في الانتشار في مختلف مناطق الوطن. فأسس الشيخ عبد الحميد بن باديس مدرسة حرة في حي أربعين شريفا في قسنطينة بعد رجوعه من الزيتونة عام 1917 وتطور عدد طلبتها من 200 طالبا عام 1917 إلى 300 طالب عام 1936.

              1- مدرسة الإخاء: تأسست في بسكرة عام 1931 بفضل تظافر جهود مجموعة من المعلمين خريجي الزيتونة.

              2- مدرسة الهدى: تأسست عام 1931 بالقنطرة بين الأوراس والزيبان، تأسست على يد جمعيتها المحلية بقيادة موسى بن حمودة ثم موسى بن حفيظ مدعومين في ذلك من النواب والأعيان...

              وقد أولت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الأهمية للتعليم ولإنشاء المدارس الحرة وقدر عدد المدارس الناشطة منها في 1943: 140 مدرسة، أمّا في عام 1951 فقدر ب 125 مدرسة ناشطة حوَت 300 قسم (فصل)، وهناك من يذكر بأن عدد المدارس الحرة التابعة لجمعية العلماء هو 400 مدرسة أشرف عليها 700 معلم ووصل مجموع من درس في هذه المدارس 75 ألف تلميذ، كثير منهم صار معلما فيها.

              وتدعمت المدارس الحرة التابعة لجمعية العلماء بتوحيد مناهجها وتوحيد الامتحانات السنوية وذلك ابتداء من 25 جوان 1947 وتم تحديد مراكز وطنية لإجراء امتحان شهادة التعليم الابتدائي وتم تشكيل لجنة التعليم العليا

              وبذلك أضيف البعد البيداغوجي (العلمي/ التربوي) للمدارس الحرة وصارت لها قيمتها العلمية ومصداقية شهاداتها الممنوحة، خاصة أن الكثير من الطلبة كانوا يتوجهون إلى معهد الشيخ عبد الحميد بن باديس في قسنطينة لإتمام دراستهم باعتباره فرعا من فروع جامع الزيتونة يضمن لهم مستوى التعليم الثانوي أو يتجهون مباشرة إلى الزيتونة.

              وعلى صعيد آخر بدأ مشروع تكوين المعلمين وطبع دروس نموذجية جاهزة للتلقين، كما تم اشتراط حصول المعلمين على شهادة التحصيل من جامع الزيتونة. ومن المفيد استعراض المواد المقررة والحجم الساعي المقرر أسبوعيا حسب المستويات وهي المستوى التحضيري الابتدائي المتوسط.

               وتوجد أيضا مدارس عربية حرة ظهرت وهي مستقلة عن جمعية العلماء تابعة لبعض الطرق الصوفية أو الأحزاب السياسية أو الأحرار أو الجمعيات المحلية وقد كان الهدف دائما هو نشر اللغة العربية ومبادئ الدين الإسلامي والعلوم التراثية والعصرية بما يحافظ على هوية وبقاء الشعب الجزائري. كما توجد المدارس الحرة التي انتشرت في الصحراء وفي منطقة ميزاب وهي لا تكاد تخنلف عن مدراس جمعية العلماء ما عدا مدرسة الحياة التي امتازت بفعاليتها ومستواها المادي والعلمي الكبير، ونعتبر أنها نافست معهد ابن باديس الذي تفوقت عليه من حيث السبق الزمني.

              3- مدرسة دار الحديث:

              افتتحت يوم 27 سبتمبر 1937 بمدينة تلمسان، تعتبر من المدراس الدينية الكبرى في الجزائر. كانت المدرسة تتشكل من طابق أرضي يضم مسجدا للصلاة وقاعة للمحاضرات وخشبة للمسرح أما الطابق الأول ففيه إدارة المدرسة أما الطابق الثاني فضمّ قاعات الدراسة المكونة من خمسة أقسام

              انطلقت المدرسة برئاسة وإدارة الشيخ محمد البشير الابراهيمي، وهو ما يعكس أهمية هذه المؤسسة، وقد تولى التدريس فيها أيضا حيث درّس علم التفسير وموطأ الامام مالك، أما الأستاذ أحمد بن ذياب فدرّس اللغة العربية، أما الشيخ محمد مرزوق درّس التفسير.

              عادت المدرسة إلى النشاط بعد إطلاق سراح الشيخ الابراهيمي في 1943، وأدى الابراهيمي مهمته رفقة مساعديه وهم الشيخ محمد الصالح رمضان وعبد المجيد مزيان وعبد الوهاب بن منصور...فمثّلت عاصمة العلم والثقافة والإصلاح في الغرب الجزائري ونشرت اللغة العربية والعلوم العربية الإسلامية والفكر الإصلاحي المقاوم للغزو الثقافي الغربي. قامت السلطات الفرنسية بإغلاقها في 29 ماي 1956 وحوّلتها إلى ثكنة عسكرية.

              4- معهد الشيخ عبد الحميد بن باديس:

              افتتح رسميا في أكتوبر 1947 بإشراف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تحقيقا لرغبة الشيخ عبد الحميد بن باديس في إنشاء كلية دينية في الجزائر لتخرج الأئمة والمدرسين على غرار الزيتونة والأزهر والقرويين...لذلك أطلق اسمه على هذا المعهد اعترافا بدوره في المشروع وفي النهضة الثقافية والتربوية التي عرفتها الجزائر.

              كان مقر هذا المعهد في شارع الفقون بساحة البطحاء خلف المسجد الكبير بقسنطينة، وخصص للمرحلة الثانوية حيث يلتحق به التلاميذ الناجحون في مسابقة الشهادة الابتدائية، وبإمكان من يدرس به ويتخرج فيه أن يسجل في كلية دار العلوم بالقاهرة كما استطاع أن يحصل على اعتراف جامع الزيتونة ومعادلة شهادته فصار فرعا من فروعه لأنه كان يطبق البرنامج نفسه. فكان المعهد يمنح شهادة الأهلية للطلبة بعد دراستهم أربع سنوات، وانطلقت الدراسة بالطلبة الذكور أولا ثم شملت الدراسة الإناث خاصة بعد الخمسينات. أما المواد المقررة فهي القرءان والأخلاق والقواعد والتوحيد والتاريخ والجغرافيا والرسم والإملاء والتجويد واللغة الفرنسية والحساب والهندسة والعلوم الطبيعية، أي 30 ساعة أسبوعيا من الدراسة. وبلغ أساتذة المعهد 15 أستاذا دائما أما المؤقتون والذين كانوا يدرسون العلوم واللغة الفرنسية فكانوا متطوعين.

              وسعى معهد ابن باديس إلى توفير الإقامة للطلبة وسمّاها " دار الطلبة" منذ عام 1948 لكن رغم التوسيعات وبلوغها 4 عمارات كاملة إلا أن مشكل الإقامة ظل قائما وهو ما اضطر الطلبة دائما للإيجار أو المبيت في الحمامات والمقاهي والمساجد، لأن عددهم كان كبيرا: ففي العام الأول بلغ الألف ثم في الموسم الثاني (1948-1949) صار 600 طالب، وفي موسم 1949-1950 انخفض إلى 450 طالب ليرتفع مجددا في موسم 1950-1951 إلى 638 طالبا وإلى 801 طالبا في موسم 1952-1953 إضافة إلى الطلبة المستمعين الأحرار أو المسجلين في الدروس المسائية (95 طالبا). وأمام عجز المعهد عن استقبال الطلبة استعملت المساجد للتدريس مثل مسجد سيدي بومعزة ومسجد سيدي قموش والجامع الكبير...

              توقف نشاط المعهد في 03 سبتمبر 1957 بعد اغتيال عدد من طلبته وأساتذته وحوّلته السلطات الفرنسية إلى ثكنة عسكرية لقوات المظليين.

              سادسا – دور الجمعيات والنوادي في المقاومة الثقافية

              تُعد الجمعيات والنوادي تنظيما غربيا غريبا عن البيئة الجزائرية والشرقية بصفة عامة وقد ظهر نتيجة لاحتكاك الشرق بالغرب الأوربي والانفتاح عليه في مصر وبلاد الشام، فتكاثرت الجمعيات والنوادي خاصة من طرف المسيحيين العرب أمّا في الجزائر فيمكننا القول بأن الجزائريين قد وجدوا في الجمعيات والنوادي خلايا نشاط سلمي ووسائل فعالة لمقاومة الاستعمار الفرنسي بأقل التكاليف جهدا وتضحية. ومن الضروري الإشارة إلى دور الأوربيين المتعاطفين مع القضية الجزائرية في جانبها الانساني الاجتماعي فقد دون السياسي (الوطني)، ولا شك أن التغيير الهيكلي الحاسم الذي طرأ على المجتمع الجزائري من خلال فرض تفتيت القبيلة والأرض والأسر والارتباط بالمدن الأوربية فتراجع دور الزاوية والجماعة لصالح تنظيمات حديثة كانت على رأسها النوادي والجمعيات.

              وقد ساهم صدور القانون الخاص بالمنظمات والجمعيات في 01 جويلية 1901 في تشجيع الأهالي على انشاء جمعيات ذات طابع غير ربحي، خاصة مع نمو الطبقة المثقفة المتأثرة بالثقافة والحضارة الأوربيتين. في هذه المحاضرة سنحاول رصد أهم الجمعيات والنوادي الجزائرية من حيث النشاط والفعالية والإسهام في عملية المقاومة الثقافية للسياسة الاستعمارية الفرنسية:

              1- الجمعية الرشيدية:

              تعتبر أولى الجمعيات الجزائرية حيث يعود تأسيسها إلى عام 1894 لكن نشاطها بدأ مع عام 1908 برئاسة السيد "سروري" الذي كان يشغل منصب نائب مدير ابتدائية أهلية، وقد ضمت قدماء التلاميذ الأهالي الذين درسوا بالمدارس الابتدائية الأهلية(فرنسية /عربية) في مدينة الجزائر خاصة.

              وبرز نشاطها من خلال تنظيمها لسلسلة من المحاضرات والندوات العلمية والشرعية والتقنية والأدبية لنشر العلم والوعي، ويكفي أن نذكر من الشخصيات التي شاركت في نشاطاتها أعضاء أو ضيوفا ابن بريهمات وابن سماية وابن زكري والمجاوي والحفناوي...

              2- الجمعية التوفيقية: ظهرت عام 1908 في مدينة الجزائر برئاسة الدكتور ابن تهامي، ثم أعيد تشكيلها في 1911 بنخبة أخرى مثل محمد براكني ومحمد صوالح...برز دورها في تنظيم الندوات والمحاضرات العلمية والتاريخية والأدبية والتراثية بهدف التوعية القانونية والصحية والاعتزاز بالذات والتارث وحث الجزائريين على الاهتمام بالعلم كما كان أجدادهم الأوائل.

              - جمعية طلبة مسلمي شمال إفريقيا:

              تُعد ثمرة واتحادا للجمعيات الطلابية في كل من الجزائر وتونس والمغرب الأقصى، وضمّت الطلبة المسلمين في الجامعات الفرنسية، ونشطت في باريس أكثر، والملاحظ أن هذه الجمعية قد اشترطت على أعضائها عدم التجنس بالجنسية الفرنسية وذلك بعد جمعيتها العامة في باريس 28 فيفري 1930.

              برز دور هده الجمعية من خلال مواقفها الثقافية الحاسمة الدائمة والمتجددة، وتمثل مؤتمراتها السنوية فرصة كبيرة لاستعراض نشاطها ومطالبها، أهم هذه المؤتمرات:

              - المؤتمر الأول، تونس، 20-22 أوت 1931:

              - المؤتمر الثاني، الجزائر، 25-28 اوت 1932: احتضنه نادي الترقي تعبيرا على بعده العربي الاسلامي، وقد ترأس فرحات عباس أشغاله، تميز بحضور وتفاعل مختلف الهيئات والمدارس والجمعيات المغاربية والاساتذة والمعلمين والمثقفين وقدامى التلاميذ والصحافة من المسلمين والأوربيين، وجاءت توصياته كالتالي:

              - استعمال اللغة العربية في المدارس الأهلية الحكومية وجعلها لغة رسمية

              - حث الأمة على فتح المدارس العربية

              - مطالبة فرنسا بتنشيط المدارس الأهلية وإعانتها ماديا

              - توجيه الشباب المسلم نحو التخصصات العلمية والاقتصادية والاجتماعية في التعليم العالي

              - الاهتمام باالتاريخ الإسلامي وخاصة المغاربي منه

              - المساواة بين المدرسين في المدارس الفرنسية من حيث فرص التوظيف والأجور والتقاعد

              - المؤتمر الثالث، باريس، 26-29 ديسمبر 1933:

               - المؤتمر الرابع، تونس، 02 اكتوبر 1934:

              - المؤتمر الخامس، تلمسان، 06-15 سبتمبر 1935:

              - المؤتمر السادس، تطوان،

              - المؤتمر السابع، تونس، 25 سبتمبر 1937

              وقد استمرت مؤتمرات ونشاطات هذه الجمعية إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية مواصلة مطالبها ودورها الثقافي والعلمي وحتى السياسي الخفي، خاصة ما تعلق منه بحماية الطلبة المسلمين في الجامعات الفرنسية من أخطار التفرنج والتجنس والتنصير والنضال من أجل فرض اللغة العربية والتراث العربي والإسلامي والافتخار به وفرض تدريس اللغة العربية والتاريخ الإسلامي والقضاء على الأمية الضاربة بقوة في الأوساط المغاربية وتحميل فرنسا كل المسؤولية في ذلك.

              - جمعية العلماء المسلمين الجزائريين:

              تعتبر هذه الجمعية أهم جمعية دينية وثقافية ظهرت في الجزائر في المستعمرة، جمعت شتات العلماء الجزائريين وأنصارهم وأتباعهم بعد أن تزايد عددهم وتعالت الصيحات الداعية إلى تأسيس جمعية للعلماء الجزائريين تكون مرجعا لهم وحامية ومدافعة عن الهوية العربية والإسلامية. ولا يفوتنا هنا الإشارة إلى أن ظهور هذه الجمعية وحتى بروز أعضائها لم يكن غير ثمرة من ثمار النهضة واليقظة التي عرفتها البلاد مطلع القرن العشرين لتُتَرجَم في شكل تجمع علمي وثقافي منظم في 05 ماي 1931.

              ويربط الكثير بين ظهور هذه الجمعية والاحتفالات الصاخبة التي أقامتها فرنسا بمناسبة مئوية احتلالها للجزائر في شكل صحافة ودعاية ومعارض وفلكلور واستعراضات تجوب الشوارع والساحات وإصدار الكتب والمجلات.

              تشّكل المكتب الإداري للجمعية من الشيخ عبد الحميد بن باديس رئيسا ( وقد تعمّد الغياب عن أشغال الاجتماع حتى لا يتهم بالسعي لمنصب الرئيس بل ترك للمؤتمرين مباردة اختياره وتزكيته)، محمد البشير الابراهيمي نائبا له، محمد الأمين العمودي أمينا عاما، الطيب العقبي نائبا له، مبارك الميلي أمين المال، إبراهيم بيوض مساعد، أما بقية الأعضاء فشكلوا الجمعية العامة.

              تمّ اعتماد الجمعية بعد تقديمها طلب الاعتماد والقانون الأساسي لها حيث استطاعت مراوغة الإدارة الاستعمارية بضمها لرجال الزوايا والطرق الصوفية كما أنها أسندت الرئاسة الشرفية لمدير الشؤون الأهلية ميرانت. واحتوى قانونها الاساسي على 63 مادة منظمة لعملها ومحددة لمبادئها وشروط الانتخاب والهياكل...

              وكثفت الجمعية من نشاطاتها وفروعها وأسست شُعبا لها في مختلف نواحي البلاد شمالا وجنوبا شرقا وغربا، وساهمت الصحافة لا سيما بعد إنشائها للبصائر لسانا ناطقا باسمها عام 1935 إضافة إلى مجلة الشهاب التي مثّلت رافدا أساسيا من روافد جمعية العلماء فكريا ومعنويا وحتى ماديا. كما كانت تعقد اجتماعاتها ومؤتمراتها الاستشنائية والسنوية العادية في نادي الترقي بمدينة الجزائر لمناقشة النقاط الطارئة والخطط والمشاريع...

              جعلت الجمعية شعارها "الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا". والملاحظ أنها بعدما اشتد ساعدها وتزايد أعضاؤها وشعبها بدأت في الاصطدام والاقتراب من المحظور الفرنسي خاصة بعد دخولها ونشاطها الفعّال في المؤتمر الإسلامي الجزائري  1936 ثم في منظمة شباب المؤتمر 1937 وفي وفد المؤتمر الإسلامي المرسل إلى باريس، لكن الخيبة التي خلّفها الرد الرسمي الفرنسي مثلت القطيعة والصدام بين الجمعية والإدارة الاستعمارية التي اتهمت الجمعية بدخول السياسة، ويكفي أن نعلم أن القوانين الفرنسية المحاربة لتعليم اللغة العربية والمانعة لدخول الخطباء غير الرسميين للمساجد إنما كانت موجهة أساسا لأعضاء الجمعية الدين سيطروا على المشهد الثقافي والديني والصحفي لدى الأهالي في الجزائر. ويمكن أن نؤرخ للتوتر بين الطرفين بعودة وفد المؤتمر الاسلامي الجزائري من باريس في 1938 والمشادة الكلامية التي تمت بين هذا الوفد والمسؤولين الفرنسيين في باريس الذين هددوا الوفد بأن فرنسا دولة قوبة تمتلك القوة والمدافع وقد ردّ الشيخ ابن باديس عليهم بقوله أن الله أكبر من المدافع، وقد دشنت الجمعية علاقة القطيعة بامتناعها عن إرسال برقية تأييد لفرنسا في الحرب العالمية الثانية كما يعكسه إقدام فرنسا على وضع الشيخ البشير الابراهيمي رئيس الجمعية في الإقامة الجبرية بآفلو ( الأغواط) في الصحراء خلال الحرب العالمية2.

              - أدوار الجمعية ونشاطها:

              برز دور الجمعية في محاربة البدع والانحرافات التي سادت الحياة الدينية وفي نشر التعليم النافع وتجديد مناهجه وطرقه من خلال إنشاء المدارس ونشر الكتب وتكوين التلاميذ والمعلمين، كما شمل دورها المجال الاجتماعي بالدعوة إلى التربية السليمة للنشء ومحاربة مختلف الآفات الاجتماعية والسلوكات المشينة التي ساهم الاستعمار الفرنسي في نشرها بين الشباب الجزائري الذي صار ممزقا بين حضارتين مثلما كتب الفرنسيون أنفسهم. كما شمل دور الجمعية الاعتزاز بالتراث العربي الإسلامي وعناصر الهوية خاصة اللغة العربية والتاريخ الإسلامي. ومن مظاهر تفوق هذه الجمعية وفعاليتها استماتتها في الدفاع عن هذه العناصر بكل الوسائل من عرائض ورسائل وشكاوي ومحاضرات وندوات وتكريمات وإحياء الذكريات وتخصيص أعمدة ثابتة في صحافتها (البصائر) و المؤيدة لها السائرة في ركابها خاصة "الشهاب".

                   تَوَّجت الجمعية نشاطها الكبير في التعليم العربي الحر بعد إنشائها مدارس التربية والتعليم في مختلف مناطق الجزائر بإنشائها معهد الشيخ عبد الحميد بن باديس في قسنطينة الخاص بالمرحلة الثانوية والذي أصبح فرعا من فروع جامع الزيتونة حتى تكون لشهادته قيمة علمية محترمة. فكانت المواد المقررة تخدم الهوية العربية والإسلامية دون التفريط في الانفتاح على العصر. وتخرّج فيه كثير من المعلمين والأئمة والكتاب والادباء ممن خدموا الثقافة والنهضة الجزائرية بعد الاستقلال.

              فالجمعيات المذكورة سابقا تعتبر من أكبر وأهم الجمعيات على المستوى الوطني ولكن العدد الحقيقي للجمعيات يفوق الآلاف ففي كل قرية ومدينة توجد جمعيات ذات اغراض مختلفة (سياسية، اقتصادية، ثقافية، دينية...) كما نلاحظ تضاف أعداد الجمعيات بعد الحرب العالمية الأولى وخصوصا خلال الثلاثينات من القرن العشرين بفعل شيوع الصحافة ودعوات النخبة والتيار الإصلاحي لإنشاء الجمعيات والنوادي خدمة للمجتمع. ويمكن أن نذكر بعض الجمعيات على سبيل المثال لا الحصر:

              - الجمعية التعاونية: الجزائر، 1897

              - الطليعة، 1895: أسّسها الدكتور ابن التهامي وزملاؤه خريجو المدارس الفرنسية، كان هدفها هو تكوين الشباب الجزائري في الرياضة وتوعيته بأهميتها.

              - الجمعية الخيرية:

              ظهرت في 22 ديسمبر 1933 في مدينة الجزائر، كان مقرها قي نادي الترقي ترأسها الشيخ الطيب العقبي وضمّت أعيان العاصمة، جعلت هدفها مساعدة الفقراء والمحتاجين لحمايتهم من عواقب الفقر والخصاصة والإحباط، ولا شك أن رئاسة الشيخ الطيب العقبي لها وإشادة الشاعر محمد العيد آل خليفة الدائمة بنشاطها يشيران إلى وقوعها في فلك حركة الإصلاح والنهضة الشاملة التي عرفتها البلاد، ومن القرائن على ذلك حضور أعلام الإصلاح لنشاطاتها واحتفالاتها وحتى اجتماعاتها، فقد حضر الشيخ عبد الحميد بن باديس بمعية أعضاء من الجمعية لاجتماعها العادي في 02 أفريل 1934، وكانت تستعمل المحاضرات والمواعظ وحفلات الإنشاد...وحظين باهتمام العامة فكان حضور هذه الحفلات والمحاضرات والمناسبات يبلغ أحيانا 5 آلاف شخص.

              من نشاطات الجمعية الجديرة بالذكر عام 1940 تقديمها 400 وجبة غداء و 230 كسوة فقير وتوزيع 72 آلة خياطة، كما أسست هيئة طبية تهتم بطل النساء والتوليد وطب العيون وتوزيع الدواء مجانا، أشرف على هذه الهيئة أطباء جزائريون أمثال علي القاضي و آيت سيد أحمد، الدكتور نور الدين والآنسة فخار في اختصاص طب النساء والتوليد. الدكتور محمد عويشي اختصاص أمراض العيون. وبفضل نشاطها وتبرعات المحسنين بلغت ميزانيتها 4 مليون فرنك، ولعل حكم الأستاذ سعد الله في حق هذه الجمعية مهم جدا إذ يبين لنا أثرها الثقافي والفكري والاجتماعي على المجتمع الجزائري اذ اعتبرها مساهمة في الحركية الثقافية في مدينة الجزائر بما كانت تنظمه من حفلات وأناشيد ومسرح لتمثيل الروايات التاريخية والأدبية التراثية.

              - جمعية النساء المسلمات الجزائريات: تأسست في جويلية 1947 وهي جمعية تابعة لحزب حركة الانتصار للحريات الديمقراطية برئاسة عيسى ماية شنتوف، أما الأمينة العامة فهي حمودة لاليام (نفيسة حمود)، برز دورها في بث الوعي الثقافي والسياسي من خلال تنظيم الندوات والمحاضرات والمسرحيات وتنظيم دورات تكوين في الصحة والتمريض وإصدار دليل تكويني للممرضين. وقد قامت السلطات الفرنسية بحل هذه الجمعية في عام 1955.

              سابعا- النوادي:

              يتشابه دور النادي مع الجمعية إلى درجة التطابق خاصة في حالة المقاومة الثقافية الجزائرية في النصف الأول من القرن العشرين، فعادة ما كان النادي يحمل اسم الجمعية التي يتبع لها، ولكن يقصد به على وجه التحديد مكان الاجتماع والنشاط عادة. فالنادي هو مؤسسة أو هيئة تؤسسها جهة ما رسمية أو شعبية لأغراض سياسية أو ثقافية أو علمية أو مهنية أو دينية... تتولاه مجموعة من المشرفين كإدارة له وفق قانون أساسي منظم لنشاطه يحد نظامه ومبادءه وأهدافه وهياكله...ورغم أن أهداف إنشائه يتم التصريح بها لكن تحديد أهدافه وانتمائه وايديولوجيته يظهر مع سير الحوادث والمواقف والزمن.

              وسنكتفي بالنماذج التالية من النوادي الجزائرية:

              - نادي الرشيدية: ظهر عام 1902 بمدينة الجزائر بفضل االنخبة الجزائرية المثقفة ثقافة فرنسية وهو تابع للجمعية الرشيدية، كان الهدف من تأسيسه هو مساعدة خريجي المدارس الفرنسية من الأهالي وجمعهم.

              - نادي التوفيقية: ظهر عام 1908 بمدينة الجزائر، أسسته النخبة الجزائرية المثقفة بالثقافة الفرنسية وكان الهدف من إنشائه هو نقل المعارف والأفكار والابتكارات الأوربية الحديثة لأبناء الأهالي باعتبار ذلك واجبا أخلاقيا.

              - نادي الشبيبة الإسلامية: ظهر في 1904 أو في 1907 بتلمسان، على يد المعلمين الفرنسيين رغبة في توطيد العلاقات مع الأهالي و التعارف الثقافي، ترأسه منير بورصالي. واستمر في النشاط والتوسع حتى أنه افتتح ناديا أدبيا له أاسندت رئاسته الشرفية للشيخ البشير الابراهيمي منذ 20 أفريل 1936. كما اتخذه الشيخ الابراهيمي منبرا لدروسه الرمضانية في عام 1936 وهو العام الذي كان فيه الشيخ مقيما بتلمسان للإشراف على مدرسة دار الحديث التابعة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين.

              - نادي صالح باي:

              لعل نادي صالح باي في قسنطينة هو أهم النوادي الجزائرية من حيث السبق الزمني والدور الثقافي مطلع القرن العشرين، إذ ظهر حوالي عام 1907/1908 على يد الفرنسي آريب نائب رئيس مجلس عمالة قسنطينة المدعو ابن عابد وأسندت الرئاسة الشرفية للحاكم العام جونار، استقطب النادي النخبة الجزائرية المثقفة ثقافة فرنسية أمثال الشريف بن حبيلس ومحمد بن باديس ومصطفى باش تارزي إضافة الى الشيخ المولود بن الموهوب.

              ساهم هذا النادي في بعث النشاط الثقافي والأدبي والعلمي في مختلف مناطق الشرق الجزائري من خلال أهدافه الشاملة: نشر التعليم- تنظم الدروس في التعليم العام والمهني- التوفيق بين المعمرين والجزائريين- عقد محاضرات علمية وأدبية- تأسيس جمعيات خيرية- الدعوة إلى الأخوة والتعاون والعمل- معالجة الأمراض والآفات الاجتماعية والخلقية- دفع الجزائريين إلى إبراز مواهبهم خاصة الأدبية منها- الدفاع عن حقوق العمال- تأسيس المكتبات للمطالعة- مساعدة الفقراء ومواساة المرضى والضعفاء- ابتعاد النادي عن السياسة.

              - النادي الإسلامي: ظهر في تلمسان عام 1921، تميز هذا النادي بانفتاحه ومساهمته ثقافيا وسياسيا واجتماعيا، كما دعّم نشاط جمعية العلماء المسلمين وكان منبرا للشيخ الابراهيمي إضافة إلى استقباله مؤتمر جمعية طلبة شمال افريقيا المسلمين في جوان 1935.

              - نادي الترقي:

              يعتبر نادي الترقي أهم ناد جزائري ظهر خلال الفترة الاستعمارية لعوامل كثيرة على رأسها عدد أعضائه ومكانتهم العلمية والاجتماعية والسياسية والدينية وتنوع انتماءاتهم المذهبية والاجتماعية والجغرافية، وكذلك للأدوار التي ساهم فيها منذ نشأته، وباعتباره أيضا ملتقى ومقر نشاطات كثير من الهيئات والجمعيات والنوادي، بل ان كثيرا منها تأسس في رحاب نادي الترقي إضافة الى أن وجوده في مدينة الجزائر منحه هذه الأهمية والحضور.

              تأسس النادي في 03 جويلية 1927 على يد أعيان مدينة الجزائر المحبين للثقافة والنهضة والإصلاح أمثال محمد بن ونيش ومحمد بن مرابط وحمدان مناصلي ابراهيم موهول بن علي...تشكل المكتب التنفيذي له من أعيان العاصمة، كان مقره في الطابق الثاني في عمارة مقابلة للجامع الجديد في ساحة الحكومة (البطحاء/ ساحة الشهداء).

              أهدافه:

              - الإشعاع الديني والثقافي.

              - الحوار في قضايا الأدب والسياسة والعلوم.

              - دعم وتنشيط وتوجيه التعليم العربي.

              - مقاومة سياسة التجنيس والادماج والتنصير.

              - محاربة الآفات الاجتماعية.

               وقد كتب المؤرخ المتخصص في حركة الإصلاح بالجزائر الأستاذ علي مرّاد بأن نادي الترقي مثّل خلال فترة ما بين الحربين العالميتين:'' منبرا سياسيا وثقافيا حقيقيا للشعب الجزائري''.

              أمّا أحمد توفيق المدني الذي كان أحد الفاعلين فيه ومن المؤسيين له فكتب:" لا يوجد أي ناد في افريقيا الشمالية قام بمثل ما قام به نادي الترقي".

              - هيئات ومؤسسات جزائرية تأسست في نادي الترقي أو عقدت نشاطاتها واجتماعاتها فيه:

              - جمعية العلماء المسلمين الجزائريين: مقرها بين 1931-1946

              - الجمعية الخيرية: مقرها الدائم نادي الترقي

              - مولودية الجزائر:

              - مجلة التلميذ: مقرها نادي الترقي

              - البصائر: مقرها نادي الترقي

              - جمعية مقاومة الكحول: مقرها نادي الترقي

              - فكرة إنشاء الميتم الإسلامي.

              - جمعية الفلاح : مقرها نادي الترقي

              - فكرة إنشاء الكشافة الإسلامية الجزائرية

              - جمعية الزكاة: مقرها نادي الترقي

              - مقر الاتحاد العام للتجارة الجزائرية

              - مقر لمنظمة شباب الموحدين

              - مقر للمؤتمر الإسلامي الجزائري

              - مؤتمر جمعية طلبة شمال افريقيا المسلمين جوان 1935

              - المحاضرات والزيارات الأجنبية والوطنية

              - فكرة تأسيس مجلس اسلامي أعلى ردا على قضية فصل الدين عن الدولة

              - مقر جبهة الدفاع عن الحرية واحترامها

              - مقر لجنة إغاثة فلسطين.

              تاسعا- الصحافة:

              - صحيفة المنتخب: صدرت في 23 افريل 1882 باللغتين الفرنسية والعربية في قسنطينة، صاحب امتيازها هو الفرنسي موراس، أما من التف حوله من الجزائريين ودعموها فهم نخبة قسنطينة واعيانها أمثال: أحمد بن بريهمات، المكي بن باديس وابنه حميدة بن باديس، زين العابدين بوطالب، الشيخ عبد القادر المجاوي...

              وتعتبر من الجرائد الداعمة للثقافة الجزائرية ولكنها حسب سعد الله ليست جريدة جزائرية ولا مظهرا من مظاهر المقاومة الثقافية بل هي وسيلة مبكرة اهتدى اليها أعيان ونخبة قسنطينة.

              - الحق: يمكن اعتبارها أول جريدة جزائرية من حيث إدارتها وخطها وتوجهها، صدرت في وهران في 2 مارس 1894، كانت تصدر في ثلاث صفحات صفحتين باللغة الفرنسية والصفحة الثالثة باللغة العربية، وجعلت شعارها "الحرية، الحق، أسلحة لا تقهر بين أيدي الضعفاء" و "لله وللوطن وللعدل"، ساهم فيها عدد من المثقفين الجزائريين، صدر منها 26 عددا.

              - الهلال: ظهرت في أكتوبر 1906، كانت تصدر ثلاث مرات في الشهر باللغتين الفرنسية والعربية، وصاحب امتيازها هو الفرنسي "فيليبلاغ" وقد تولى الشيخ عمر بن قدور القسم العربي فيها.

              - مجلة الإحياء: صدرت في 14 فيفري 1907 وهي نصف شهرية، صدرت باللغة العربية، والمميز فيها هو أن امتياز إنشائها يعود إلى فتاة فرنسية مستعربة جعلت اسمها "جمانة رياض" أو "فاطمة الزهراء". تَركّز نضال هذه المجلة حول إصلاح التعليم وترقية الحياة الاجتماعية للمسلمين الجزائريين، ومن الشخصيات التي كتبت فيها الشيخ عبد القادر المجاوي، صالح العلواني، عبد الحليم بن سماية...

              - كوكب افريقيا: صدرت في 17 ماي 1907 على يد الشيخ محمود كحول، وهي أسبوعية إخبارية أدبية علمية، ظهرت بين 1907 و 1914، وتوقفت بسبب الحرب العاليمة الاولى. تميزت بأنها جريدة عربية تراثية محافظة خاصة أن مؤسسها الشيخ كحول من موظفي الادارة الفرنسية في الشؤون الإسلامية كما تولى بعد ذلك منصب مفتي الجزائر، ولكن ما يهمنا منها هو دورها في استقطاب رجال الادب والثقافة والعلماء للكتابة فيها والمشاركة في نقاشاتها الهادئة (عبد القادر المجاوي)، كان شعارها " من أجل الحضارة ومن أجل الإنسانية".

              - الجزائر: أصدرها عمر راسم في 27 اكتوبر 1910، كانت تصدر شهريا، واهتمت بمسألة تعليم الجزائريين، ولكن لهجتها السياسية الحادة عجلت بتوقيفها بعد صدور عددين منها فقط.

              - التقويم الجزائري: وهي جريدة أدبية علمية أصدرها الشيخ محمود كحول عام 1911 لتنشيط الحياة العلمية والثقافية، نشطت إلى غاية 1913 لكن يبدو أن أعدادها قليلة رغم انها استقطبت العلماء والمثقفين خاصة اساتذته ومشايخه مثل المجاوي وابن الموهوب...

              - الاسلام: أصدرها الصادق دندن في اكتوبر 1910 بعنابة، ثم نقلها الى مدينة الجزائر 1912 واصدرت نسخة معربة منها في 26 جويلية 1912، ولكنها توقفت بسبب الحرب العالمية الاولى، وباعتبار الصادق دندن من ممثلي النخبة الجزائرية فمن المرجح أنها "كانت وطنية الاتجاه إصلاحية النزعة".

              - الفاروق: أصدرها الشيخ عمر بن قدور في 28 فيفري 1913 في مدينة الجزائر، تميزت بدفاعها القوي عن الهوية العربية الاسلامية وانفتاحها على العالم العربي والاسلامي وقضاياه واعلامه واخباره اليومية، ركزت على الاصلاح الاجتماعي والديني والتربوي. وجعلت شعارها "قلمي لساني ثلاثة بفؤادي...ديني ووجداني وحب بلادي"، كما تميزت باقبال الكتاب والادباء والمثقفين عليها مراسلة وكتابة وتوزيعا وتشجيعا من داخل الجزائر وخارجها.

              صدر منها 95 عددا لتوقفها الإدارة الفرنسية في 22 جانفي 1915 بعد نشر عمر بن قدور لمقال يمجد فيه الدولة العثمانية ويتمنى لها النصر في حربها على اعدائها فرنسا وحلفائها، كما عاقبته بالنفي سيرا على الأقدام إلى الأغواط.

              - ذو الففقار: أصدرها عمر راسم في 25 اكتوبر 1913 بمدينة الجزائر، متحملا جميع المهام من اشراف وكتابة وهط وتصفيف ورسومات بما عرف عنه من خط جميل وزخرفة...وكتب عن دافعه من اصدارها:"لما سمعنا الاسلام يئن من طعنات اعدائه والوطن ينادي بالويل والحسرة على ابنائه أنشانا هذه الجريدة لمحاربة اعداء الدين وكشف اسرار المنافقين واظهار مكائد اليهود والمشركين للناس اجمعين وانتقاد اعمال المفسدين ومراقبتهم". توقفت بعد عددها الثالث فعاشت 8 شهور بسبب عجزها المالي بتصدر اخيرا عددها الرابع لتتوقف نهائيا بعد اعتقال الشيه عمر راسم لاتهامه بموالاة الدولة العثمانية في الح الع 1.

              - النجاح: أصدرها الشيخ عبد الحفيظ الهاشمي في 13 أوت 1919 في قسنطينة، تعتبر النجاح أهم وأكبر جريدة جزائرية صادرة باللغة العربية إذ عمّرت من 1919 إلى غاية 1956 واستطاعت التطور من جريدة تصدر ثلاث مرات في الأسبوع إلى جريدة يومية ابتداء من عام 1930 وبعدد صفحات معتبر، كما استطاعت من ناحية أخرى استقطاب كثير من الكتاب والعلماء والأدباء والشعراء ورجال السياسة والقانون خاصة خلال العشرينات.

              ولكن دورها كبير في انتعاش اللغة العربية نثرا وشعرا وروح المحافظة ودعم الزوايا وتشجيع أدوارها المختلفة من تعليم وتربية وايواء واطعام وعادات وتقاليد اصيلة في مواجهة العادات الغربية الزاحفة.

              - المنتقد: أصدرها أحمد بوشمال بصفته صاحب الامتياز والشيخ عبد الحميد بن باديس بصفته رئيس تحريرها، صدر عددها الأول في 2 جويلية 1925 في مدينة قسنطينة، شعارها "الحق فوق كل أحد والوطن فوق كل شيء"، ورغم أن هدفها هو محاربة الطرق الصوفية الضالة وانحرافاتها ومن ورائها الإدارة الاستعمارية إلا أن دورها كان كبيرا فيما يتعلق بالنهضة الأدبية والثقافية الجزائرية فكانت ميدانا ومجالا فسيحا للكتاب والشعراء وشباب النخبة...لكنها سرعان ما توقفت بعد أربعة شهور من صدروها لتبلغ 18 عددا، بعدما أثرت الساحة الثقافية والأدبية بنقاشاتها حول الإسلام الصحيح والإصلاح الديني ومحاربة التجنيس والتفرنج والتنصير. قامت السلطات الفرنسية بتوقيفها. يقول عنها المؤرخ المتخص في الصحافة الجزائرية محمد ناصر عن أثرها الفكري والادبي:" تعتبر المنتقد تحولا مهما في الحركة الفكرية والادبية في الجزائر لأنها تختلف كل الاختلاف عن الصحف التي سبقتها، سلاسة أسلوب ومتانة اللغة وعمق الأفكار".

              - الشهاب:

              صدرت في 12 نوفمبر 1925 في قسنطينة باسم الشيخ عبد الحميد بن باديس أمّا صاحب امتيازها فهو صديقه أحمد بوشمال صاحب المطبعة الإسلامية بقسنطينة. ظهرت خلفا لجريدة المنتقد، بدأت أسبوعية ثم مرتين في الأسبوع ولكن للظروف المالية الصعبة تحولت الى مجلة شهرية في عامها الرابع بعدد صفحات واركان أكبر وأهم.

              استمرت الشهاب أربعة عشر عاما (1925-1939) وكان شعاراها "مبدؤنا في الإصلاح الديني والدنيوي لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها" و"الحق والعدل والمؤاخاة في إعطاء الحقوق للذين قاموا بجميع الواجبات"، فنلاحظ كيف جمعت هذه المجلة بين مطلبين وعنصرين خطيرين وهما التمسك بالإسلام الصحيح والمساواة بين الفرنسيين والجزائريين في الحقوق والواجبات، فهي سياسية دينية في الوقت ذاته.

              وتميزت الشهاب بلغتها العربية القوية وأسلوبها الراقي وتحليلها العميق ومباحثها الراقية وانفتاحها على العالم الخارجي خاصة الإسلامي منه وقضاياه المختلفة ورصد الأخبار السياسية والثقافية والعلمية وتفاعلها مع الصحافة العربية والإسلامية والعالمية واعلامها وجرائدها، كما سجلت أكبر حضور لرجال الثقافة والأدب والشعر والعلم والسياسة في صفحاتها، ويمكن أن نختصر أهم الاركان والأبواب والمجالات التي دأبت "الشهاب" على الحفاظ عليها عبر اعدادها المختلفة وسنواتها الطويلة:

              - تفسير القرءان الكريم: اشرف عليها الشيخ ابن باديس واسماها مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير، وتمكن الشيخ من ختم هذا التفسير واقيم حفل فخيم لذلك نشرته الشهاب حيث اعتبر حدثا دينيا وثقافيا كبيرا في الجزائر التي توقف بها تدريس علم التفسير والعمل به طوبلا، وقد جمع هذا التفسير بعد وفاة الشيخ ونشر بعنوان: "مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير"

              - تدريس الحديث الشريف: أشرف عليها الشيخ ابن باديس وأسماها مجالس التذكير من كلام البشير النذير، فأعاد هذا الركن الاهتمام لعلم الحديث والاستفادة منه.

              - المباحثة والمناظرة: مناقشة واستعراض آراء العلماء والكتاب حول بعض المسائل الفقهية والفكرية واللغوية والحضارية...

              - الركن السياسي: تطرق للأبحاث السياسية على مستوى الجزائر وخارجها...

              - التاريخ الإسلامي: يصدر مرة في الشهر ويروي سير أبطال التاريخ الإسلامي وعادة ما ما كان الشيخ ابن باديس هو من يكتب فيه.

              - ثمار العقول والمطابع: يعرض أخبار المؤلفات والندوات والمحاضرات والاكتشافات والاختراعات...

              - أخبار وفوائد: وهو مقتطفات وطرائف أدبية وثقافية.

              - قضايا المجتمع: وهي مقالات حول المجتمع الجزائري وخصائصه وشؤونه والآفات التي يعاني منها وما يستجدّ في يومياته وأخباره.

              - حديقة الأدب: خصص للإنتاج الأدبي شهرا ونثرا.

              - الفتوى والمسائل: يجيب فيه الشيخ ابن باديس جوابا فقهيا على المسائل الواردة للمجلة من قبل القراء.

              - مقالات ومراسلات من جرائد عربية وإسلامية وعالمية حيث اعتمدت الجريدة على اعادة نشر مقالات ذات فائدة أو سبق أو قيمة أو مصداقية من مختلف البلدان خاصة العربية (تونس، مصر، سوريا، الحجاز).

              وبذلك تعتبر الشهاب أهم جريدة أو مجلة جزائرية خدمت الثقافة والنهضة الجزائرية ووفرت ميدانا ومجالا للكتاب والشهراء والعلماء والمثقفين للتنافس وللدفاع عن أفكارهم وعن الهوية الجزائرية وهن الاسلام الصحيح واللغة العربية والتاريخ العربي الإسلامي إضافة إلى الدفاع عن المطالب المشروعة للفرد الجزائري من تعليم وصحة وتوظيف وتنمية وعدالة وللمجتمع الجزائري في حق الوجود والتميز والمساواة. يقول المؤرخ المتخصص في الصحافة الجزائرية محمد ناصر:" تُعد من أهم المراجع التي تؤرخ للنهضة الفكرية الحديثة في الجزائر ما بين الحربين العالميتين ولها الفضل في بعث الثقافة العربية الأصيلة في الجزائر وحماية المقومات الذاتية بها".