Aperçu des sections

  • ماهية علم الدلالة

    المبحث الأول: ماهية علم الدلالة

    تعريف الدلالة

    لغة:

    الدلالة في اللغة مشتقة من الفعل دل: أرشد، سدد، وجه، كما في قوله تعالى: (هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم" وقله تعالى: "إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله" أي أرشدكم وأوجهكم وأهديكم...

    وبهذا المعنى لا تخرج الدلالة لغة عن إبانة الشيء وإيضاحه، والإرشاد إلى معناه والهداية والبيان.

    اصطلاحا:

    عرف الشريف الجرجاني في التعريفات الدلالة بقوله: "هي كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر، والشيء الأول هو الدال، والثاني هو المدلول"

    بين الدلالة والمعنى:

    نستطيع تحديد المعنى في مقصود ثابت ساكن، في حين تكتسب الدلالة التوالد والحركة، والنماء في محور المعاني، وبذلك يكون المعنى محطة ثابتة في محور الدلالة.

    ملاحظات مهمة:

    1. الدال والمدلول العلامة اللغوية لا تقرن شيئا باسم، وإنما تقرن مفهوما بصورة سمعية، والمقصود بالصورة السمعية ليس الصوت المسموع، أي الجانب المادي، بل الأثر النفسي الذي يتركه الصوت فينا، أو بعبارة أخرى التصور الذي تنقله لنا حواسنا للصوت، فالنسق بين التصور والصورة السمعية هو علامة، والعلامة اللغوية هي وحدة نفسية مزدوجة، والعنصران (مفهوم-صورة سمعية) مرتبطان معا ارتباطا وثيقا، ويتطلب وجود الواحد منهما وجود الآخر، ويقترح سوسير استبدال كلمتي تصور وصورة سمعية بكلمتي: المدلول والدال، أما العلاقة بينهما فهي اعتباطية.

     

    1-  علم الدلالة وعلم العلامات:

    يمثل علم الدلالة مستوى من مستويات التحليل اللساني (المستوى الدلالي) لأنه يختص بدراسة المعنى هدف المستويات جميعا، وبذلك فهو يتناول معاني بعدها علامات لغوية، فهو إذا فرع من فروع علم العلامات (السيميولوجيا)

    وأول من دعا إلى هذا العلم العلامة فردينان دوسوسير (1857-1914) وقد نظر إليه بمنظار لساني وليس بمنظار فلسفي، وقد كانت أفكاره وتفسيراته حول هذا العلم محدودة، واقترح لهذا العلم اسم السيميولوجيا ورأى أنه علم يدرس حياة العلامة في المجتمع، ويمكن حسبه أن يكون جزءا من علم النفس الاجتماعي، كما يدرس بنية العلامات ويوضح الأنظمة والقوانين التي تحكمها، وهو علم غير قائم – حسب قول دو سوسير- لهذا فلا أحد يستطيع أن يعرف ما هيئته.

    والحقيقة إن السيميائية لم تصبح علما قائما بذاته إلا بعد العمل الذي قام به الفيلسوف الأمريكي تشارلز سندرس بيرس (1839-1914) ، حيث قام بوضع نظرية خاصة بالعلامة سماها Semiotics ويعتقد أنها شاملة لجميع العلوم الإنسانية والطبيعية إذ يقول: ليس باستطاعتي أن أدرس كل شيء في هذا الكون كالرياضيات، والأخلاق،  والميتافرياء، والجاذبية الأرضية، والديناميكية الحرارية، والبصريات والكيمياء، وعمل التشريح المقارن، وعلم الفلك، وعلم النفس وعلم الأصوات... إلا على أساس أنه نظام سيميوطيقي "

     

    تعريف علم الدلالة

    "علم الدلالة هو ذلك العلم الذي يدرس دراسة موضوعية ما يسمى بالمعنى"، سواء على مستوى الكلمة المفردة، أم على مستوى التركيب، وما يتعلق بهذا المعنى من قضايا لغوية، أي أنه يدرس اللغة من حيث دلالتها، أو من حيث أنها أداة للتعبير عما يجول بالخاطر على وجه العموم" [1]

    ويسمى هذا العلم في الغرب بعلم السيمانتيك SEMANTICS، وقد نشأت هذا المصطلح من الكلمة اليونانية سيمانين SEMANIIN، ويقصد بها المعنى أو الدلالة.

    وتعتبر دراسة ميشيل بريال Breal أول دراسة غربية علمية حديثة في موضوع المعنى، حيث إن هذا العالم هو أول من أطلق على هذا العلم اسم السيمانتيك Sémantique أي علم الدلالة سنة 1883م، ثم ترجم هذا المصطلح إلى اللغة الأنجليزية بكلمة سيمانتيكس Sémantics.

    أما اللغويون العرب فقد أطلقوا مصطلح علم الدلالة – بكسر الدال أو فتحها- أو الدلاليات أو الدلالية ... على علم المعنى (وليس علم المعاني، لأن هذا الجمع ينصرف بالذهن إلى أحد فروع علم البلاغة: البيان والبديع والمعاني).

    ويعرفه بعضهم بأنه "دراسة المعنى" أو " العلم الذي يدرس المعنى" أو " ذلك الفرع من علم اللغة الذي يتناول نظرية المعنى" أو " ذلك الفرع الذي يدرس الشروط الواجب توافرها في الرمز حتى يكون قادرا على حمل المعنى"[2]

     



    [1] د.رجب عبد الجواد إبراهيم دراسات في الدلالة والمعجمية ص11 طبعة 2001 دار غريب

    [2] د.أحمد مختار عمر علم الدلالة ص11 الطبعة الخامسة 1998 عالم الكتب.

    • أنواع المعنى وأقسام الدلالة

       

      من المباحث اللغوية التي أثارها الدرس الدلالي، بناء على العلاقات التي تجمع الدال بمدلوله، مبحث أنواع المعنى وأقسام الدلالة... فما هي أهم أنواع المعنى، وما هي أقسام الدلالة؟

      أنواع المعنى

      إذا كان تحديد معنى الكلمة يتم بالرجوع إلى القاموس اللغوي، فإن ذلك لا يمكن أن ينسحب على جميع الكلمات التي ترد مفردة أو في السياق، ولذلك ميز اللغويون بين معان كثيرة أهمها:

      1-المعنى الأساسي: ( ويطلق عليه أيضا الأولي، المركزي، المفهومي، التصوري) وهو المعنى الذي تحمله الوحدة المعجمية حينما ترد مفردة غير مرتبطة بالسياق، مثل كلمات: جدار، طاولة، قلم، بحر ...إلخ، ينظر إليها بحسب ما تحمله من معنى أولي، متوفر لدى المعاجم.

      2-المعنى الإضافي: (ويطلق عليه أيضا العرضي، الثانوي) وهو معنى زائد على المعنى الأساسي، بحيث تكون الكلمة ذات معنى أساسي، لكن الاستخدام الاجتماعي أو الظروف السياسية أو الاقتصادية، أو التاريخية أو الثقافية، تضيف إليه معنى آخر، زائدا عن المعنى الأساسي، ودون أن يلغيه.

       نحو قولنا: ذئب، يهودي، جبل، العصابة.

      فكل كلمة من هذه الكلمات تحمل معناه الأساسي، إضافة إلى معنى إضافي فرضه الاستخدام الجديد: فذئب: حيوان غير أليف (معنى أساسي) ويضاف إليه معان أخرى حين نستعمله في جملة فلان ذئب، أي أننا نضيف إليه معان الحيلة والخداع والمكر، وهذا هو المعنى الإضافي

      وقل مثل ذلك على باقي الكلمات.

      ملاحظة:

      إذا كان المعنى الأساسي يتميز بالثبات، وبمعرفته من طرف المجموعة اللغوية الواحدة، فإن ذلك لا يشترط في المعنى الإضافي، لأن ظروفه غير مشتركة بين المستخدمين، وهو مفتوح على الاستعمال، فضلا عن إمكان تغيره.

      3-المعنى الأسلوبي: وهو الذي يحدد قيم تعبيرية تخص الثقافة أو الاجتماع، وبذلك فهو يتجاوز المعنى الأساسي، ويحكمه الاستعمال، أو الاختلاف البيئي، أو اختلاف أساليب التواصل، فهو معنى يكشف عن طبيعة مستخدم اللغة، ومستواه، وثقافته، وجنسه، وشخصيته، .. وما إلى ذلك.

      أمثلة:

      فمثلا هناك عبارات يستعملها عوام الناس تختلف عن استعمالات المثقفين، والعلماء وخواص الناس، فمعنى العبارات هي المعنى الأساسي، ولكن أسلوب التعبير يشي بمستوى المستخدمين والمستمعين. (مثلا إدخال بعض العبارات بالفصحى في مكان كلمات درج الناس على استعمالها بالدارجة أو اللغة الأجنبية)

      مثال آخر: العبارات التي يستخدمها المتدين تختلف جذريا عن العبارات التي يستخدمها غيره، فبمجرد أن يتحدث معك المتدين تدرك طابعه الثقافي.

      مثال آخر: عبارات النساء تختلف عن تعبيرات الرجال، هناك أمثلة كثيرة على ذلك، ( وهو ما يسمى الخطاب الذكوري والخطاب الأنثوي)

                 عندما تستمع إلى طالب وأستاذ جامعي يتحدثان، ستفهم المعنى الأساسي من الحديث، ولكنك في الوقت ذاته ستدرك بعض المعاني من الأسلوب، منها على الخصوص من هو الطالب ومن هو الأستاذ.

      مثال آخر: ما يطلق على الزوجة من ألفاظ ( مدام، السيدة، الزوجة، الحرم، العقيلة، مرتو، العايلة، الدار، المعلمة، وزارة الداخلية...)

      4-المعنى النفسي: وهو الذي يعكس الدلالات النفسية للفرد المتكلم، فإذا كان المعنى الأسلوبي يتميز أحيانا كثيرة بالاشتراك بين مستخدمي اللغة، فإن المعنى النفسي لا يملك هذه الميزة في كل الأحوال، فهو معنى يخص الأفراد كلا على حدة، حيث يظهر فيما يتضمنه اللفظ لدى الفرد وحده، فهو فردي، ذاتي، خاص.

      مثلا

      تعبيرات الحزن تختلف عن تعبيرات الفرح والسرور، تعبيرات الغضب تختلف عن تعبيرات الهدوء والاتزان، تعبيرات الحنق والحقد تختلف عن تعبيرات الحب والمودة...

      أمثلة: ( كلمات تضاف للجمل: أصلا... ياتل... يا ودي ... راني نقلك ... ما عليهش... لا عليك ... آسف ... )

      في سورة الكهف: ألم أقل إنك ... ألم أقل لك إنك.

      ما لم تستطع عليه صبرا... ما لم تسطع عليه صبرا.

      ملاحظة: ينصح بالابتعاد عن التعبيرات التي تتضمن حمولات نفسية في الكتابات العلمية الأكاديمية، مثل كتابة المذكرات والأطروحات والمقالات العلمية وغيرها.

       

      5-المعنى الإيحائي: وهو ذلك النوع من المعنى الذي يتصل بالكلمات ذات القدرة على الإيحاء نظراً لشفافيتها.

      وقد ذكر ألمان (أنظر أحمد مختار عمر) ثلاثة أنواع لتأثيرات هذا المعنى وهي :
      - التأثير الصوتي: مثل صليل السيف و خرير المياه، وحفيف الأوراق، ومواء القطط.
      - التأثير الصرفي: ويمكن أن تمثل لذلك بالآيات التالي:

      يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ  [النساء : 71 ، 72]

      يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) [التوبة : 38]

      - التأثير الدلالي: وهو ما تتركه بعض المعاني الأكثر شيوعا من المعاني الأساسية من أثر إيجابي على المعنى الآخر. مثل في قضايا التي نتحرج من ذكرها، أو القضايا المهولة مثل قضية الموت، فنقول مثلا: فلان الدايم ربي، فلان في ذمة الله، ...

      مثل التفاؤل في لغة العرب: القافلة، العافية، ... الخ

       

      أقسام الدلالة:

      صنف العلماء العرب القدامى الدلالة  بالنظر إلى اختلاف أنواع العلامة فكانت الدلالة اللفظية وغير اللفظية، ونظروا إلى اختلاف أنواع المدلولات، فكانت الدلالة الوضعية والعقلية والطبيعية أنواع تندرج تحت كل صنف من أصناف الدلالات السابقة، وبالنسبة للدلالة اللفظية، صنفوا الوضعية منها بحسب نسبة العلاقة بين الدال والمدلول، فأوجدوا دلالة المطابقة، ودلالة التضمين، ودلالة الالتزام، ويمكن  تمثيلها في الرسم التالي:

       

       

       

       

       

      الدلالة الوضعية، لا تنعقد إلا بتوفر ثلاثة أركان: «اللفظ وهو نوع من الكيفيات المسموعة، والمعنى الذي جعل اللفظ بإزائه، وإضافة عارضة بينهما هي الوضع، أي جعل اللفظ بإزاء المعنى كأن المخترع لهذه الدلالة قال: إذا أطلق هذا اللفظ فافهموا هذا المعنى» ، فهي الدلالة الاصطلاحية أو العرفية.

      أما الدلالة العقلية وتسمى كذلك الدلالة المنطقية، فهي التي يكون فيها العقل أمر بإدراك طبيعة العلاقة التي تربط الدال بمدلوله، ويمثل لتعريفها عادة بدلالة الدخان على النار إذ يتم استحضار الدلالة الغائبة بحقيقة حاضرة والذي يربط بين الأمرين هو العقل وعلى هذا سميت الدلالة المستحضرة بالدلالة العقلية.

      والدلالة الطبيعية  فيها ربط بين حقيقة ظاهرة وحقيقة غائبة يتم على أساسها اقتران الدال بمدلوله اقتراناً طبيعياً فأعراض الأمراض محسوسات يفسرها الطبيب تغيرات تربط بين كل منها وبين مرض معين، ويعزى وجود هذا الارتباط بين الدال والمدلول إلى السنن الكونية التي تسير وفقها الطبيعة، فالحدث الطبيعي إذا تكرر أمكن للعقل المدرك أن يعقد بينه وبين الشيء الذي أحدثه.

       

      أما الدلالة الوضعية من حيث المفهوم فإنها تصنف كذلك –كما أشرنا إليها سابقا- إلى "ثلاثة أنواع  : مطابقة، وتضمن، والتزام.

      فدلالة المطابقة: هي دلالة اللفظ على كمال مسماه كدلالة لفظ البيت على جميعه.

      ودلالة التضمن: هي دلالة اللفظ على جزء مسماه، كدلالة لفظ البيت على سقفه.

      ودلالة التزام: هي دلالة اللفظ على لازم مسماه، كدلالة السقف على الجدار"[1]

       



      [1] ابن جزي تقريب الوصول إلى علم الأصول، ص53 دار التراث الإسلامي، دراسة وتحقيق د.محمد علي فركوس.

      • علم الدلالة في التراث العربي الإسلامي

        المطلب الأول: الدلالة في القرآن الكريم

        "لقد أورد القرآن الكريم صيغة "دلّ" بمختلف مشتقاتها في مواضع سبعة تشترك في إبراز الإطار اللغوي المفهومي لهذه الصيغة"، وهي تعني الإشارة إلى الشيء أو الذات سواء أكان ذلك تجريداً أم حساً ويترتب على ذلك وجود طرفين: طرف دال وطرف مدلول يقول تعالى في سورة "الأعراف" حكاية عن غواية الشيطان لآدم وزوجه: "فدلاّهما بغرور"([1]). أي أرشدهما إلى الأكل من تلك الشجرة التي نهاهما الله عنها. فإشارة الشيطان دال والمفهوم الذي استقر في ذهن آدم وزوجه وسلكا وفقه هو المدلول أو محتوى الإشارة، فبالرمز ومدلوله تمت العملية الإبلاغية بين الشيطان من جهة، وآدم وزوجه من جهة ثانية، وإلى المعنى ذاته، يشير قوله تعالى حكاية عن قصة موسى عليه السلام: "وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون"([2]) كما ورد قوله تعالى في سورة "طه" حكاية عن إبليس: "قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى"([3]). فهاتان الآيتان تشيران بشكل بارز إلى الفعل الدلالي المرتكز على وجود باث يحمل رسالة ذات دلالة. ومتقبل يتلقى الرسالة ويستوعبها وهذا هو جوهر العملية الإبلاغية التي تنشدها اللسانيات الحديثة، فإذا تم الاتصال الإبلاغي فواضح أن القناة التواصلية سليمة بين الباث والمتقبل. وتبرز العلاقة الرمزية بين الدال والمدلول- قطبي الفعل الدلالي- في قوله تعالى من سورة الفرقان: "ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً".([4]) فلولا الشمس ما عرف الظل، فالشمس تدل على وجود الظل فهي شبيهة بعلاقة النار بالدخان الذي يورده علماء الدلالة مثالاً للعلاقة الطبيعية التي تربط الدال بمدلوله، ويمكن تمثل هذه العلاقة في أي صيغة أخرى، ولقد دلت الأرضة، التي أكلت عصا سليمان عليه السلام حتى خرّ، أنه ميت في قوله تعالى من سورة سبأ: "فلما قضينا عليه الموت ما دلّهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خرّ تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين".([5]) فتعيين طرفي الفعل الدلالي كما تحدده الآية، ضروري لإيضاح المعنى؛ فالدابة وأكلُها العصا دال، وهيئة سليمان وهو ميت مدلول، فلولا وجود "الأرضة" (الدال) لما كان هناك معرفة موت سليمان- عليه السلام- (دال عليه)، ومن السورة السابقة ورد قوله تعالى: "وقال الذين كفروا هل ندلّكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد."([6]) فهذه الآية تؤكد على ضرورة وجود إطار للفعل الدلالي، عناصره الدال والمدلول والرسالة الدلالية التي تخضع لقواعد معينة، تشرف على حفظ خط التواصل الدلالي بين المتخاطبين، وإلى المفهوم اللغوي ذاته يشير قوله تعالى على لسان أخت موسى عليه السلام: "إذ تمشي أختك فتقول هل أدلّكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقرّ عينها ولا تحزن."([7])

        هذه الآيات التي ورد ذكر لفظ "دلّ" بصيغه المختلفة، تشترك في تعيين الأصل اللغوي لهذا اللفظ، وهو لا يختلف كثيراً عن المصطلح العلمي الحديث ودلالته، فإذا كان معنى اللفظ "دلّ" وما صيغ منه في القرآن الكريم يعني الإعلام والإرشاد والإشارة والرمز، فإن المصطلح العلمي للدلالة الحديثة لا يخرج عن هذه المعاني إلا بقدر ما يضيف من تحليل عميق للفعل الدلالي، كالبحث عن البنية العميقة للتركيب اللغوي بملاحظة بنيته السطحية، أو افتراض وجود قواعد دلالية على مستوى الذهن تكفل التواصل بين أهل اللغة الواحدة.

         

        المطلب الثاني: الدلالة في المعاجم العربية

        الصورة المعجمية لأي لفظ في اللغة العربية تمثل المرجعية الأولى لهذا اللفظ في القاموس الخطابي، باعتبار دلالته الأولى "فالحالة المعجمية للألفاظ تمثل الصورة الأساسية لمحيطها الدلالي([8])". وكتاب القرآن الكريم، يمثل ذروة ما وصل إليه الخطاب اللغوي القديم من فصاحة اللغة وجودة التعبير والدلالة، فلو تتبعنا لفظ "دل"، وما صيغ منه، في معاجم اللغة المعروفة، لألفينا دلالته لا تبتعد عن ذلك المجال الذي رسمه القرآن الكريم، فيورد ابن منظور قوله حول معاني لفظ دل: "الدليل ما يستدل به، والدليل الدال. وقد دله على الطريق يدله دلالة (بفتح الدال أو كسرها أو ضمها) والفتح أعلى، وأنشد أبو عبيد: إني امرؤ بالطرق ذو دلالات. والدليل والدليلي الذي يدلك". ويسوق ابن منظور قول سيبويه وعلي- كرم الله وجهه- وقد تضمن قولهما لفظ "دل" يقول سيبويه: "والدليلي علمه بالدلالة ورسوخه فيها". وفي حديث علي- رضي الله عنه- في صفة الصحابة: "ويخرجون من عنده أدلة" وهو جمع دليل أي بما قد علموا فيدلون عليه الناس يعني: يخرجون من عنده فقهاء، فجعلهم أنفسهم أدلة، مبالغة."([9])

        إن ابن منظور- بما جمع من أمثلة- يرسم الإطار المعجمي للفظ "دل" محدداً المعنى الحقيقي الذي ينحصر في دلالة الإرشاد أو العلم بالطريق الذي يدل الناس ويهديهم. وهذا التصور للدلالة، لا يختلف عن التصور الحديث مما يعني أن المصطلح العلمي (الدلالة) يستوحي معناه من تلك الصورة المعجمية التي نجدها في أساليب الخطاب اللغوي القديم.

        وإلى المعنى ذاته يشير الفيروز أبادي محدداً الوضع اللغوي للفظ "دل" فيقول: "… والدالة ما تدل به على حميمك، ودله عليه دلالة (ويثلثه) ودلولة فاندل: سدده إليه (..) وقد دلت تدل والدال كالهدي([10])"… وبهذا الشرح يؤكد الفيروز أبادي ما نص عليه ابن منظور من أن الأصل اللغوي للفظ "دل" يعني هدى وسدد وأرشد.

        ويترتب على هذا التصور المعجمي توفر عناصر الهدي والإرشاد والتسديد أي توفر: مرشِد ومرشَد ووسيلة إرشاد وأمر مرشَد إليه. وحين يتحقق الإرشاد تحصل الدلالة، وتقابل اللسانيات الحديثة هذا التصور، بتعيين الباث والمتقبل ووسيلة الإبلاغ والتواصل وشروطها، ثم المرجع المفهومي الذي تحيل عليه الرسالة الإبلاغية، وبناء على ذلك فالعمل المعجمي هو عمل دلالي وإن كان (جورج مونان) كما نقل د.فايز الداية ينبه إلى أنه من الضروري عدم الخلط بين علم الدلالة (semantique) والدراسة المعجمية (lexicographie)، هذه التي لا تهتم إلا بوصف فحوى الكلمات كما نراها- في الحالة التقليدية- حين تسجيلها في المعجم([11])". ولكن إذا كان المعجم لا يفي بالغرض في نقل دلالة اللفظ التي تشعب بها الخطاب اللغوي الحديث، فإن إيراد المعنى المركزي هو الذي يعين على مجموعة الحالات الجزئية التي تتباين وتتغاير بعدد السياقات التي تحل فيها([12])، وعلى ذلك فإن الدراسات المعجمية- كما قام بها علماء المعجم- لا يمكن إغفالها أو إسقاطها من الجهود الدلالية العربية- ويبقى السياق المحدد الرئيسي لدلالة اللفظ المتجددة، إذ ذهب بعض العلماء إلى التأكيد أن معنى الكلمة هو مجموع استعمالاتها المختلفة في السياقات المتعددة، "وعلى العموم فإن معاني (دلالات) الكلمات هي نتائج لا يتوصل إليها إلا من خلال تفاعل الإمكانيات التفسيرية لكامل الكلام كما يرى إمبسون."([13]) هذا التحديد اللغوي للفظ "دل" كما جاء به الفيروز آبادي ينطوي على جملة من المعطيات اللغوية، يفسرها الدرس اللساني والدلالي الحديث ويحدد أبعادها المعرفية.

        أما الزبيدي في معجمه فيشرح لفظ "دل" لغوياً فيقول: "… وامرأة ذات دل أي شكل تدل به" وينقل عن الأزهري في كتابه "التهذيب" قوله: دللت بهذا الطريق دلالة عرفته ودللت به أدل دلالة، ثم إن المراد بالتسديد إراءة الطريق، دل عليه يدله دلالة ودلولة فاندل على الطريق (سدده إليه). وأنشد ابن الأعرابي:

        ما لك يا أعور لا تندل

         

        وكيف يندل امرؤ وعثول

        ومما يستدرك عليه الدليل ما يستدل به، وأيضاً الدال وقيل هو المرشد وما به الإرشاد، الجمع أدلة وأدلاء، قول الشاعر:

        شدوا المطي على دليل دائب

         

        من أهل كاظمة بسيف البحر

        أي على دلالة دليل كأنه قال معتمدين على دليل… قال ابن الأعرابي: دل فلان إذا هدى([14]). وتجمع قواميس اللغة على أن الدلالة، تعني الهدي والإرشاد، فدله على الشيء وعليه أرشده وهداه.

         

        المطلب الثالث: الدلالة في تعريفات علماء العرب

        I-مفاهيم الدلالة عند الفرابي (ت 339هـ):

        من جملة المسائل الدلالية التي بحثها الفرابي ما يلي:

        أ-أقسام الألفاظ باعتبار دلالتها:

        اهتم الفرابي اهتماماً بالغاً بالألفاظ، فصنفها إلى تصنيفات عدة، بل إنه وضع لها علماً خاصاً سماه "علم الألفاظ" الذي عده من فروع علوم اللسان التي قسمها إلى سبعة أقسام وهي: "علم الألفاظ المفردة وعلم الألفاظ المركبة، وعلم قوانين الألفاظ عندما تكون مفردة، وقوانين الألفاظ عندما تركب وقوانين تصحيح الكتابة، وقوانين تصحيح القراءة، وقوانين الشعر."([15])

        ودراسة الفرابي للألفاظ لا يمكن تصورها بمعزل عن الدلالة، فلا وجود لألفاظ فارغة الدلالة في علمي المنطق والفلسفة، إنما الألفاظ ودلالاتها وجهان لعملة واحدة، مما سيسمح ذلك في القرون المتأخرة إلى إبراز جملة من العلاقات الدلالية الناتجة عن اتحاد الدال بمدلوله، وهو ما ظهر جلياً في العصر الحديث في مباحث دوسوسير الذي وضع مصطلح الدليل اللساني (le signe linguistique) على اتحاد اللفظ بالمعنى، قطبي الفعل الدلالي.

        إن المستوى الذي تتم فيه الدراسة الدلالية عند الفرابي هو مستوى الصيغة الإفرادية وهو يطلق عليه في الدرس الألسني الحديث بالدراسة المعجمية، التي تتناول الألفاظ بمعزل عن سياقها اللغوي، فتدرس دلالاتها وأقسامها ضمن حقول دلالية تنتظم فيها وفق قوانين حددها علماء الدلالة وذلك لإدماجها في استعمال لغوي أمثل. يقول الفرابي مشيراً إلى هذه الدراسة: "الألفاظ الدالة منها مفردة تدل على معان مفردة ومنها مركبة تدل على معان مفردة… والألفاظ الدالة على المعاني المفردة ثلاثة أجناس: اسم وكلمة [فعل] وأداة [حرف] وهذه الأجناس الثلاثة تشترك في أن كل واحد منها دال على معنى مفرد"([16]) فأقسام الألفاظ باعتبار دلالتها تنتظم في قسمين، ألفاظ مفردة ذات دلالة مفردة، ومعيار اللفظ المفرد هو ما يدل جزؤه على جزء معناه، فدلالته قابلة للتجزئة، أما قسم الألفاظ المركبة ذات الدلالة المفردة فهي على نقيض الألفاظ المفردة، إذ هي غير قابلة لأن تتجزأ دلالتها، وتعرف بأنها ما لا يدل جزؤه على جزء معناه، يقدم ابن سينا تمثيلاً لذلك بقوله: "اللفظ المفرد: هو الذي لا يراد بالجزء منه دلالة أصلاً حين هو جزؤه مثل تسميتك إنساناً بعبد الله فإنك حين تدل بهذا على ذاته، لا على صفته من كونه "عبد الله" فلست تريد بقولك "عبد" شيئاً أصلاً. فكيف إذا سميته بـ"عيسى"؟ بلى، في موضع آخر تقول "عبد الله" وتعني بـ"عبد" شيئاً، وحينئذ يكون "عبد الله" نعتاً له، لا اسماً وهو مركب لا مفرد".([17]) ولم يخرج تقسيم ابن سينا للألفاظ عما وضعه الفرابي قبله في كتابه "في المنطق".

        ب-ما يقوم به مقام اللفظ المفرد من الأدوات الدالة:

        لقد قسم الفرابي الألفاظ الدالة إلى ثلاثة أقسام: الاسم والفعل والأداة. وإذا كانت دلالة الاسم والفعل واضحة، فإن دلالة الأداة قد يكتنفها غموض، يشرح الفرابي في كتابه "الحروف" هذه المسألة ويفيض البحث فيها، ففي مقام حصره لاستخدامات الحرف "ما" يقول: "يستعمل [ما] في السؤال عن شيء ما مفرد، وقد يقرن باللفظ المفرد والذي للدلالة عليه أولاً وهو الشيء الذي جعل ذلك اللفظ دالاً عليه".([18]) فالحروف ليست لها دلالة في ذاتها إنما قيمتها الدلالية فيما تشير إليه، واللفظ لا يدل على ذاته إنما يدل على المحتوى الفكري الذي في الذهن، وفي هذا الإطار يشرح الفرابي استعمالات لفظ "موجود" فيقول: "الموجود لفظ مشترك يقال على جميع المقولات والأفضل أن يقال إنه اسم لجنس من الأجناس العالية على أنه ليست له دلالة في ذاته."([19])

        ج-الدلالة محتواه في النفس:

        إن العلاقة التي تربط الدال بمدلوله في علم المنطق، لا يمكن أن تترك دون قواعد أو قوانين، لأن علم المنطق يهدف إلى عقلنة الأفكار بإخضاعها إلى قوانين تنتظم في إطارها، ولهذا يطلق الفرابي على المعاني أو الدلالات مصطلح منطقي هو "المعقولات" التي يكون محلها النفس التي يتم فيها تصحيح المفاهيم برؤية منطقية، يقول الفرابي في ذلك: "وأما موضوعات المنطق وهي التي تعطي القوانين فهي المعقولات، من حيث تدل عليها الألفاظ، والألفاظ من حيث هي دالة على المعقولات وذلك أن الرأي إنما نصححه عند أنفسنا بأن نفكر ونروّي ونقيم في أنفسنا أموراً ومعقولات شأنها أن تصحح ذلك الرأي."([20])

        فالنظرية الدلالية عند الفرابي، لا تخرج عن إطار علاقة الألفاظ بالمعاني ضمن القوانين المنطقية، ويمكن أن نجمل تعريف الفرابي لعلم الدلالة بأنه الدراسة التي تنتظم وتتناول الألفاظ ومدلولاتها، وتتبع سنن الخطاب والتعبير لتقنينه وتقعيده.

        II-مفاهيم الدلالة عند الغزالي (ت: 505):

        إن مفهوم الدلالة عند الغزالي ينبغي أن ينظر إليه من زاوية الثقافة الأصولية، ذلك أن الأحكام التي استنبطها من القرآن الكريم- خاصة- استند فيها على أسس نظرية نجدها بشكل واضح في كتابه "المستصفى من علم الأصول". وتعود هذه الأسس أصلاً إلى فهم عميق للدلالة، "وإن كانت وضعت لتطبق في فهم النصوص الشرعية، ولكنها تطبق أيضاً في معاني أي نص غير شرعي ما دام مصوغاً في لغة عربية"([21]) والتفسير الدلالي الذي توصل إليه الغزالي، يدل على أن هذا العالم الفيلسوف قد تجاوز البحث عن ماهية الدلالة إلى البحث عن جوهر الدلالة وفروعها، فبنظرة مقتضبة إلى بعض نصوصه في كتابه المشار إليه آنفاً، تجده يذكر أصنافاً لمعان قد حددها علماء الدلالة المحدثون كالمعنى الإرشادي أو الإيمائي، والمعنى الاتساعي، والمعنى السياقي، وإن كان الغزالي يسميها بمصطلحات أصولية وهي على الترتيب دلالة الإشارة ودلالة الاقتضاء وفحوى الخطاب، وكل دلالة عند الغزالي قد تنقسم إلى دلالات فرعية يقول معرفاً دلالة الاقتضاء، بأنها هي التي لا يدل عليها اللفظ ولا يكون منطوقاً بها ولكن تكون من ضرورة اللفظ.([22]) وكيف تكون دلالة الاقتضاء من ضرورة اللفظ يا ترى؟ يوضح ذلك الغزالي بقوله: "أما من حيث لا يمكن كون المتكلم صادقاً إلا به، أو من حيث يمتنع وجود الملفوظ شرعاً إلا به أو من حيث يمتنع ثبوته عقلاً إلا به".([23])

        إن إدراك دلالة الاقتضاء تتم إما باعتبار طبيعة حال المتكلم فهي بناء على ذلك طبيعية لا يكون المتكلم عندها إلا صادقاً وإما باعتبار طريق العقل فالدلالة إذن عقلية منطقية.

        وسيشير الغزالي إلى ما يمكن أن يصحب العملية التواصلية من حركة وإيماء وإشارة من قبل المتكلم فتنصرف الدلالة من المعنى الرئيسي، إلى المعنى الإيمائي أو ما يسمى في علم الدلالة الحديث "بالقيم الحافة"، وهي تعني جملة القيم الثقافية والاجتماعية وغيرها التي تصحب عملية التواصل أو الإبلاغ فلكي نؤدي دلالة معينة لا نعتمد فحسب على الألفاظ أو الرموز، إنما يقتضي ذلك تضافر عدة أنظمة إبلاغية "إذا كان النظام الكلامي أهمها فإن سائرها يواكبه مكملاً إياه"([24]) من ذلك النظام الإشاري، والنظام النبري "فوق المقطعي"، والنظام الإيحائي، والنظام السياقي، ونظام المقام أو الحال، يقول الغزالي محدداً بعض هذه الأنظمة الدلالية في سياق تعريفه لدلالة الإشارة: "وهي [أي دلالة الإشارة] ما يؤخذ من إشارة اللفظ لا من اللفظ ونعني به ما يتبع اللفظ من غير تجريد قصد إليه، فكما أن المتكلم قد يفهم بإشارته وحركته في أثناء كلامه ما لا يدل عليه نفس اللفظ فيسمى إشارة فكذلك قد يتبع اللفظ ما لم يقصد به (…) وهذا ما قد يسمى إيماء وإشارة."([25]) أما النظام السياقي الذي يشرف على تحميل الصيغة دلالات إضافية، عدها الدرس الدلالي الحديث دلالات أساسية، يقدمه الغزالي بقوله أنه فهم غير المنطوق به من المنطوق بدلالة سياق الكلام ومقصوده."([26])

        إن هذه التصنيفات للدلالة التي حددها الغزالي، تمثل وعياً عميقاً صحب فكر هذا العالم، ومكنه من أن يسهم في تأسيس الفكر النظري في مجال الدلالة. وهذه الإسهامات العلمية، لن تقدر حق قدرها ما لم ينظر إليها بمنظار "المعرفة" التي تأسس وفقها تراث القرن الخامس والسادس الهجريين، وقد أبان الغزالي على نحو علمي راق علاقات الألفاظ بالمعاني، ولم يخرج عن تلك المحددة قبلاً عند العلماء، وهي علاقة المطابقة وعلاقة التضامن وعلاقة الالتزام أو الاستتباع.([27]) كما بحث الغزالي قسم الألفاظ من حيث إفرادها وتركيبها وأحصى في ذلك ثلاثة أقسام: ألفاظ مفردة وألفاظ مركبة ناقصة، وألفاظ مركبة تامة، فاللفظ المفرد عند الغزالي، لا يخرج عن تصور من سبقه من العلماء خاصة الفرابي وابن سينا يقول الغزالي: "المفرد وهو الذي لا يراد بالجزء منه دلالة على شيء أصلاً حين هو جزؤه كقولك عيسى وإنسان، فإن جزئي عيسى وهما "عي وسا" وجزئي إنسان وهما "إن وسان" ما يراد بشيء منهما الدلالة على شيء أصلاً([28]). أما المركب فهو الذي يدل كل جزء فيه على معنى، والمجموع يدل دلالة تامة بحيث يصح السكوت عليه من ذلك قولهم: زيد يمشي والناطق حيوان أما قولهم: في الدار أو الإنسان في، مركب ناقص لأنه مركب من اسم وأداة.([29]) وما يلاحظ في تقسيمات الفرابي وابن سينا والغزالي للألفاظ باعتبار الإفراد والتركيب، هو إسنادهم في ذلك كله على القصد والإرادة، فإن أريد بمركب اسمي أو فعلي دلالة مفردة، كانت تلك الدلالة، وإن أريد بهما غير تلك الدلالة لم تكن.

        وإن تتبعنا تقسيمات الغزالي للألفاظ، لألفيناها تتعدد لتعطي ذلك المفهوم العام الذي استقر لدى هذا العالم حول الدلالة وفروعها ومتعلقاتها، ويمكن أن يشير في هذا المجال إلى تقسيمه للألفاظ باعتبار الكلي والجزئي، وعموم المعنى وخصوصه، كما أقام تقسيمات للألفاظ باعتبار نسبتها إلى المعاني وحدد أربعة أصناف يقول: "اعلم أن الألفاظ من المعاني على أربعة منازل: المشتركة والمتواطئة والمترادفة والمتزايلة."([30]) ويشرح الغزالي على نحو تفصيلي مرتب، العلاقة بين الصور المحفوظة في الذاكرة للمدلولات المادية والمجردة، والألفاظ والكتابة التي هي أدوات دالة فيقول: "اعلم أن المراتب فيما نقصده أربع واللفظ في الرتبة الثالثة، فإن للشيء وجوداً في الأعيان ثم في الأذهان ثم في الألفاظ ثم في الكتابة، فالكتابة دالة على اللفظ، واللفظ دال على المعنى الذي في النفس، والذي في النفس هو مثال الموجود في الأعيان."([31])

        وعلى هذا الأساس وبحسب تقسيمات الغزالي

        -فالكتابة دال فقط باعتبارها واسطة تمثيل للملفوظ فهي إشارة لإشارة كما يقول (جاك دريدا)([32]).

        -اللفظ دال باعتبار ومدلول باعتبار آخر.

        -المعنى الذي في النفس (الصور الذهنية) مدلول فقط وليست بدال.

        -الموجود في الأعيان (الأمور الخارجية) مدلول فقط وليست بدال.

        وعلى هذا الاعتبار وبحسب ركني العملية الدلالية (الدال- المدلول).

        -الكتابة، الألفاظ: دال.

        -الصور الذهنية- الأمور الخارجية: مدلول.

        إن تلك الإشارات العابرة، إلى ما قدمه الإمام الغزالي في مجال التأسيس النظري للدلالة، يبرز ما مدى ثراء تراثنا المعرفي الذي اتخذ من النص القرآني كمعطى مثالي من أجل وضع أسس لنظرية معرفية شاملة خاصة إذا علمنا أن العلماء القدامى، قد امتلكوا الأدوات المختلفة اللغوية والمنطقية والفلسفية من أجل إبراز كل الجوانب الهامة في النص المقدس، وإن الحيطة التي أخذوها في التعامل مع أحكام القرآن زادت من منطقية معارفهم وصدق مفاهيمهم، والغزالي يعد المازج الحقيقي للمنطق الأرسططاليسي([33]). بعلوم المسلمين، وظاهر ذلك من المقدمة المنطقية التي صدّر بها كتابه "المستصفى" وذكر فيها أن من لا يحيط بالمنطق ومعاني اللغة وأسرارها لاثقة بعلومه قطعاً.

        ومنذ عهد الغزالي دأب الأصوليون المتكلمون يستهلون كتبهم بمقدمات كلامية ومنهم صاحب كتاب "الإحكام في أصول الأحكام" سيف الدين الآمدي، موضوع هذا البحث، وقد أظهر الغزالي قدرة عميقة في فهم تلك السنن التي ينطوي عليها نظام اللغة، وذلك استجابة للمبحث الأصولي الذي يتجاوز الفهم السطحي "النحوي" للغة، إلى استقراء دقيق لمعانيها، لا يتعرض لها اللغوي المشتغل بصناعة النحو.

        III-مفاهيم الدلالة عند ابن خلدون (ت:808هـ):

        لا نكاد نعثر لابن خلدون عن تعريف بيّن للدلالة، وإنما باستقراء نصوص "مقدمته" نجد دراسات في الدلالة قد تجاوزت- بلا شك- الماهية إلى البحث العميق عن جوهر الدلالة وطرق تأديتها، واضحة من غير لبس يقول موضحاً ذلك وشارحاً: "واعلم بأن الخط بيان عن القول والكلام، كما أن القول والكلام بيان عما في النفس والضمير من المعاني، فلا بد لكل منهما أن يكون واضح الدلالة."([34])

        فابن خلدون- على نهج الغزالي- يوضح العلاقة القائمة بين المعاني المحفوظة في النفس، والكتابة والألفاظ ويحصرها في ثلاثة أصناف:

        أ-الكتابة الدالة على اللفظ.

        ب-اللفظ الدال على المعاني التي في النفس والضمير. (الصورة الذهنية): وهذه المعاني إن لم تكن مجردة فإنها تدل على موجود في الأعيان وعلى هذا الأساس فالصنف الثالث للدلالة:

        ج-المعاني الدالة على الأمور الخارجية.

        ويعطي ابن خلدون للخط والكتابة أبعاداً مهمة في العملية التواصلية، باعتبارها أداتين مهمتين من أدوات التعليم والتعلّم الشيء الذي كان يشغل فكر ابن خلدون كثيراً يقول معرفاً "الخط" وأداءه للدلالة: "الخط وهو رسوم وأشكال حرفية تدل على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس، فهو ثاني رتبة عن الدلالة اللغوية.([35])" فابن خلدون يصنف الخط في المرتبة الثانية- كما فعل ذلك الغزالي- وذلك في تأديته للدلالة اللغوية بعد الألفاظ، فالخط دال على الألفاظ والألفاظ دالة على المعاني.

        ويوضح ابن خلدون هذه المسألة التي تخص أصناف الدوال فيقول: "إن في الكتابة انتقالاً من [صور] الحروف الخطية إلى الكلمات اللفظية في الخيال، ومن الكلمات اللفظية في الخيال إلى المعاني التي في النفس فهو ينتقل أبداً من دليل إلى دليل ما دام ملتبساً بالكتابة وتتعود النفس ذلك فيحصل لها ملكة الانتقال من الأدلة إلى المدلولات."([36])

        بهذا التعريف للدلالة اللفظية يكون ابن خلدون قد أشار إلى ما سماه "أندري مارتيني" بالتلفظ المزدوج (double articulation) اشتهر ذلك المصطلح في الألسنية الحديثة. إن التلفظ الأول هو الطريقة التي تترتب فيها الخبرة اللغوية المشتركة بين جميع أعضاء بيئة معينة، وتقوم كل وحدة من وحدات التلفظ الأول على دلالة وعلى صورة صوتية ولا يمكن تحليلها إلى وحدات أصغر ذات معنى، أما التلفظ الثاني فهو إمكانية تحليل الصورة الصوتية إلى وحدات صوتية مميزة تحتوي هذه الوحدات على شكل صوتي ولا تحمل بذاتها أية دلالة.([37])

        فصور الحروف الخطية- عند ابن خلدون- هي التي تمثل التلفظ الثاني وهو تقسيم الكلمة (المورفيم) إلى وحدات صوتية (فونيم) لا تحمل بذاتها أية دلالة، فضلاً على ذلك يرسم ابن خلدون العملية التواصلية أو الإبلاغية رسماً بيناً، فالخط يدل على الكلمات اللفظية التي في الخيال، والكلمات هذه تدل على المعاني التي في النفس، والكلمات اللفظية التي في الخيال هو اختصار للعلاقة القائمة بين اللفظ ومعناه، فابن خلدون ينظر إلى هذين الطرفين (اللفظ والمعنى) باعتبارهما طرفاً واحداً، ذلك أن اللفظ قد ارتبط بتصور في الخيال وإلى هذا أشار ابن سينا في تعريفه للدلالة بقوله: "معنى دلالة اللفظ أن يكون إذا ارتسم في الخيال مسموع، ارتسم في النفس معناه فتعرف النفس أن هذا المسموع لهذا المفهوم فكلما أورده الحس على النفس التفتت النفس إلى معناه، وهو معنى الدلالة.

        فاللفظ يرتسم في الخيال كصورة صوتية ذات دلالة، فترتسم في النفس مقاصد هذه الدلالة وعلى هذا الأساس يمكن تمثيل ذلك على النحو التالي:

        اللفظ Ù قيمة صوتيةÙ تصور في الخيالÙ المعاني      الموضوع الخارجي، ثم يحصل للنفس ملكة الانتقال من الأدلة إلى المدلولات، فتربط بالبداهة بين الاسم ومسماه أي بين الدال والمدلول. فإذا كان المدلول شيئاً مادياً يكون الانتقال من اللفظ المسموع إلى الموضوع الخارجي وإذا كان المدلول من المجردات يكون الانتقال حينئذ من اللفظ إلى المعاني الذهنية.

        إن هذه المفاهيم التي قدمها ابن خلدون للدلالة ورسم على أساسها العملية الدلالية، لا تختلف عن تلك النظرية التي توصل إليها العالم اللساني دوسوسير حول الدليل اللساني يقول في تعريفه: "فالدليل اللساني لا يجمع الشيء أو المادة والاسم وإنما المفهوم أو المعنى المجرد والصورة السمعية، وليست هذه الأخيرة الصوت المادي بعينه بقدر ما هي الأثر السيكولوجي له أو التمثيل المؤدى من طرف مدركاتنا الحسية([38])" فالكلمات ليست سوى صور سمعية حسب تعريف "دوسسير"، وأن العلامة اللسانية أو (الدليل) هي التأليف بين التصور الذهني
        (concept) والصور السمعية (image accoustique). وإلى الفكرة ذاتها ذهب ابن خلدون في سياق شرحه للعملية الدلالية حين قال: "الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس" وأوضح المسألة أكثر، حيث قال: "كما أن القول والكلام بيان عما في النفس والضمير من المعاني".([39]) هذه التقريرات تبين عن إدراك ابن خلدون لأهمية الجانب السيكولوجي في الفعل الدلالي، وقد دأب سوسير على التركيز على هذا الجانب في كتابه المحاضرات حيث عرف الدال بكونه الإدراك النفساني للكلمة الصوتية، والمدلول هو الفكرة أو مجموعة الأفكار التي تقترن بالدال.([40])

        لقد أسهم ابن خلدون في إرساء قواعد علم التربية مؤكداً على ضرورة الإحاطة بالألفاظ ودلالاتها على المعاني الذهنية، وحصر تحصيل تلك المعاني في طريقتين:

        1-طريق القراءة والتعلّم من الكتاب.

        2-طريق التعلم بالمشافهة والتلقين.

        وعلى أساس هذا التنظير التعليمي، يحدد ابن خلدون مراتب الدوال بحسب أدائها للدلالات، ويشير إلى ضرورة إدراك السنن والقوانين التي تنتظم المعاني في الذهن، وهي كما نرى عملية سيكولوجية بحتة تصل الألفاظ بمحتواها الذهني، يشرح ابن خلدون هذه المسألة بقوله: "ثم من دون هذا الأمر الصناعي الذي هو المنطق مقدمة أخرى من التعليم، وهي معرفة الألفاظ ودلالتها على المعاني الذهنية تردها من مشافهة الرسوم بالكتاب ومشافهة اللسان بالخطاب، فأولاً دلالة الكتابة المرسومة على الألفاظ المقولة وهي أخفها ثم دلالة الألفاظ المقولة على المعاني المطلوبة، ثم القوانين في ترتيب المعاني للاستدلال في قوالبها المعروفة في صناعة المنطق".([41])

        هذه- بإجمال- نظرة ابن خلدون لعلم الدلالة، وأقسام المعنى باعتبار الألفاظ ودلالتها، وهي نظرة مع قدمها إلا أنها ذات قيمة علمية معتبرة في الدراسة الدلالية الحديثة.

        IV-ماهية الدلالة عند الشريف الجرجاني (ت:816هـ):

        إن ما يبعث على تقدير جهود الجرجاني حق قدرها في ميدان علم الدلالة، هو عمق تحليله وحسن تصنيفه لأقسام الدلالة، وقد قام عدة باحثين في العصر الحديث على إجراء مقاربة علمية بين ما توصل إليه الجرجاني في تقسيماته للدلالة وما توصل إليه علماء الدلالة في العصر الحديث، ومنهم العالم الأمريكي (بيرس). يعرف الجرجاني الدلالة من منطلق الثقافة الأصولية فيقول: "الدلالة هي كون الشيء بحاله يلزم من العلم به العلم بشيء آخر، والشيء الأول هو الدال والثاني هو المدلول، وكيفية دلالة اللفظ على المعنى باصطلاح علماء الأصول محصورة في عبارة النص وإشارة النص واقتضاء النص.([42])

        وعلى أساس هذا التعريف للدلالة، فأقسامها عند الجرجاني اثنان:

        أ- الدلالة اللفظية: إذا كان الشيء الدال لفظاً.

        ب- الدلالة غير اللفظية: إذا كان الشيء الدال غير لفظ.

        بتحديده لطبيعة العلاقة بين الدال والمدلول، يحصي الجرجاني ثلاثة مستويات صورية تنتج عنها ثلاث دلالات، دلالة العبارة ودلالة الإشارة ودلالة الاقتضاء، وقد مرّ معنا تعريف الإمام الغزالي لدلالتي الإشارة والاقتضاء، أما دلالة العبارة أو النص فهي "المعنى الذي يتبادر إلى الذهن من صيغة النص وهو الذي قصده الشارع من وضع النص، لأن المشرّع حين يضع النص يختار له من الألفاظ والعبارات ما يدل دلالة واضحة على غرضه ثم يصوغه بعد ذلك بحيث يتبادر المعنى المقصود من النص إلى ذهن المطلع بمجرد الاطلاع عليه."([43])

        إن هذا الفهم العميق للدلالة ينم عن مدى النضج المعرفي الذي أحرزه علماء القرن الثامن الهجري والذي تبلور بعد تلك الدراسات الدلالية القيمة التي تطورت منذ القرن الثالث الهجري، فالجرجاني يتجاوز بتعريفه الدلالة ليشير إلى علم آخر أعم من الدلالة (sémantique) وهو ما يعرف بعلم الرموز أو بالسيمياء (simiologie) وذلك عندما نص على أن "الدلالة هي كون الشيء بحاله يلزم من العلم به العلم بشيء آخر فذكره "الشيء" بدل "اللفظ" يدل على إشارته إلى هذا العلم الذي يعني بالرموز والعلامات اللغوية وغير اللغوية، وقد نلمس بعض القصور في سعي الجرجاني في بلورة مفهوم عام يخص الدلالة وأنواعها ذلك "لأن العرب المتقدمين لم يكونوا يعنون بعلم الدلالة، كما يحاول العلماء اليوم بناءه، نظراً لتعقد الحضارة وارتباطها الوثيق باستعمال العلامات (signes) بالمعارف والفنون التي لا تتحقق إلا في أنساق من العلامات."([44]) هذه التصنيفات الثلاثة التي حددها الجرجاني في تعريفه تبلورت في علم الدلالة الحديث على يد علماء أمريكيين وأوروبيين اهتموا بما سمي بالدلالات الإيحائية، حيث يمير العالم الأمريكي هياكوا (S.J.Hayakwa) بين نوعين من المعاني: المعنى القصدي (Sens intentionnel) والمعنى الاتساعي (Sens extentionnel)، أو كما يسمى في الألسنية الحديثة المعنى الإيمائي، وتحت هذين الصنفين يمكن أن ندرج دلالات الجرجاني الثلاث (دلالة العبارة- دلالة الإشارة- دلالة الاقتضاء)، وإلى التقسيم ذاته نزع العالم اللغوي الأوروبي غرينبرغ (J.H.Greenberg) (حيث أقام تقسيمه باعتبار القصد والإيماء إلى: المعنى الداخلي (Sens internal) والمعنى الخارجي([45]) (Sens external) فالدلالة- إذن- في ضوء معالم الدرس الحديث تتضح عند الجرجاني بكونها العلاقة بين المحتوى الفكري واللفظ، وعلى هذا الأساس يخضع ظهور الدلالة أو خفاؤها إلى قرائن لغوية تحدد الدلالة المقصودة، فهناك السياق الذي يحمل دلالة لا تقبل مجازاً ولا تأويلاً، كما يسوق معنى لا يصح حمله على غير ظاهره، إذ اللفظ منصرف إلى الحقيقة باعتبار الظاهر بما هو الكلام الذي يظهر المراد منه للسامع بنفس الصيغة ويكون محتملاً للتأويل والتخصيص([46]). ولقد أدرك الجرجاني العلاقة بين طرفي العملية الدلالية، الدال والمدلول، وحدد طبيعتها في وجود صلة مباشرة بين الدال والمحتوى الفكري الذي يتحدد وفقه المرجع أو الموضوع، وإن كان لا يحدِّد تحديداً بيّناً طبيعة المدلول، إلا أن تجريد عملية الإحالة المرجعية يقتضي بداهة التمييز بين المحتوى الذهني للعلامة وموضوعها الخارجي. والمهم في تعريف الجرجاني أن الدلالة تتمثل في وجهة صرف الدال إلى مدلوله، ولا يمكن أن يغفل الجرجاني عن ذلك المقام الذي ارتقى إليه التفكير الدلالي في عصره، بل نرى عالماً ناقداً قبله بقرنين وهو الكاتب حازم القرطاجيني (ت 684هـ) يحلل الدلالة بقوله: "… قد تبيّن أن المعاني لها حقائق موجودة في الأعيان، ولها صور موجودة في الأذهان، ولها من جهة على ما يدل على تلك الصور من الألفاظ وجود في الأفهام والأذهان".([47])



        ([1]) الآية رقم 22، انظر تفسير القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج13، ص37.

        ([2]) سورة القصص: الآية 12، انظر تفسير الكشاف للإمام الزمخشري، ج4، ص217.

        ([3]) الآية: 120، انظر تفسير ابن كثير، ج4، ص542.

        ([4]) الآية: 45، انظر تفسير الكشاف للإمام الزمخشري، ج4، ص120.

        ([5]) الآية: 14، انظر تفسير الكشاف للإمام الزمخشري، ج5، ص62.

        ([6]) الآية: 7، انظر تفسير القرطبي: الجامع لأحكام القرآن.

        ([7]) سورة طه: الآية 40، انظر تفسير ابن كثير، ج4، ص506.

        ([8]) فايز الداية، علم الدلالة العربي، ص41.

        ([9]) ابن منظور، انظر لسان العرب، ص394-395.

        ([10]) القاموس المحيط، ج3، ص377.

        ([11]) فايز الداية، علم الدلالة العربي، ص204-205.

        ([12]) المرجع السابق، ص217.

        ([13]) المرجع نفسه، ص223.

        ([14]) الزبيدي، تاج العروس، ج7، ص324-325.

        ([15]) الفرابي، إحصاء العلوم، ص159.

        ([16]) الفرابي، العبارة، كتاب في المنطق، ص74.

        ([17]) الإشارات والتنبيهات، ج1، ص191.

        ([18]) الحروف، ص166.

        ([19]) المصدر السابق، ص115.

        ([20]) إحصاء العلوم، ص167.

        ([21]) عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي، ج1، ص156.

        ([22]) المستصفى من علم الأصول، ص187.

        ([23]) المصدر السابق، نفس الصفحة.

        ([24]) عبد السلام المسدي، اللسانيات وأسسها المعرفية.

        ([25]) المستصفى من علم الأصول، ج2، ص188.

        ([26]) المصدر السابق، ج2، ص190.

        ([27]) معيار العلم في المنطق، ص42-43.

        ([28]) المصدر السابق: ص49.

        ([29]) المصدر نفسه، ص49-50.

        ([30]) المصدر نفسه، ص52. المشتركة: (المشترك اللفظي)، المتواطئة: أعيان متعددة بمعنى واحد مشترك بينها كدلالة اسم الحيوان على الفرس والطير والأسد، والمترادفة: (المترادف)، المتزايلة: هي الأسماء المتباينة التي ليست بينها شيء من هذه النسب.

        ([31]) المصدر نفسه، ص46-47.

        ([32]) الكتابة جاءت لتملأ فراغاً لتكون امتداداً للملفوظ خاصة إذا وجدت لغات لا يمكن إلا أن تكون مكتوبة ولا نستطيع تجريدها بالمنطق كما هو شأن لغة الجبر في الرياضيات، انظر ذلك في كتاب: De La Grammatologie jaque derrida (p 429)

        ([33]) محمود سامي النشار، منهج البحث عند مفكري الإسلام، ص90.

        ([34]) المقدمة، ج2، ص509.

        ([35]) المصدر السابق، ج2، ص502.

        ([36]) المصدر نفسه، ج2، ص518.

        ([37]) ابن سينا، العبارة، من الشفاء، ص4.

        ([38]) Cours de linguistique generale- F. de sausure, P.98.

        ([39]) المقدمة، ابن خلدون، ج2، ص520.

        ([40]) Cours de linguistique generale- F. de sausure.

        ([41]) المقدمة، ابن خلدون، ج2، ص698.

        ([42]) الشريف الجرجاني، التعريفات، ص215.

        ([43]) عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي، ج1، ص186-187.

        ([44]) علم الدلالة عند العرب: عاطف القاضي ص127. مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 18- 19 السنة: 1982.

        ([45]) مدخل إلى علم الدلالة الألسني، د.موريس أبو ناضر، ص33- مجلة الفكر العربي، عدد: 18-19 السنة: 1982.

        ([46]) منهاج البلغاء ومعراج الأدباء، ص19.

        ([47]) المصدر السابق، ص25.

        • علاقة علم الدلالة بالعلوم العربية

          المبحث الأول: علاقة علم الدلالة بالنحو

           

          المطلب الأول: تعريف علم النحو

          جاء في المنجد في اللغة تعريف النحو "جمعه أنحاء ونحو وتصغيره نحية كدلو ودلية، وهو علم إعراب كلام العرب، وسمي هكذا لأن المتكلم ينحو به منهاج كلامهم إفرادا وتركيبا" [1]

          ويمكن أن نعرفه كذلك بأنه " العلم الذي يهتم بدراسة أحوال الكلمات العربية من إعراب وبناء داخل الجملة"

          وعرفه بعضهم بأنه" العلم الذي يتعلق بمعرفة أحكام الكلمة العربية عند تركيبها، بمعنى أنه يبحث في بناء الجملة... فإن النحو يقوم برصد التغيير الذي يطرأ على أواخر الكلمات"[2]

          ويقول ابن خلدون في مقدمته:" به تتبين أصول المقاصد بالدلالة، فيعرف الفاعل من المفعول، والمبتدأ من الخبر، ولولاه لجهل أصل الإفادة"[3]

           

          المطلب الثاني: علاقة الدلالة بالنحو

          هناك علاقة قوية بين المعنى الدلالي والوظيفة النحوية، "وذلك أن الأمور التي يقصد المتكلم بها إفادة السامع من كلامه هي إما تصور مفردات تسند ويسند إليها، ويفضي بعضها إلى بعض والدالة على هذه هي المفردات من الأسماء والأفعال والحروف، وإما تمييز المسندات من المسند إليها والأزمنة، ويدل عليها تغير بتغير الحركات من الإعراب وأبنية الكلمات، وهذه كلها هي صناعة النحو"[4]

          لقد أكد النحويون التقليديون ولقرون عديدة على الاعتماد المتبادل بين النحو والدلالة وأشار العديد منهم إلى أن معنى الجملة يتحدد بواسطة معنى الكلمات التي تكونها من ناحية وبتركيبها النحوي من ناحية أخرى إلا أنهم لم ينشدوا الدقة في توضيح هذه المسألة.

           

          أما في البحث اللغوي المعاصر فقد أصبحت مناهج النحو تلتقي بمناهج الدلالة بحيث صار يجمعهما في بعض الاتجاهات العلمية منهج واحد وتكاد مشكلات هذا المجال تدور حول الإجابة عن هذه التساؤلات :

          ما الفروق الدقيقة بين الظواهر النحوية والدلالية؟

          وإذا كانت هناك فروق، فما العلاقة بين العناصر النحوية والعناصر الدلالية للقواعد؟

          ومن ثم أيجب أن يجعل العنصر النحوي بوصفه مزودا داخليا للعنصر الدلالي؟

          أو أن يعكس الوضع بحيث ينظر إلى العنصر الدلالي بوصفه ناتجا أو مخرجا للعنصر النحوي؟[5]

           

          إن الدراسات التي بدأت تظهر محاولة الإجابة عن هذه التساؤلات تكشف تعقد البحث في هذا المجال وأهميته في الوقت نفسه، ولعل تهيب الباحثين في مجال الدلالة التركيبية –وهو ما يسمى أيضا بالمعاني النحوية- يرجع إلى الصعوبات الكامنة في تحديد الدلالة التركيبية للجملة، فإن الجملة قد تصاغ بصيغة معينة وتحتمل معاني مختلفة …وتزداد الصعوبة إذا انتقلنا إلى مجال الأدب، وبخاصة الشعر، فإن دلالة التركيب فيه طبقات بعضها فوق بعض، وكلما كان النص جيدا ازدادت طبقات المعنى فيه تعددا، وذلك لأن الانتقال من مستوى إلى آخر، عملية معقدة، فنحن نلاحظ أولا، تفاعلا بين المعنى والبنية النحوية، فلكل درجة من درجاته شكل في التعبير يلائمها إما بإضافة عناصر جديدة أو بتقديم أو تأخير.

          لقد كان النحو العربي منذ نشأته الأولى مهتما بالمعنى، يعتد به وبدوره في التقعيد، وهناك تفاعل قائم مستمر بين الوظيفة النحوية والدلالة المعجمية للمفرد الذي يشغل هذه الوظيفة، ويشكل هذا التفاعل بينهما مع الموقف المعين، المعنى الدلالي للجملة كلها، والجملة هي الغاية الأولى لكل نظام نحوي.

          والنحو من اللغة كالقلب من الجسم الإنساني- كما يقول تشومسكي- وإذا كان القلب يمد الجسم الإنساني بالدم الذي يكفل له الحياة، فإن النحو يمد الجملة بمعناها الأساسي الذي يكفل لها الصحة ويحدد لها عناصر هذا المعنى.[6]

          ويمكننا دراسة حقيقة العلاقة بين الدلالة والنحو من خلال العناصر التالية:

          1- الزيادة في المبنى زيادة في المعنى:

          فمن أصول النحويين أن الزيادة في المبنى لابد أن تؤدي إلى زيادة في المعنى، ولا يجوز الزيادة إذا لم يكن لها دور دلالي، بل يعتبره اللغويون تكرارا يفسد بلاغة الكلام ودلالته.

          وقال الزملكاني أيضا :" قد يظن ظان أن المعنى لا يتغير بالحرف الزائد على الجملة نظرا إلى أصل الحكم وإعراضا عما هو كالمكمل للمعنى والمحقق له …فعليك أن تتوخى مواقع الحروف حذرا من أن يقع الحرف في غير محله فيذهب عليك مقصودك من التعبير"[7]

          2- نظرية النظم:

          وهي من أهم النظريات التي تثبت تعلق الدلالة بالنحو، إذ أن نظم الكلمات وتقديم بعضها على بعض، وإن بدى للبعض أنه يؤدي الغرض نفسه، إلا أنه بعد الدراسة والتأمل نجد أن العلاقة الدلالية بين الجملة والأخرى يتغير بتغير المواضع المشكلة لهذه الجملة، وهذا ما يعبر عنه البعض بالبنية السطحية والبنية العميقة، ويمكن من خلال ذلك أن نشير إلى أهم علاقة دلالية على مستوى الجمل، وهي علاقة "إعادة التعبير" والتي تؤكد أن التقديم والتأخير له دور غير عادي في تغير المعنى، ومن ثم أن النحو له دور في تغير الدلالة.

          3- الإعراب والدلالة:

          الإعراب هو الفرق بين المعاني المتكافئة في اللفظ وبه يعرف الخبر الذي هو أصل الكلام، ولولاه ما ميز فاعل من مفعول ولا مضاف من منعوت ولا تعجب من استفهام، ولا صدر من مصدر ولا نعت من تأكيد.

          إن النحوي قد ربط الدلالات بالإعراب فاهتم بالجانب الإعرابي لتحصين المعنى ولوضع ضوابط لغوية أساسية للجانب الدلالي، والفصل بين الجانبين الدلالي والإعرابي فصل منهجي لا غير.

          لقد كان إعراب النصوص مدخلا طبيعيا وأساسيا لفهم المضامين ولقد كان إقبال العلماء على إعراب النصوص إدراكا منهم أن المعنى لا يمكن أن يفهم إلا بعد إعراب التراكيب المشتملة عليه، وما كانت العرب لتجزع من اللحن في الإعراب لو لم يكن مؤديا إلى فساد المعنى، وما ذلك إلا لأن الإعراب يميز المعاني، ويوقف على أغراض المتكلمين.

          إن علاقة الإعراب بالدلالة علاقة لا يمكن تجاهلها فالإعراب من جملة العناصر المكونة للدلالة الفاعلة في المعاني الوظيفية النحوية.

          4- الاستقامة النحوية والاستقامة الدلالية:

           الاستقامة النحوية لمركب من المركبات، هي خضوع المركب للأصول النحوية أو للقواعد العائدة للمركب خاصة المندرج في نطاق نظام نحوي عام يماثله اللسان، والاسقامة الدلالية هي اتباع الصواب وقصده والنفار من الخطأ والحياد عنه.

          لقد اهتم اللغويون العرب في عدة مواطن بتأليف العبارة، وعلقوا خصائصها المنطقية من استقامة، واستحالة، بجملة من العلاقات بين وحدات السياق والمعنى الحاصل من تنزلها في محلها ومجاورة بعضها للبعض الآخر، ولعل من بواكير الحديث عن الاستقامة ما ورد في كتاب سيبويه تحت عنوان (باب الاستقامة من الكلام والإحالة) حيث تحدث عن أقسام الكلام بهذه الاعتبارات قال :

          "فمنه مستقيم حسن ومحال ومستقيم كذب ومستقيم قبيح وما هو محال كذب:

          -فأما المستقيم الحسن فقولك :" أتيتك أمس وسآتيك غدا"

          - وأما المحال فأن تنقضض أول كلامك بآخره فتقول :" أتيتك غدا وسآتيك أمس"

          - وأما المستقيم الكذب فقولك :" حملت الجبل وشربت ماء البحر"

          - وأما المستقيم القبيح فأن تضع اللفظ في غير موضعه نحو قولك :"قد زيدا رأيت وكي زيد يأتيك" وأشباه هذا    .

          - وأما المحال الكذب فان تقول :" سوف أشرب ماء البحر أمس"

          فسيبويه لم يعرف من هذه الأنواع إلا المحال من الكلام والمستقيم القبيح، واعتمد على الأمثلة وحدها في تحديد ما يريده بالمصطلحات الأخرى، ونستطيع أن نقول إن المقصود من الكلام الحسن المستقيم، هو الكلام المستقيم استقامة نحوية دلالية .

          فالكلام المستقيم نحويا  تتوزع استقامته على ثلاثة أنواع :

          المستقيم الحسن والمستقيم الكذب والمستقيم القبيح، فكل جملة صحيحة نحويا تعد جملة مستقيمة، ولكن الحكم على هذه الاستقامة بالحسن أو الكذب يتعلق بالمعنى الذي تفيده عناصر الجملة عندما تترابط نحويا.[8]

          إن الصلة بين أنواع معينة من البنيات غير النحوية، وبين أنواع معينة من التعابير التي لا دلالة لها واضحة، وقد يصير أحدهما مشروطا بالآخر، فالجملة التي ينكسر فيها النظام النحوي انكسارا غير مسموح به مطلقا في المستوى اللغوي المعين، لا تعد جملة صحيحة مطلقا، لا نحويا ولا دلاليا، فالصحة الدلالية هنا مشروطة بالصحة النحوية.

          5- التأويل والدلالة:

          للتأويل علاقة دقيقة بالدلالة، فكثيرا ما نضطر إليه قصد الوصول إلى الدلالة قبل الحكم على العبارة بعدم المقبولية نحويا أو دلاليا، لأن التأويل –من هذه الزاوية- وسيلة من وسائل الكشف عن مراد المتكلم ومعرفة ما تعنيه ألفاظه.

          والتأويل في البيئة النحوية يعني حمل الظواهر اللغوية على غير الظاهر للتوفيق بين أساليب اللغة وقواعد النحو، ويعتبر التقدير عاملا مساعدا يتميز به الدرس النحوي ويوظفه من أجل الوصول إلى مقاصد النص من جهة، ومن أجل تبرير ما قد يعتري العبارة من انحراف قد يخرجها عن السوية النحوية .[9]

          ومن مقومات التأويل النحوي ودواعيه ما ذكره تمام حسان في أصوله من :

          -أن القواعد أضيق من كلام العرب، ففي الكلام ما لا تنص القواعد على ضبطه.

          - قد يختلف ظاهر الكلام مع مطالب القاعدة ولكنه يمكن التوفيق بينهما بالتأويل.

          -إن التأويل قد يحتمل وجها واحدا وقد يحتمل وجوها متعددة.

          - قلما يشتمل المأثور على ما يستعصي على التأويل .

          -إذا خالف بعض الحديث القاعدة  فلا ينبغي أن يكن ذلك داعيا إلى ترك الاستشهاد به جملة، لأن هذا العض الصحيح مع التوجيه والتأويل[10]

          إن ظاهرة التأويل من مستلزمات الحديث عن الدلالة وبالتأويل نستطيع تتبع المعاني وخاصة ما غمض منها كما نستطيع قياس مدى السوية والمقبولية في العبارة نحويا ودلاليا.

          يقول د.رشيد بلحبيب:" إن الإشارات المقتضبة ... تبين إلى حد ما علاقة النحو بالدلالة عند النحاة، فالجانب الدلالي هو نقطة الالتقاء بينهما، ولعل ما يعيب هذه الجهود أنها كانت وما تزال متناثرة موزعة هنا وهناك، ولم يحاول باحث أن يؤسس نظرية في تفاعل الدلالة النحوية والدلالة المعجمية على مستوى التراكيب" [11]

          المطلب الثالث: أمثلة تطبيقية

          1- الزيادة في المبنى زيادة في المعنى:

          1/ روي عن ابن الأنباري أنه قال :" ركب الكندي المتفلسف إلى أبي العباس وقال له : إني لأجد في كلام العرب حشوا، فقال أبو العباس: في أي موضع وجدت ذلك؟ فقال : أجد العرب يقولون : عبدُ الله قائمٌ، ثم يقولون : إنَّ عبدَ الله قائمٌ، ثم يقولون : إنَّ عبدَ الله لقائمٌ، فالألفاظ متكررة والمعنى واحد.

          فقال أبو العباس : بل المعاني  مختلفة لاختلاف الألفاظ،

          فقولهم : عبدُ الله قائم، إخبار عن قيامه.

          وقولهم : إنَّ عبدَ الله قائمٌ: إخبار عن سؤال سائل.

          وقولهم : إنَّ عبدَ الله لقائمٌ جواب عن إنكار منكر قيامه، فقد تكررت الألفاظ لتكرر المعاني.

          قال : فما أحار المتفلسف جوابا"

           

          2- نظرية النظم:

          1/ لاحظ الفرق بين هذه الجمل:

          -       الثعلب السريع البني كاد يقتنص الأرنب.

          -       الثعلب البني الذي كاد يقتنص الأرنب كان سريعا.

          -       الثعلب السريع الذي كاد يقتنص الأرنب كان بنيا.

          فالدلالة في الجملة الأولى ترتكز على اقتناص الثعلب للأرنب، والثانية ترتكز على سرعة الثعلب، ودلالة الجملة الثالثة ترتكز عل لون الثعلب البني، والذي كشف عن هذه الدلالات المرتكزة هو الجانب النحوي.

          2/مثال ذلك الآيتين التاليتين:

          يقول الله تعالى:" ولا تقتلوا أولادكم من إملاق، نحن نرزقكم وإياهم"

          ويقول في آية أخرى:" ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق، نحن نرزقهم وإياكم"

          فكلتا الآيتين تنهى عن قتل الأولاد بسبب الفقر، وقد يتسرع السطحيون في تفسير الآيتين ويقولوا هما مترادفتين، والأمر ليس كذلك على الإطلاق، إذ ليس هناك ترادف في القرآن الكريم، وتأملوا معنا الآية الأولى:

          قال الله في الآية الأولى: من إملاق، أي بسبب الإملاق وهو الفقر، وقال " نحن نرزقكم وإياهم" فقدم الآباء على الأبناء

          وفي الآية الثانية: قال الله تعالى: " خشية إملاق" أي خوف الفقر، ثم قال:" نحن نرزقهم وإياكم" فقدم الأبناء على الآباء.

          قال العلماء:

          الآية الأولى تخاطب الفقراء، والآية الثانية تخاطب الأغنياء.

          الآية الأولى الفقر حاصل، وهو السبب لأن يهم الفقير لأن يقتل ولده، فقال الله "من إملاق" وطمأنه " نحن نرزقكم وإياهم" فبدأ بالآباء لأنهم فقراء، وهم السبب فيما بعد لإطعام الأبناء.

          وفي الآية الثانية، تخاطب الأغنياء المتخوفون على مستقبل أبنائهم " خشية إملاق" فبدأ بالأبناء " نحن نرزقهم وإياكم" ليطمئن الأغنياء على مستقبل أبنائهم.

          فتدبر وتأمل يرحمك الله.[12]

          3/ مثال ثالث:

          في كل آيات القرآن الكريم نجد تقديم "الغفور " على " الرحيم"

          يقول الله تعالى:" فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه، إن الله غفور رحيم"

          ويقول أيضا: " فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم"

          ويقول في سورة الحجر: " نبئ عبادي أني أن الغفور الرحيم"

          إلا في آية واحدة، يقدم فيها الرحيم على الغفور، وذلك في سورة سبأ:" يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، وهو الرحيم الغفور"

          فلماذا قدم هنا الرحيم على الغفور، وما سبب تقديم الغفور على الرحيم في باقي القرآن الكريم.

          قال العلماء: تقديم الغفور على الرحيم، نابع من أن درأ المفسدة مقدم على جلب المصلحة، فالدخول إلى النار مفسدة، ودرؤها بأن يغفر الله للعباد، والدخول إلى الجنة مصلحة، وتحقيقا لا يكون إلا بالرحمة.

          بقي الآن سر تقديم الرحيم على الغفور في الآية من سورة سبأ.

          يشير ابن قيم الجوزية –رحمه الله- إلى اقتران العلم بالرحمة في القرآن الكريم فيقول:" لاحظنا في كتاب الله عز وجل كلمتين تقترنان دوما: الرحمة والعلم.

          يقول الله تعالى:" ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم، هدى ورحمة لقوم يؤمنون"

          ويقول أيضا:" فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما"

          ويقول: " ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما"

          لأن العلم إذا لم يقترن بالرحمة كان سببا للفساد."

          ففي سورة سبأ، بدأ بالعلم، " يعلم ما يلج .." فلا بد أن يقترن هذا العلم بالرحمة، فوجب تقديم الرحمة على المغفرة، والوضع لا يحتاج إلى درأ مفسدة، فكانت هذه الحكمة العظيمة.

          فتأمل وتدبر، يرحمك الله.

          4/ الإعراب والدلالة: وهناك أمثلة كثيرة في هذا المجال.

          1/ سامح زيد عمر

          بدون إعراب لا يمكن أبدا أن ندرك الفاعل من المفعول.

          2/ سمع أبا الأسود الدؤلي قارئا يقرأ :"أن الله بريءٌ من المشركين ورسولِه" بالجر، فقال معاذ الله أن يكون الله بريئا من رسوله اقرأ "أن الله بريءٌ من المشركين ورسولُه" [التوبة/3]

          فالكلام واحد ولم يتغير فيه إلا حركة اللام، فإذا حركت بالجر أدى إلى الكفر، وإذا حركت بالرفع أدى إلى معنى مستقيم لا كفر فيه.

          3/ لو قال قائل : "ما أحسن زيد" ولم يبين الإعراب في ذلك لما علمناه منه، إذ يحتمل أن يريد به التعجب من حسنه أو يريد به الاستفهام عن شيء منه أحسن، ويحتمل أن يريد به الإخبار بنفي الإحسان عنه، ولو بين الإعراب في ذلك فقال :" ما أحسنَ زيداً" و"ما أحسنُ زيدٍ"  و"ما أحسنَ زيدٌ" علمنا غرضه وفهمنا مغزى كلامه لانفراد كل قسم من هذه الأقسام الثلاثة بما يعرف به من الإعراب، فوجب بذلك معرفة النحو إذ كان ضابطا لمعاني الكلام، حافظا من الاختلاف.

          4/ رد أبو الأسود الدؤلي على ابنته حين سألته بقولها : أبتاهُ ما أجملَ السماءُ (بالرفع) بقوله : أي بنية نجومُها، فقالت ما هذا أردت، إنما أردت التعجب من حسنها، قال : فقولي: ما أجملَ السماءَ  بالفتح .

          5/ يقول الله عز وجل :"إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ"

          لولا الإعراب لم ندرك تفسير هذه الآية، وربما وقعنا في الكفر بسبب ذلك، فبفتح اسم الجلالة "الله" ندرك أن العلماء الذين وصلوا درجة من العلم والإيمان هم الذين يخافون الله، وأن المرء كلما ازداد علما ازداد خشية من الله.

          6/ قوله تعالى: " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن"

          فبدون إعراب يشكل علينا فهم المعنى من هذه الآية، و يتضح من خلال الإعراب أن الله فاعل مؤخر، هو الذي ابتلى إبراهيم عليه السلام وليس العكس، إذ أن ذلك لا يصح.

          ولنكتفي بهذه الأمثلة لننتقل إلى مبحث آخر يصب في السياق نفسه.

           

          المبحث الثاني: علاقة علم الدلالة بعلم الصرف

           

          المطلب الأول: تعريف علم الصرف.

          لغة: التغيير، ومنه " تصريف الرياح" أي تغييرها، قال الزجاج صرف الشيء من جهة إلى جهة، والتصريف كذلك مصدر صرف يصرف تصريفا، بمعنى التغيير والتحويل، ومنه تصريف الرياح، أي تغييرها عن جهتها."[13]

          واصطلاحا: بالمعنى العملي: تحويل الأصل الواحد إلى أمثلة مختلفة لمعان مقصودة، لا تحصل إلا بها، كاسمي الفاعل والمفعول، واسم التفضيل، والتثنية والجمع، .. إلى غير ذلك.

          وبالمعنى العلمي: علم بأصول يعرف بها أحوال أبنية الكلمة التي ليست بإعراب ولا بناء.[14]

          وعرفه علماء اللغة أنه "علم يبحث عن صيغ الكلمات العربية وأحوالها التي ليست بإعراب ولا بناء"[15]

          وعرف أيضا بأنه " العلم الذي تعرف به صياغة الكلمة العربية، بنيتها، وهيأتها، كأن نقول قرأ قارئ مقروءة، فكلمة قارئ لا تعرف وظيفتها النحوية كفاعل داخل الجملة إلا بعد معرفة بنيتها الصرفية، وهي وزن فاعل، وميدن النحو يكون الجملة، أما الصرف فميدانه الكلمة"

          ويعرف آخرون بأنه " ذلك العلم الذي تعرف به كيفية صياغة الأبنية العربية، ويقصد بالأبنية هنا هيئة الكلمة من حيث عدد حروفها وضبط هذه الحروف"[16]

          وعرفه محققا كتاب شذا العرف في فن الصرف بأنه هو العلم الذي " يبحث فيه عن الأعراض الذاتية لمفردات كلام العرب من حيث صورها وهيآتها كالإعلال والإدغام، أي المفردات الموضوعة بالوضع النوعي والهيئات الأصلية العامة للمفردات والهيئات التغييرية كبيان هيئة المعتلات قبل الإعلال وبعد الإعلال وكيفية تغييرها عن هيئاتها الأصلية على الوجه الكلي بالمقاييس الكلية كصيغ الماضي والمضارع ومعانيهما ومدلولاتهما..إلخ."[17]

           

          المطلب الثاني: تحديد العلاقة.

          إن علاقة الدلالة بالصرف علاقة قوية وواضحة في الاستعمالات اللغوية، وتبدو هذه العلاقة مركبة ومعقدة بحيث تستعصي على التدقيق الذي يصفها، وذلك لارتباطها بعلوم أخرى نذكرها من خلال المباحث القادمة إن شاء الله، ولابد أن التعريف الاصطلاحي للصرف أعطى الإشارة الأولى لعلاقته بالدلالة من خلال أنه " تحويل الأصل الواحد إلى أمثلة مختلفة لمعان مقصودة، لا تحصل إلا بها"

          ومن خلال التعريف الثاني كذلك من خلال اهتمام الصرف بهيئة المعتلات قبل وبعد الإعلال ... ومعانيهما ومدلولاتهما"

          ويقول الشيخ أحمد الحملاوي عن علم الصرف :" فما انتظم عقد علم إلا والصرف واسطته، ولا ارتفع مناره إلا وهو قاعدته، إذ هو إحدى دعائم الأدب، وبه تعرف سعة كلام العرب، وتنجلي به فوائد مفردات الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وهما الواسطة في الوصول إلى السعادة الدينية والدنيوية" ([18])

          ويمكن أن نغمر أغوار هذا المطلب من خلال النقاط التالية:

          1/ الميزان الصرفي والدلالة:

          ونعني بالميزان الصرفي "صناعة التصريف، فهي شبيهة بالصياغة، فالصائغ يصوغ من أصل واحد أشياء مختلفة، والصرفي يحول المادة الواحدة إلى صور وأشكال لفظية مختلفة، وبهذا احتاج الصرفي إلى ميزان في صياغته يعرف به عدد حروف المادة وترتيبها وما فيها من فصول وزوائد وحركات وسكنات، وما تطرأ عليها من تغير كما احتاج الصائغ إلى ميزان يعرف به مقدار ما يصوغه من أصل"

          ويبدو واضحا علاقة الوحدات الصرفية بالدلالة، وذلك أن اللغويون حددوا لكثير من الزيادات دلالة تستنبط بمجرد وجودها في الفعل، إذ أن أي مركب صرفي لا يمكن أن يعرف معناه فقط من خلال معنى جذره في المعجم، بل لا بد من معرفة معاني صيغ الزوائد.

          ولنتعرف بالتفصيل على معاني صيغ الزوائد:

          1/ أفعل: تأتي لعدة معان:

          الأول: التعدية، وهي تصيير الفاعل بالهمزة مفعولا، كأقمت زيدا وأقعدته وأقرأته، الأصل: قام زيد وقعد وقرأ، فلما دخلت عليه الهمزة صار زيد مقاما مقعدا مقرأ، فإذا كان الفعل لازما صار بها متعديا لواحد، وإذا كان متعديا لواحد صار بها متعديا لاثنين صار متعديا لثلاثة، ولم يوجد في اللغة ما هو متعد لاثنين وصار بالهمزة متعديا لثلاثة إلا رأى وعلم، كأن تقول: أَرَيْتُ أو أُعْلَمْتُ زيدا بكرا قائما. 

          الثاني: صيرورة شيء ذا شيء، كألبن الرجل، وأتمر ، وأفلس، صار ذا لبن وتمر وفلوس.

          الثالث: الدخول في شيء مكانا كان أو زمانا، كأشأم وأعرق وأصبح وأمسى، أي دخل في الشام والعراق والصباح والمساء.

          الرابع: السلب والإزالة، كأقذيت عين فلان، وأعجمت الكتاب، أي أزلت القذى عن عينه، وأزلت عجمة الكتاب بنقطه.

          الخامس: مصادفة الشيء على صفة، كأحمدت زيدا وأكرمته وأبخلته أي صادفته محمودا أو كريما أو بخيلا.

          السادس: الاستحقاق، كأحصد الزرع وأزوجت هند، أي استحق الزرع الحصاد، واستحقت هند الزواج.

          السابع: التعريض، كأرهنت المتاع وأبعته، أي عرضته للرهن والبيع.

          الثامن: أن يكون بمعنى استفعل كأعظمته أي استعظمته.

          التاسع: أن يكون مطاوعا لفعّل بالتشديد نحو: فطرته فأفطر، وبشرته فأبشر

          العاشر : التمكين، كأحفرته النهر، أي : مكنته من حفره.

          وربما جاء المهموز كأصله، كسرى وأسرى.

          2/ فاعل: يكثر استعماله في معنيين.

          أحدهما : التشارك بين اثنين فأكثر، وهو أن يفعل أحدهما بصاحبه فعلا  فيقابله الآخر بمثله، نحو ماشيته.

          ثانيهما: الموالاة، فيكون بمعنى أفعل المتعدي ، كواليت الصوم وتابعته، بمعنى أوليت وأتبعت بعضه بعضا.

          3/ فعّل: يكثر استعمالها في ثمانية معان.

          تشارك (أفعل) في اثنين منها، وهما التعدية كقوّمت زيدا، والإزالة كقشّرت الفاكهة.

          وتنفرد بستة:

          أولها:  التكثير في الفعل: كجوّل وطوّف، أي أكثر الجولان والطوفان.

          وثانيهما: صيرورة شيء شبه شيء، كقوّس زيد وحجّر الطين، أي صار شبه القوس في الانحناء والحجر في الجمود.

          وثالثها: نسبة الشيء إلى أصل الفعل، ككفّرت زيدا، أي نسبته إلى الكفر.

          ورابعها: التوجه إلى الشيء كشرّقت أو غرّبت: توجهت إلى الشرق أو الغرب.

          وخامسها: اختصار حكاية الشيء، كهلّل وسبّح ولبّى وأمّن، إذا قال : لا إله إلا الله، وسبحان الله، ولبيك، وآمين.

          وسادسها: قبول الشيء، كشفّعت زيدا: قبلت شفاعته.

           

          4/ انفعل: يأتي لمعنى واحد وهو المطاوعة، ولهذا لا يكون إلا لازما، كانقطع، وانطلق.

           

          5/ افتعل: اشتهر في ستة معان.

          أحدها: الاتخاذ، كاختتم زيد: اتخذ له خاتما.

          ثانيها: الاجتهاد والطلب، كاكتسب : اجتهد وطلب الكسب.

          ثالثها: التشارك، كاختصم زيد وعمرو واختلفا.

          ورابعها: الإظهار، كاعتذر واعتظم، أي أظهر العذر والعظمة.

          وخامسها: المبالغة في معنى الفعل، كاقتدر: بالغ في القدرة.

          وسادسها: مطاوعة الثلاثي كثيرا، كعدلته فاعتدل.

           

          6/ أفعل: يأتي غالبا لمعنى واحد هو قوة اللون أو العيب، لازم : كأعمش وأحمر، قوي عمشه وقويت حمرته.

           

          7/ تفعل: تأتي لخمسة معان.

          أحدها: مطاوعة فعّل مضعف العين، كنبهته فتنبه.

          ثانيها: الاتخاذ، كتوسد ثوبه: اتخذه وسادة.

          ثالثها: التكلف، كتصبر وتحلم: تكلف الصبر والحلم.

          رابعها: التجنب، كتحرج وتهجد: تجنب الحرج والهجود.

          خامسها: التدريج، كتجرعت الماء، وتحفظت العلم: شربت الماء جرعة بعد جرعة، وحفظت العلم مسألة بعد الأخرى.

           

          8/ تفاعل: اشتهرت في أربع معان.

          أولها: التشريك بين اثنين فأكثر، فيكون كل منهما فاعلا في اللفظ مفعولا في المعنى، كتجاذب زيد وعمرو ثوبا.

          ثانيها: التظاهر بالفعل دون حقيقته، كتناوم وتغافل وتعامى، أي أظهر النوم والغفلة والعمى.

          كقول المعري:

          فلما رأيت الجهل في الناس فاشيا *** تجاهلت حتى ظن أني جاهل.

          ثالثها: حصول الشيء تدريجا، كتزايد النيل: حصلت الزيادة بالتدريج.

          رابعها: مطاوعة فاعل، كباعدته فتباعد.

          9/ استفعل: كثر استعمالها في ستة معان.

          أولها: الطلب حقيقة كاستغفرت الله، أي طلبت مغفرته.

          ثانيها: السيرورة حقيقة، كاستحجر الطين، أي صار حجرا.

          ثالثها: اعتقاد صفة الشيء، كاستحسنت كذا، واستصوبته، أي اعتقدت حسنه وصوابه.

          رابعها: اختصار حكاية الشيء، كاسترجع، إذ قال ( إنا لله وإنا إليه راجعون)

          خامسها: القوة، كاستهتر واستكبر، أي قوى هتره وكبره.

          سادسها: المصادفة، كاستكرمت زيدا: صادفته كريما.[19]

          ويبدو جليا كيف أن لكل زائدة معنى تختص به، لا تدرك دلالة الكلمة إلا بمعرفة معنى صيغ الزوائد.

          2/ صيغ المبالغة والدلالة:

          "قد تحول صيغة فاعل للدلالة على الكثرة والمبالغة في الحدث إلى أوزان خمسة مشهورة وتسمى صيغ المبالغة، وهي (فعّال) بتشديد العين، كأكّال وشرّاب، و(مِفعال) كمِنحار و(فَعُول) كغفور، و(فَعِيل) كسميع، و(فَعِل) بفتح الفاء وكسر العين كحذر"[20]

          وهناك "ألفاظ أخرى للمبالغة غير تلك الخمسة منها (فِعّيل) بكسر الفاء وتشديد العين مكسورة، كسكير و(مِفعيل) بكسر فسكون كمطير، و(فُعَلَة) بضم ففتح كهمزة ولمزة، و(فاعول) كفاروق و(فُعال) بضم الفاء وتخفيف العين أو تشديدها، كطوال وكبّار، بالتشديد أو التخفيف، وبهما قرئ قوله تعالى : (ومكروا مكرا كبارا)[21]" [22]

          ومن ذلك ندرك قيمة الصيغ الصرفية في دلالة الألفاظ، وكيف أن كل صيغة لها دلالة خاصة بها، بل إن بعض الصيغ أبلغ في التعبير والدلالة من بعض.

           

          3/ اسم التفضيل والدلالة:

          اسم التفضيل هو الاسم المصوغ من المصدر للدلالة على أن شيئين اشتركا في صفة وزاد أحدهما على الآخر في تلك الصفة.

          وقياسه ان يأتي على صيغة (أفعل) كزيد أكرم من عمرو، وهو أعظم منه، وخرج عن ذلك ثلاثة ألفاظ أتت بغير همزة، وهي: خير، وشر، وحب.[23]

           

          إن علاقة علم الصرف بالدلالة تظهر بشكل واضح عندما نتعرف على الحكم الشرعي لتعلمه، إذ يقول الشيخ أحمد الحملاوي في كتابه شذا العرف في فن الصرف :" وحكم الشارع فيه: الوجوب الكفائي" [24] أي إذا تعلمه البعض سقط التكليف عن الباقين وإلا أثم الجميع لارتباطه بعلوم القرآن وصحة قراءته وفهم معانيه ودلالاته وكذلك الحديث النبوي.

           

           

           

          المطلب الثالث: أمثلة تطبيقية.

          1/ قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا الكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض" [25]

          المثال هنا في فعل " اثّاقلتم" وهو على وزن " افّاعلتم" وهناك ثلاثة مواضع في القرآن الكريم بهذا الوزن.

          ü     الموضع السابق.

          ü     في قوله تعالى: " وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها، والله مخرج ما كنتم تكتمون"[26]

          ü     في قوله تعالى: " فاداركوا فيها جميعا"[27]

          يقول سيد قطب فيتفسيره لهذه الآية (اثاقلتم) ، أنها تحمل أطنانا، فانظر كيف أثرت الصيغة الصرفية في إعطاء الكلمة دلالة أخرى كانت يمكن أن تؤدى بشكل أبسط، ولكن أضفت عليها الصيغة الصرفية "افاعلتم" دلالة أعمق مما لو كانت بصيغة " تفاعلتم"

           

          2/ قوله تعالى " إن الله لغفار لمن تاب.."

          فإن الله فتح باب التوبة، ومذفي كثير من الآيات يورد اسم الغفور، فزاد في هذه الآية يدلل على المبالغة والوفرة، وأن الله يغفر ويغفر دون أن تصور حدودا لذلك، غير الشرك به، وجاءت هذه الدلالة من خلال صيغة المبالغة فعال.

           

          3/" ولتجدنهم أحرص الناس على حياة"

          هذه الآية تصور حالة المنافقين، وحرصهم على الحياة، وجاءت دلالة حرصهم على الحياة من خلال صيغة التفضيل أفعل، فهم أحرص، ولكن على ماذا؟ لقد زاد القرآن في هذه الدلالة عندما أورد حياة نكرة لحقارتها، ولكنهم رغم ذلك أحرص من غيرهم عليها.

           

           

           

           

           

           

           

           

          المبحث الثالث: علاقة علم الدلالة بالبلاغة

           

          المطلب الأول: تعريف البلاغة

          لغة: بلغ، أدى، أوصل المعنى بصيغة من الصيغ التبليغية.

          اصطلاحا: العلم الذي يؤدي المعنى بعبارة معينة فصيحة، مؤثرة ملائمة للمقام الذي يقال فيه الكلام، وبمعنى آخر أكثر تحديدا فإن البلاغة هي تأدية المعنى بعبارة واضحة صحيحة وفصيحة، لها أثرها النفسي بشرط أن يلائم هذا الكلام الموطن الذي يقال فيه، والأشخاص الذين يخاطبون به، وهي قبل كل شيء فن من الفنون الأدبية الذي يعتمد على صفاء الاستعداد الفطري، ودقة إدراك الجمال وتبين للفروق الحقيقية الموجودة بين صنوف الأساليب.

          تعريف الفصاحة:

          لغـة: أفصح عن شيء، بيّن، ووضح وأظهر.

          اصطـلاحا: هي البيان والظهور والوضوح وسلامة الألفاظ من التعقيد وسوء التأليف، يوصف بها المتكلم والكلمة.[28]

          ومن ذلك ندرك أن عناصر البلاغة باعتباره علم قائم بذاته هي لفظ ومعنى وتأليف للألفاظ يمنحها قوة وتأثيرا وحسنا، ثم الدقة في اختيار الأساليب والكلمات على حسب مواطن الكلام ومواقعه وموضوعاته وحال السائلين والنزعة السمعية التي تتملكهم وتسيطر على نفوسهم.

           

          المطلب الثاني: علاقة البلاغة بالدلالة

          ارتبطت مباحث الدلالة باللغة وأصبحت "الدلالة" أو "علم الدلالة" أو "نظرية الدلالة" أو نظرية المعنى" أو "علم المعنى" منذ مطالع القرن العشرين فرعا من فروع البحث اللغوي "علما أن بعضا من الباحثين يراه ألصق بعلوم البلاغة والنقد الأدبي وآخرين يعدونه في وسط الطريق بين الدراسات اللغوية والدراسات النقدية، وهو في الوقت نفسه المدخل اللغوي إلى علم الأسلوب"

          ولقد حاول بعضهم حصر المباحث الدلالية في محاور ثلاثة :

          • يشكل المحور الأول العلاقة الرمزية بين الدال والمدلول والمنعكسات الاجتماعية والنفسية والفكرية
          • ويدور المحور الثاني حول التطور الدلالي والعلاقات السياقية والموقعية.
          • أما المحور الثالث فيتصل بالمجاز وتطبيقاته الدلالية وصلاته الأسلوبية.

           

          ومن تعريف البلاغة والفصاحة ندرك قيمة المعنى والدلالة في علم البلاغة، فهي كما ذكرنا آنفا العلم الذي يؤدي المعنى بعبارة صحيحة، أي يؤدي الدلالة بعبارة صحيحة، فلا يمكن أن نعطي بعبارة ما دلالة واضحة بينة للسامع دون أن نتمكن من هذا العلم، ويظهر هذا القصور جليا في آداءات المتكلمين أو الكاتبين الذي لما يمكنوا من هذا العلم.

          ويمكنا نلج هذا الموضوع المعقد نوعا ما بتفصيل العلاقة بين الدلالة الحقيقية والدلالة المجازية:

          إن العلاقة التي تربط الدلالة الحقيقية بالدلالة المجازية، لا تخرج عن تلك الأنساق الدلالية العامة التي تربط الدال بمدلوله، فالبحث في دلالة المجاز هو بحث في معنى المعنى. إذ أن مدلولاً أولاً (وهو الدلالة الحقيقية) يقود إلى مدلول ثان (وهو الدلالة المجازية) والأنساق الدلالية التي حددها علماء الدلالة ثلاثة: دلالة المطابقة ودلالة التضمن ودلالة الالتزام.

          ويمكن أن نلمس هذه الأصناف من الدلالات في المجاز بأنواعه وهو يشمل كل لفظ أو تركيب حوّل عن معناه الأصلي وبقيت تربطه معه علاقات تحدد عن طريق قرائن ذكرها علماء البيان والبلاغة، فالمعنى الذي تفيده "الكناية" كصورة بيانية يمكن أن يؤخذ بدلالته الأصلية أو دلالته المجازية فالمدلول الأول الأصلي مقصود مع المدلول الثاني المجازي، فالدلالة بناء على ذلك دلالة مطابقة، والكناية في عرف البلاغيين هي استعمال اللفظ والتركيب اللغوي في غير ما وضعا له أصلاً مع إمكان إيراد المعنى الحقيقي.

          أما دلالة المجاز، ذي العلاقة الجزئية حيث يذكر المعنى الجزئي ويراد به المعنى الكلي، فهو يعبر عن دلالة التضمن الذي يكون فيها المدلول الأول وهو الدلالة الأصلية المذكورة في السياق – محتوى ومتضمن في المدلول الثاني- وهو الدلالة المجازية المرادة من السياق.

           وإذا كان المجاز ذا علاقة كلية بحيث يعبر بالكل ويراد به الجزء فهو إشارة كذلك إلى دلالة التضمن ولكن في اتجاه عكسي ذلك أن المدلول الثاني –الدلالة المجازية المرادة- تكون محتواة ومتضمنة في المدلول الأول – الدلالة الحقيقية المذكورة.

          وإذا كان بين الدلالة الأصلية والدلالة المجازية علاقة تشابه وهي ما تفيده "الاستعارة"، إذ تشير هذه الصورة البيانية إلى اشتراك في صفة أو أكثر بين مدلول أول ومدلول ثان، فعلاقة المدلول الأول بالصفة أو الصفات التي تجمعه بالمدلول الثاني هي علاقة تضمن. أما علاقة الصفة ذاتها أو الصفات بالمدلول الثاني فهي علاقة التزام.

          إن المجاز يعد مبحثا خصبا لعلم الدلالة، إذ فيه تتجلى مرونة النظام اللغوي وانفتاحه على كل تغير للمعنى، وهو يؤكد من جانب آخر على مطاوعة اللغة لأساليب التعبير التي يفرضها الموقف ويتم في صلب النظام اللغوي استحداث أنظمة إبلاغية جديدة تحافظ على نقل الرسالة الإبلاغية، وهي غاية ما يرمي إليه أي نظام لغوي.

           

          المطلب الثالث: أمثلة تطبيقية.

          1/ قوله تعالى: "والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسّا ذلكم توعظون به، والله بما تعملون خبير"([29]) فاستعمل لفظ "رقبة" وأريد به "العبد الذي يعيش الرق" والرقبة هي جزء من الجسم وعلى ذلك فدلالتها متضمنة في دلالة الجسم.فالدلالة هنا دلالة ضمنية.

          2/ قولنا: "رأيت أسداً في المعركة "فعلاقة الأسد "بالشجاعة"- وهي الدلالة المرادة- هي علاقة تضمن من جهة، وهي علاقة إلتزام من جهة أخرى إذ اعتبرت الشجاعة أحد المقومات الأساسية "للأسد" أما علاقة "الشجاعة بالرجل المشبه بالأسد فهي علاقة التزام أيضاً باعتبار "الشجاعة" ليست صفة ثابتة في الرجل ومقوم أساسي له إنما هي صفة عرضية.

          3/ يقول الشاعر:

          قامت تضللني من الشمس               نفس أحب إلي مـن نفسي

          قامت تضللني ومن عجب               شمس تضلنني من الشمس

          في البيت الأخير لا يمكننا أن ندرك الفرق بين دلالة الشمس الأولى والشمس الثانية إلا بعد تفحص القضايا البلاغية في هذين البيتين، وندرك بعد دراسة المجاز الوارد في البيت الأخير أن دلالة الشمس الأولى هي النفس المذكورة في البيت الأول، وأن دلالة الشمس الثانية هي الدلالة الحقيقية للفظ، وأن العلاقة هنا علاقة مشابهة بين اللفظين، فلا يمكن معرفة دلالة اللفظين دون الخوض في دراسة الظواهر البلاغية المتوافرة في البيت الشعري.



          [1] المنجد في اللغة الطبعة العشرون، دار المشرق بيروت لبنان 1960 ص795-796

          [2] د.رجب عبد الجواد إبراهيم دراسات في الدلالة والمعجمية ص17 طبعة 2001 دار غريب

          [3] مقدمة ابن خلدون دار الكتاب العربي بيروت الطبعة الثالثة ص500.

          [4] المرجع السابق ص505.

          [5] رشيد بلحبيب مقومات الدلالة النحوية قراءة في بعض الخصائص ص4.

          [6] المرجع السابق ص 5.

          [7] المرجع السابق ص 7

          [8] المرجع السابق ص17.

          [9] المرجع السابق ص20

          [10] المرجع السابق ص21

          [11] المرجع السابق ص 7.

          [12]  د. طارق السويدان "الإعجاز في القرآن" (محاضرات صوتية)

          [13] الشيخ أحمد الحملاوي، شذا العرف في فن الصرف، ص17، مكتبة الصفا، الطبعة الأولى، تحقيق طه عبد الؤوف سعد وسعد حسن محمد علي.

          [14] المرجع السابق ص17.

           [15] المنجد في اللغة الطبعة العشرون، دار المشرق بيروت لبنان 1960 ص 422.

          [16] د.رجب عبد الجواد إبراهيم دراسات في الدلالة والمعجمية ص17 طبعة 2001 دار غريب

          [17] الشيخ أحمد الحملاوي، شذا العرف في فن الصرف، ص7.

          ([18]) المرجع السابق ص 15.

          [19] الشيخ أحمد الحملاوي، شذا العرف في فن الصرف، ص38.

          [20] الشيخ أحمد الحملاوي، شذا العرف في فن الصرف، ص72.

          [21] سورة نوح : 22.

          [22] الشيخ أحمد الحملاوي، شذا العرف في فن الصرف، ص73.

          [23] المرجع السابق ص 77.

          [24] المرجع السابق ص 18.

           [25] سورة التوبة 38

          [26] سورة البقرة 72

          [27] سورة الأعراف 38

          [28] المرجع السابق

          ([29]) سورة المجادلة الآية 3.

          • علاقة علم الدلالة بالعلوم الأخرى

            المبحث الأول: علاقة علم الدلالة بالمنطق

             

            المطلب الأول: تعرف المنطق.

            يرجع أصل لفظي logique في الفرنسية، وlogic في الأنجليزية إلى المصطلح اليوناني logos فهي كلها ذات معنى واحد، والاختلاف فقط في نطقها، وذلك بسبب استخدام المصطلح في حضارات مختلفة أو لغات مختلفة، فما عنته الكلمة اليونانية (الفكر) و( العقل) هو نفس ما عنته الكلمتان الفرنسية والأنجليزية، فهما أيضا تعنيان عندهم ( الفكر) و(العقل) بنفس معناها اليوناني، وهذا لا يعني عدم وجود معان أخرى للمصطلح، بل مصطلح أو كلمة logicke اليونانية عند مفكري اليونان المتأخرين تعني عندهم ما تعنيه كلمة logos  " وبالجملة أخذت كلمة logicke اليونانية التي لا نجدها عند المعلم الأول أرسطو طاليس معنى خاصا بحيث شملت الدراسات المنهجية العقلية التي وضعها وأطلق عليها اللفظ" [1]

            "أما المصطلح في اللغة العربية فهو حسب ما جاء يشير إلى "النطق" أو " الكلام" فالمصطلح من ناحية الاشتقاق الغوي يدل أولا علا الكلام، فهو الأصل اللغوي له .. وكذلك اشتقاق كلمة "منطق" في لغتنا العربية كان لها في الأصل المدلول الكلامي قبل أن تكتسب المدلول الفكري"[2]

            والمهمة الرئيسة للمنطق تكمن في أنه هو العلم الذي يبحث صحيح الفكر وفاسده، وهذه المهمة وضعت لها قوانين مشهورة، وهي " قوانين الفكر الأساسية"والتي أبرز مهامها أنها تعصم الذهن من الوقوع في الخطأ. والقوانين هي:

            1-   قانون الهوية

            2-   قانون عدم التناقض.

            3-   قفانون الوسط المرفوع

            هذه القوانين ترجع في أصلها إلى اللغة، فالقانون الأول يعني "الهوية" أي الشيء ذاته، واشتق له رمز "أ هي أ" هي عين ذاتها، ولا يمكن للإنسان أن يثبت لفظا يشير إلى شيء بعينه، ثم يثبت نقيظ اللفظ الأول في نفس إشارته إلى الشيء ذاته " فالشيء هو هو"

            أما القانون الثاني: وهو قانون عدم التناقض، فهذا القانون يقوم بحماية الإنسان من الوقوع في المتناقضات في "الفكر" و" الكلام" ويرمز إليه ب " لا يمكن أن تكون أ هي لا أ في آن واحد" ويعني أن الفكر لا يمكن إثبات الشيء ونقيضه، فالشيء لا يمكن أن يساوي نقيضه ويثبته، وهذا في اللغة واضح.

            أما القانون الثالث: وهو المعروف ب "الوسط الممتنع" أو " المرفوع" والذي يعني أن القضية إما تكون أ أو لا أ وهي الصيغة الشرطية لقانون الهوية، ولغويا تعني "الجملة الشرطية التي تتكون من شرط وجوابه، والصيغة في حد ذاتها هنا هي صيغة الشرط المنفصل، وذلك بظهور أدواته المتمثلة في "إما ... أو ..." وتعتبر هذه الصيغة حماية للفكر من الوقوع في الخطأ، فهي احتمالية تثبت فيها ذات الشيء أو غيرها ولا وسط بينهما.

            والقوانين الأساسية للفكر التي وصفها المنطق واضح أصلها اللغوي، كما تعد من أهم نقاط اتصال الفكر باللغة، لأنها تعبر عن إثبات الشيء بعينه، أو بإثبات نقيضه، " وما دام المنطق يعنى بضبط قواعد الفكر، فلا بد من دراسة وسائل التعبير عن هذا الفكر"

             

            المطلب الثاني: تحديد العلاقة

            "إن البحث في الدلالة يساعد على اكتشاف حقيقة علاقة الفكر باللغة، فتعبير اللفظ عن معناه نتيحة منطقية للسمة الدلالية في التعبير، وتنطبق هذه السمة على اللفظ بنوعيه المفرد والمركب"[3]

            إن العلاقة بين المنطق والدلالة علاقة وطيدة، إذ لا يمكننا أن نتوصل إلى الدلالات الحقيقية والممكنة للألفاظ دون توافر قدر معتبر من القواعد المنطقية التي تحكم العقل البشري وتقوّم الفكر، ويمكننا دراسة تفاصيل هذه العلاقة من خلال النقاط التالية:

            1/ تقسيم الدلالة على أساس منطقي:

            إن الأقسام التي أوردناها من خلال المبحث الأول في الفصل الأول إنما كان الأساس فيه المنطق، فلقد كان الفضل والسبق للفلاسفة المسلمون للتحدث عن هذه الأقسام من وجهة نظر منطقية، ويرى الفلاسفة المسلون أن الدلالة تنقسم قسمين رئيسين: دلالة لفظية ودلالة غير لفظية، والدلالة اللفظية تنقسم ثلاثة أقسام: دلالة وضعية، ودلالة عقلية، ودلالة طبيعية، "والجدير بالذكر أن هؤلاء الفلاسفة لم يستعملوا إلا نوعا واحدا منها، أو لم يعتمدوا في منطقهم إلا نوعا واحدا من الدلالة، وهو الدلالة الوضعية، التي قاموا بتقسيمها إلى ثلاثة أنواع "دلالة مطابقة، ودلالة تضمن، ودلالة التزام" " [4]

            إذا فموضوع الدلالة هنا من الجانب المنطقي انحصر في الأنواع الثلاثة التي بالفعل عرفها المنطق عن طريق دلالة الألفاظ على معانيها، وتكونت بذلك النظرية التي عرفت "بنظرية الدلالة" " [5]

            فالتقسيم الذي انبنت عنه الدلالة إنما كان أساسه المنطق ولعل هذا أول اتصال بين المنطق والدلالة، ناهيك عن وجود قسم كامل هو الدلالة العقلية والتي لا يمكن إدراكها إلا باستخدام القواعد المنطقية للتوصل إلى السبب والعلة التي تجمع الدال والمدلول.

             

             

            2/ الجملة في اللغة والقضية في المنطق:

            ظهرت بعض الدراسات التي حولت ربط المنطق باللغة، فدرست جوانب كثيرة في هذه العلاقة، وأبرز ذلك محاولة الربط بين الجملة في اللغة والقضية في المنطق، ودراسة إمكانية تحليل الجملة اللغوية لتستجيب لقواعد التحليل المنطقي، أو بمعنى آخر طرق تحوي الجملة اللغوية إلى قضية ذات دلالة منطقية، وهو العمل الذي أشار إليه أحد الباحثين المحدثين بقوله: " يحلل الناقل المنطقي العبارات اللغوية ليصل إلى دلالتها إذا خلت من الالتباس، ويميز بين هذه الدلالات إذا تعددت، أما إذا اتفقت فإنه يجمع بينهما، ويعتمد في ذلك على دراية باللغة وفهمه لمضامين عبارتها وبناها كما هو الشأن بالنسبة للناقل الأديب" [6]

            يكشف النص عن الإشارة لأهم النقاط التي يبرزها المنطقي وهو يحاول تحويل "الجملة" إلى "قضية"، فأول هذه الخطوات : تحليل عبارات اللغة، بقصد معرفة الدلالة فيها.

            والخطوة الثانية: التمييز بين أنواع الدلالة في العبارة اللغوية في حالة تعددها، وهذه العملية تعريف بعملية تصنيف للدلالة.

            والخطوة الثالثة: تتمثل في الجمع بين الدلالات، وهذه الخطوة تتم في حالة اتفاقها.

            وأما الشرط الذي يجب توافره في المنطقي وهو يقوم بهذا العمل، هو الدراية الكاملة باللغة، مع حصوله على عدد وافر من الألفاظ حتى يكون تصنيفه المنطقي للدلالة اللغوية، وتحويل الجملة إلى قضية منطقية على أساس علمي صحيح.[7]

            إن المنطقي درس الجملة تحت اسم "القضية"، فانحصرت دراسته لها في جوانب التركيب والدلالة الخبرية، فهو لم يقبل إلا الجملة التي تحمل خبرا، ويحتمل فيها الصدق والكذب، وهو أساس القضية في المنطق، فانحصر إذا اهتمام المنطقي في نوع واحد من الجمل وهو "الجملة الخبرية" التي تضيف شيئا جديدا للسامع.

            إن تحليل أجزاء الجملة يمكننا من مقارنة الجملة في اللغة بالقضية في المنطق، والشكلين التالين يوضحان ذلك.

             

             

             

             

             

             

             

             

            إن العلاقة بين الجملة اللغوية والقضية المنطقية يظهر من خلال التشابه الواضح في الرسمين التوضيحين السابقين، فهما متاطبقين ومتقاربين في البناء.

            3/ العلاقات الدلالية في الجملة:

            يمكننا حصر أهم العلاقات الدلالية على مستوى الجملة في:

            -       إعادة التعبير.

            -       التلازم.

            -       التعارض.[8]

            ومن أهم هذه العلاقات التي تعتمد على المنطق بصفة كبيرة علاقة التلازم، وعلاقة التعارض.

            علاقة التلازم: هي علاقة يؤدي فبها صدق جملة معينة إلى صدق جملة أخرى.

            علاقة التعارض: وذلك إذا كنا أمام جملتين بحيث إذا كانت إحداهما صادقة، تكون الثانية كاذبة.

            ولا يمكننا إدراك هذه العلاقات دون الرجوع إلى المنطق وقواعده.

             

            المطلب الثالث: أمثلة تطبيقية

            1/ علاقة التلازم على مستوى الجملة:

            نلاحظ الجمل التالية:

            أ‌-     اشترى زيد سيارة من محمد.

            ب‌- بـاع محمد سيـارة لزيـد.

             

            إن الجملتين (أ) و (ب)  تملكان علاقة تلازم فيما بينهما، أي أن صدق الجملة أ يؤدي إلى صدق الجملة ب،  والعكس صحيح، أي أنه إذا كان زيد اشترى سيارة من محمد، فإن محمد قد باع سيارة لزيد.

             

            وهناك جمل تملك علاقة تلازم ذات اتجاه واحد، مثل:

            أ‌-     الحارس قتل اللص.

            ب‌- مات اللص

            فإذا كانت الجملة (أ) هنا صحيحة فإن الجملة (ب) صحيحة، والعكس غير صحيح، أي أنه إذا كان الحارس قتل اللص، فإن اللص قد مات، أم إذا قلنا أن اللص مات، فلا يعني ذلك بالضرورة أن الحارس هو الذي قتله.

            وهذا ما يبدو واضحا في التدليل على علاقة المنطق بالدلالة.

             

             

             

            2/ علاقة التعارض على مستوى الجملة:

            نلاحظ الجملتين التاليتين:

            أ‌-     زيـد ذكي.

            ب‌- زيـد غبي.

            فإنه إذا كانت الجملة (أ) صادقة فإن الجملة (ب) غير صادقة، والعكس صحيح، أي إذا كان زيد ذكي فلا يمكن أن يكون غبي في الوقت نفسه، والعكس صحيح.

            وهذا ما يتلاءم ما قلناه في قواعد المنطق، وخاصة القانون الثاني وهو قانون عدم التناقض.

             

            3/ الجملة الشرطية والقضية الشرطية:

            نلاحظ الجملتين التاليتين:

            أ‌-     إن أطاع وائل الله دخل الجنة.

            ب‌- إما أن يكون الرجل من أصحاب النار أو الجنة.

            الجملة الأولى هي جملة شرطية متصلة، وهي في الوقت نفسه قضية شرطية متصلة.

            الجملة الثانية جملة شرطية منفصلة، وهي في الوقت ذاته قضية شرطية منفصلة.

             

             

             

             

             

             

             

             

             

             

             

             

             

             

             

             

             

            المبحث الثاني: علاقة الدلالة بالمعجم.

             

            المطلب الأول: تعريف المعجم.

             

            المعجم في اللغة:

            العُجم، والعَجم : خلاف العُرب والعَرب.

            والأعجم الذي لا يفصح ولا يبين كلامه، والعَجم : الإبهام والخفاء وعدم الإفصاح.

            قال الشاعر:

            منهل للعباد لا بد منه    منتهى كل أعجم وفصيح.

            وعجمت الكتاب: أبهمته، ومن ذلك : قولهم رجل أعجم، وامرأة عجماء، إذا كانا لا يفصحان زلا يبينان كلامهما، وسميت البهيمة عجماء لأنها لا تتكلم، وبلاد العجم سماها العرب بذلك لأن لغتها غير واضحة لهم ولا بفهمونها .فإذا أدخلنا الهمزة على الفعل ليصير (أعجم) أخذ الفعل معنى جديدا من معنى الهمزة الذي يفيد هنا السلب والإزالة والنفي، ففي اللغة: أشكيت زيدا: أزلت له شكايته، وفيها أقذيت عين فلان إذا أزلت ما بها من قذى، ومثلها قسَط بمعنى ظلم، وأقسط بمعنى أعدل أي أزال الظلم، وشفى : عالج، وأشفى بمعنى أتعب، ووعد وأوعد، وبهذا يصير معنى أعجمي: أزال العجمة أو الغموض أو الإبهام، ومنه أطلق على نقط الحروف : الإعجام، أي إزالة اللبس والغموض، فحرف الجيم بدون النقطة يصلح أن يكون جيما أو حاء أو خاء، فإذا وضعنا النقطة، أي أعجمناه زال الغموض، ومن هنا أيضا جاء لفظ ( المعجم) بمعنى الكتاب الذي يجمع كلمات لغة ما ويشرحها ويوضح معناها، ويرتبها بشكل معين، إذا كلمة معجم، إما أن تكون اسم مفعول من الفعل أعجم، وإما أن تكون مصدرا ميميا من نفس الفعل، ويكون معناها إزالة العجمة والغموض.

             

            المعجم في الاصطلاح:

            كتاب يضم أكبر عدد ممكن من مفردات اللغة المقرونة بشرحها وتفسير معانيها، على أن تكون المواد مرتبة ترتيبا خاصا، إما على حروف الهجاء وإما على الموضوعات، ... إلخ.

            وفي تعريف ثان للمعجم:هو كتاب يضم كل كلمة في اللغة مصحوبة بشرح معناها، واشتقاقها وطريقة نطقها، وشواهد تبين مواضع استعمالها.

            وفي تعريف ثالث للمعجم:هو ديوان لمفردات اللغة مرتب على حروف المعجم، أي حروف الهجاء وأول من استعمل لفظة (المعجم) هم رجال الحديث وليس علماء اللغة، وأول من استعمل اللفظة من المحدثين الإمام البخاري.

            وأول كتاب أطلق عليه اسم (المعجم) هو (معجم الصحابة) لأبي يعلى أحمد بن علي (210هـ - 307هـ )

            المطلب الثاني: تحديد العلاقة

            لا شك أن المعجم أساسا موضوع للكشف عن معنى الكلمات، وللكلمة في المعجم معنيان، معنى في ذاتها، ومعنى عندما تنركب مع غيرها من الكلمات، فالكلمة في المعجم لها معنى شائع عام (سواء كان عرفيا أو اجتماعيا) ، ولكنها عندما تتركب مع غيرها تكتسب معنى محددا ذا دلالة واحدة، وإذا لم يكن للكلمة معنى في ذاتها فلن يفيد تركيبها مع غيرها في الكشف عن الدلالة، وقد يكون للكلمة معنى في المعجم ولكنها ليس محددة للدلالة عندما تتركب مع غيرها، ولكي يستفيد علم الدلالة من مفردات المعجم يشترط عليها شرطين:

            1-   أن تكون لها معنى في نفسها.

            2-   وأن تؤدي معنى عندما تتركب مع غيرها.

             

            المطلب الثالث: أمثلة تطبيقية

            1/ الكلمة التي ليس لها دلالة في ذاتها:

            كقولنا ( القعرب شرب البنع) فكلمتا القعرب والبنع لا معنى لهما في المعجم ولذا عند تركيبهما مع غيرها فلن يفيد هذا التركيب في كشف الدلالة.

             

            2/ الكلمة التي لها معنى في نفسها ولا تفيد في تركيبها مع غيرها:

            كأن نقول (الأفكار عديمة اللون تنام غاضبة)

            فهذه الكلمات لها مدلولها المعجمي، ولكن لا معنى لها مع غيرها.

             

            المبحث الثالث: علاقة علم الدلالة بالصوتيات

             

            المطلب الأول: تعريف علم الصوتيات

            "هو ذلك العلم الذي يدرس الأصوات في حد ذاتها، مخارجها وصفاتها من ناحية، ووظائفها في الاستعمال اللغوي من ناحية أخرى، إذا: دراسة الأصوات قائمة على شقين: أحدهما يتعلق بالأصوات في نفسها، وثانيهما يتعلق بوظيفة هذه الأصوات في عملية الكلام"[9]

             

            المطلب الثاني: تفصيل علاقة الدلالة بعلم الصوتيات

            إن من أعجب العلاقات التي يمكن أن تدرس بدقة علاقة الدلالة بالصوتيات، فبعد تأمل بسيط تفتح لك الشهية في دراسة هذه العلاقة العجيبة، وتدرك قيمة دراسة الصوتيات من جهة، وأهميتها في تغير الدلالة، وارتباطهما الوثيق بالأداء الصوتي الذي يلعب دورا كبيرا في تحديد معنى الألفاظ والتراكيب، ومراد القائل من عبارته.

            ويمكن دراسة تفاصيل هذه العلاقة من خلال النقاط التالية:

            1/ المعنى الإيحائي والتأثير الصوتي:

            المعنى الإيحائي هو ذلك النوع من المعنى الذي يتعلق بكلمات ذات مقدرة خاصة على الإيحاء نظرا لشفافيتها، ويمكن التطرق إلى التأثير الصوتي في ذلك.

            فالتأثير الصوتي نوعان: تأثير مباشر، وذلك إذا كانت الكلمة تدل على بعض الأصوات أو الضجيج الذي يحاكيه التركيب الصوتي للاسم، ويسمى هذا النوع primary onomatopoeai، ويمكن التمثيل له بالكلمات العربية: صليل (السيوف)- مواء (القطة) – خرير ( الماء)  والكلمات الإنجليزية crack و hiss و zoom ، والنوع الثاني : التأثير غير المباشر ويسمى secondary onomatopoeai مثل القيمة الرمزية للكسرة ( ويقابلها في الإنجليزية I) التي ترتبط في أذهان الناس بالصغر أو الأشياء الصغيرة.[10]

            2/ التنغيم والنبر:

            يعد إبراهيم أنيس أول من أدخل مصطلح التنغيم في الدراسات اللغوية العربية المعاصرة، وسماه (موسيقى الكلام) ، حيث ذكر(أن الإنسان حين ينطق بلغته لا يتبع درجة صوتية واحدة في النطق بجميع الأصوات ، فالأصوات التي يتكون منها المقطع الواحد ، تختلف في درجة الصوت وكذلك الكلمات قد تختلف فيها ... ويمكن أن نسمي نظام توالي درجات الصوت بالنغمة الموسيقية)[11]

            و يقول تمام حسان  ( التنغيم ارتفاع الصوت وانخفاضه أثناء الكلام )

            ولاشك أن للتنغيم وظائف يقوم بها ، منها :

            1 - وظيفة أدائية بها يتم نطق الجملة في اللغة حسب نظم الأداء فيها وحسب ما يقتضيه العرف عند أهل اللغة .

            2 - وظيفة دلالية بها يتم معرفة المعاني المختلفة ورغم أن هاتين وظيفتان مختلفتان إلا أنه لا يمكن أن نفصل الوظيفة الأدائية عن الدلالية.  فهما متلازمتان ومتكاملتان.  لذا فإن إيجاد قواعد عامة توضح التنغيم ، وأهمية ما يسمى بدرجة الصوت  (( Pitch )) وتتابعها إنما هو على سبيل المقاربة .  فالتنغيم مجموعة معقدة من الأداء الصوتي بما يحمل من نبرات، وفواصل صوتية، وتتابع مطرد للسكنات والحركات ، التي بها يحدث الكلام وتتميز دلالاته.

            فالتنغيم والنبر لهما أهمية بالغة في إبراز معنى  التعجب والاستفهام، وحالة المتكلم التي لها دور في الإيحاء بما يريد.

            وقد تجد كلمة مكتوبة تحمل أكثر من معنى، لا يمكن لك فك رموزها واختيار المعنى المناسب والدلالة الصحيحة إلا بالأداء الصوتي، وإعطاء نبر أو تنغيم لبعض أجزاء الكلام.

            ولعل هذا يتضح أكثر من خلال الأمثلة.

            3/ معاني الحروف:

            إن لكل حرف خصائص تجعله يحمل دلالات في استعمالاته، ولهذا يمكننا أن نقول بأن الكلمات العربية لم تختر اعتباطا للدلالة على معانيها، بل إن هناك ملامح عبقرية عربية في استعمال حروف المعاني والأسماء الموازية لها بما يتوافق مع خصائص ومعاني حروفها، لذا انبرى من يقول بضرورة "الكشف عن العلاقة الفطرية بين معانيها وأصول استعمالاتها كما وردت في كتب الصرف والنحو، وبين الخصائص (الهيجانية والإيمائية والإيحائية) للحروف التي تشارك في تراكيبها "[12]

            بل إن البحث توسع ليدلل على فطرية اللغة العربية، ويرد على من قال بتواضع اللغة واعتباطية العلاقة بين الدال والمدلول في ألفاظها.

            ويمكننا أن نقول " أن الحروف العربية (بخصائصها ومعانيها) مشحونة بشتى الأحاسيس والمشاعر الإنسانية مما جعل الكلمة العربية بهذه الطاقة الذاتية ( تشخص) الأحداث والمسميات والحالات الوجدانية، في مخيلات سامعيها وأذهانهم وفقاً لمقولة ابن جني:

            "سوقاً للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المراد"."[13]

                    إن دراسة أثر أصوات الحروف الدلالي جعلت بعض المتخصصين يقولون بأن العربي اقتبس الألفاظ من خصائص حروفها ليدلل على معانيها الواقعية " فبعد أن اهتدى العربي إلى أصوات حروفه ومعانيها، بقي على فطرته البدوية يتقمص الأشياء والأحداث لاستشفاف خصائصها الذاتية. وهكذا أخذ ينتقي الحروف التي تتلاءم إيحاءاتها الصوتية مع تلك الخصائص، ولكن وفق ترتيب معين يماثل تراكيب الأشياء، كما في كلمات (باب، بير، طبل) ، أو يماثل حركات الأشياء، كما في (رفرف، زلزل، لحس، بحث)، ليتحول المدرج الصوتي بذلك، من أول الحلق داخلاً حتى أخر الفم في الشفتين خارجاً إلى حلبة رقص. وهكذا يتحول الصوت ذاته إلى راقص ينتقل برشيق (أقدامه) على مخارج الحروف، إلى الأمام أو الوراء، إلى فوق أو تحت، وإلى اليمين أو ذات اليسار، ليصور الصوت بذلك الأشياء والأحداث بحركات إيمائية تمثيلية مسموعة غير منظورة. وهكذا تتحول اللفظة العربية إلى رقصة صوتية بارعة، لا توحي بمعناها الأصيل فحسب، وإنما تجسّده أيضاً، مما لا يقدر على ذلك راقص ولا ممثل أو فنان." [14]

            4/ الوقف والوصل والدلالة:

            إن طريقة قراءة أي موضوع يمكن أن يؤدى بطرق مختلفة، وذلك حسب شخصية القارئ من جهة، وحسب العبارات المصاغة واختيار الألفاظ فيها، ومن أهم معالم اختلاف طرق الأداء الوقف والوصل، ويظهر ذلك جليا في النصوص التي ترتفع فيها طبقات المعاني وتتعقد، وخاصة في القرآن الكريم، وقراءة الشعر العربي، والخواطر الأدبية المفعمة بالأحاسيس والعواطف الجياشة.

             

            المطلب الثالث : أمثلة تطبيقية

            1/ التنغيم والنبر:

            أ- قوله تعالى" قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين، قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه" [15]

            لا شك أن تنغيم جملة "قالوا جزاؤه" بنغمة الاستفهام وجملة "من وجد في رحله فهو جزاؤه" بنغمة التقرير سيقرب إلى الأذهان ويكشف عن مضمون الآية.

            ب- كذلك قول القائل : " سبحان الله " عندما يرى شيئا عجيبا، يختلف معناها ودلالتها عندما يقول الكلمة نفسها في حالة الغضب، فإن الذي يفرق بين مدلول هذه الجملة في الحالتين هو طريقة التنغيم.

            ج- أما النبر فقد ذكر الطناحي أنه سأل الشيخ عامر عنه فأجابه بقوله :  (( إن القراء لم يذكروا هذا المصطلح ولكنه بهذه الصفة يمكن أن يسمى  (( التخليص )) أي تخليص مقطع من مقطع )) وذكر أمثلة سمعها من شيخه منها قوله تعالى : ) فسقى لهما ثم تولى الي الظل ( وقوله تعالى : ) فقست قلوبهم ( وقوله عز وجل : ) وساء لهم يوم القيامة حملاً ( يقول :  (( فأنت لو ضغطت على الفاء في الآية الأولى صارت من الفسق لا من السقي ، وإن لم تضغط على الفاء في الثانية صارت من الفـقس لا من القسوة أما في الآية الثالثة فلابد من أن تخلص  (( ســـاء )) من  (( لهم )) حتى يكون من السوء لا من المساءلة لو خطفها خطفة واحدة )) ))[16] .

            د- ويذكر السيوطي ما حدث بين الكسائي واليزيدي حين سأل اليزيدي الكسائي بحضرة الخليفة هارون الرشيد عن بيت من الشعر أنشده وقال له هل ترى فيه من عيب :

            لا يكونُ العيرُ مهراً       لا يكون المهرُ مهرٌ

             (( فقال الكسائي قد أقوى الشاعر ، لابد أن ينصب المهر الثانية على أنه خبر كان ، فقال اليزيدي الشعر صحيح إنما ابتدأ فقال المهر مهر )).[17]

             

            هذه الحادثة تدل على أن المنشد قد سكت سكتة عند  (( لا يكون )) الثانية ونطقها بنغمة عالية ومنتهياً بنغمة منحدرة ثم ابتدأ بقوله المهر مهر

            2/ معاني الحروف:

            قام الدكتور حسن عباس بدراسة رائعة حول خصائص الحروف العربية ومعانيها ليثبت ارتباط دلالات الألفاظ بخصائص حروفها في العربية، واختلاف ذلك في اللغات الأخرى، واقتبسنا من دراسته تلك دراسته لحرف الراء ومعانيه ودلالاته، وآثرنا أن نسرده بكامله تعميما للفائدة وزيادة في تفصيل إثبات هذه النظرية.

            حرف الراء:

            مجهور متوسط الشدة والرخاوة. شكله في السريانية يشبه الرأس . قال عنه العلايلي: إنه (يدل على الملكة وعلى شيوع الوصف). تعريف مبهم.

            لئن كان بعض أصوات الحروف العربية يماثل عظام الإنسان في قساوتها ، وبعضها يماثل عضلاته في قوتها ومرونتها ، وبعضها الآخر يماثل لحمه في ليونته وطراوته ، و غيرها يماثل أعصابه في حساسيتها ورهافتها وما إلى ذلك من وظائف أعضاء البدن وخصائص الحروف ، فإن صوت حرف الراء من أصوات الحروف هو أشبه ما يكون بالمفاصل من الجسد.

            وانطلاقاً من خاصية التمفصل هذه في صوت (الراء) وفي مفاصل الجسد، قد ادخل العربي هذا الحرف في معظم الأعضاء التي تتصل بغيرها بمفاصل غضروفية. منها:

            الرأس . الرقبة . المِرفق . الركبة . الرضفة . الرِّجل. الرسغ. الوِرك. الورّ (الورك) . الفقرة. ويلحق بها الأعضاء التي تتوافق معها في ظاهرة التحرك . هي:

            الخصر (لتأوده وتثنيه) . الرئة (كعضو للتنفس). الصدر (لظاهرة تحركه أثناء الشهيق والزفير، صعوداً وهبوطاً). الشَّعر (لظاهرة نوسانه مع الانسام أو حركة الجسم). البصر والنظر (لتنقلهما المستمر بين المرئيات).

            وفي الحقيقة، إن حاجة اللغة العربية إلى حرف الراء لاتقل عن حاجة الجسد للمفاصل. فلولا صوت الراء لفقدت  لغتنا الكثير من مرونتها وحيوتها وقدرتها الحركية ، ولفقدت بالتالي الكثير من رشاقتها، ومن مقومات ذوقها الأدبي الرفيع.

            فكما أن مفاصل الجسد تساعد أعضاءه على التحرك بمرونة في كل الاتجاهات، وعلى تكرار الحركة المرّة بعد المرّة ، فإن حرف الراء بتمفصل صوته (ر. ر. را) ، وبرشاقة طرف اللسان في أدائه، قد قدَّم للعربي الصور الصوتية المماثلة للصور المرئية التي فيها ترجيع وتكرار، وتأرجح ذات اليمين وذات الشمال ، وذلك" حذوا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث"، كما قال ابن جني:

            فليس هناك أيُّ حرف في الدنيا يستطيع صوته أن يؤدي بعض هذه الوظائف،  فهو من المقومات الأساسية للغة العربية . لابل ما أحسب أن ثمة لغة يمكن أن تخلو منه.

            فما رصيد هذه الخصائص في صوت (الراء) على واقع المعاجم اللغوية ؟.

            بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على ثلاثمئة وثمانية وعشرين مصدراً تبدأ بحرف الراء.

            كان منها مئة وثمانية وسبعون مصدراً تدل معانيها على التحرك والتكرار والترجيع، بما يتوافق مع الخصائص الحركية في صوت الراء، منها، مع بيان أسباب تصنيف بعضها في هذا الجدول:

            رأرأ الحيوان بذنبه (بصبص). رؤُد الغصن (تمايل يمنة ويسرة). رابل (مشى متمايلا).

            ربك الشيء (خلطه). رتك البعير (ركض بخطى متقاربة). رثى الميت (عدد محاسنه، للتكرار). رجّه (هزّه وحركه بشدة). الأرجوحة. رجرج (تحرك واضطرب). الرَّحى والرحا (أداة الطحن ، للدوران). المِردن (المِغزل، للدوران). ردفه (تبعه ، ركب خلفه). رزف الإنسان ( أسرع من فزع). رضخت التيوس (تناطحت). رضع. أرضك عينيه (أغمضهما وفتحهما). ردهّ (أرجعه). رعج البرق (اضطرب). رعرع الشيء (حرَّكه وزعزعه).رعس (رعش). رغست المرأة (كثر ولدها، للتكرار). رعص(ارتعد تحرك). رعض (انتفض). الرفث. رفّ ورفرف. الرعْون (الكثير الحركة، ومنه الأرعن بمعنى الأهوج). ترافصوا الماء بينهم (تناوبوه، للتكرار). رقص. أرقل (أسرع). ركض. رمع (اضطرب وتحرك). رمل (هرول). رنح(تمايل لسكر). ترهره السراب (تتابع). ارتهش (ارتعش). ترهيأ( تحرك واضطرب). الريح. الروح (مابه حياة النفس ، لقدرتها المطلقة على التحرك). راد (جاء وذهب) . راغ (ذهب يمنة ويسرة لخديعة). راع ريعا (عاد ورجع). راه السراب (اضطرب).

            كما عثرت على اثنين وأربعين مصدراً تدل معانيها على الرقة والنضارة والرخاوة بما يتوافق مع هذه الموحيات في صوت الراء إذا لفظ مخففا بعض الشيء منها:

            رأف به. الرحيق. الرخص. الرحمة. رخُم الصوت (لان وسهل). الرخاوة.  رغد العيش. الرفاهية. الرَّقة. رهِل لحمه. راق روقا( صفا ) . راخ ريخا (لان واسترخى). ران عليه النعاس.

            كما عثرت على تسعة مصادر تدل معانيها على أصوات فيها ترجيع وتكرار، بما يتوافق مع هذه الخصائص في صوت الراء هي.

            رجس البعير (هدر شديدا) الرَّز ( صوت الرعد وهدير الجمل). رزف البعير (صوت) الرعد. رعقت الدابة (صوّت بطنها في العدو). رنّم (رجّع صوته). الرغاء (صوت الإبل). الرنين. الرطيط (الجلبة والصياح). مع ملاحظة مشاركة حرفي (ز،ن) للصوت والرنين في أربعة منها.

            وكان منها أربعة مصادر للفزع والخوف في توافق بين مظاهر الاضطراب التي تنتاب من يتعرض لهذه الحالات الشعورية ، وبين ظاهرة الاضطراب والتكرار في صوت الراء هي:

            رجب رجبا ورجوبا (فزع) . رعب. راع روعا (فزع) . رهبه (خافه) . مع ملاحظة مشاركة حرفي (ع. هـ) في ثلاث منها وهكذا إذا لحظنا أن المصادر التي تدل معانيها على أصوات ومشاعر  إنسانية قد تأثرت بالخصائص الصوتية لحرف الراء ، فإن نسبة تأثيره في معاني المصادر التي تبدأ به تبلغ (70%).

            ومما يلفت النظر أنني عثرت على تسعة وعشرين مصدراً تدل معانيها على الثبات والاستقرار والربط وضمّ الأشياء إلى بعضها بعضا والإقامة، مما يتناقض مع الخصائص الحركية في صوت الراء.

            فما علة ذلك ؟ لقد لحظت في الجداول السابقة أنَّ العربي قد استخدم خاصيَّة التحرك والترجيع والتكرار في صوت الراء بمعرض التعبير عن معانيه برهافة سمع ونباهة ذهن، يستبعد معهما أن يقع في مثل هذا التناقض . وإذن ما علَّة ذلك؟

            بتأمل معاني هذه المصادر ومشتقاتها يلاحظ أن العربي قد جعل حرف الراء في مقدمة بعضها للكشف عن واقعة التحرك والاضطراب التي يبدأ الحدث بها. وذلك (سوقا للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المراد)). كما قال ابن جني. وهي:

            ربضت الغنم (طوت قوائمها ولصقت بالأرض وأقامت). ربط الشيء (شدّه بالرباط). ربقه (ربطه بالرّباق، وهو ذوعرى لربط الدواب) رزح البعير (ضعُف ولصق بالأرض إعياءً أو هزالاً) . رزى على الأرض (لزم فلم يبرح). رسب (انحطّ وذهب إلى أسفل).

            رسخ (ثبت في موضعه متمكناً ، ومنه رسخ المطر ، غاص نداه في الأرض). رسّ الشيء في الشيء (دخل وثبت). رسا رسوا (ثبت ، وأرسى الوتد في الأرض، ضربه فيها). رقد (نام، ولكن بعد تقلب) . ركد (سكن وهد أ وثبت، ولكن بعد تحرك واضطراب). ركز الشيء (أقرّه وأثبته). ارتكف الثلج (وقع وثبت في الأرض).رمس الميتَ (دفنه وسوّى عليه التراب). رثد المتاع(ضم بعضه إلى بعض متسقاً أو مركوماً).

            رصّه، ورصرصه، ورضنه (ضمَّ بعضه إلى بعض). رصف الحجارة (ضمَّ بعضها إلى بعض).

            أما المصادر الباقية فقد جعل العربي حرف الراء في مقدمتها للكشف عن خاصية التكرار في الحدث المعبر عنه على الوجه التالي:

            ربغ في النعمة (أقام فيها). رتب الشيء (أثبته، ومنه رزق راتب، أي ثابت دائم، للتكرار). رجن بالمكان (أقام، ومنه رجن الحيوان أي ألِف البيوت ، للتكرار). ربد بالمكان وردح به، وركا ركوا ورمأ رموا ورزن به ورمك فيه (أقام) .

            وذلك لأن  الإقامة في المكان تتضمن التكرار والاستمرار بداهة ، ولولاه لكان دخول المكان تعريجا أو زيارة أو مرورا عابرا ، وما إلى ذلك من النعوت.

            ولكن ماذا عن المصادر التي تنتهي بحرف الراء؟

            بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على ثلاثمئة واثنين وخمسين  مصدراً تنتهي بحرف الراء .

            كان منها مئة واثنان وسبعون مصدراً تدل معانيها على التحرك والترجيع والتكرار. منها:

            . أشر الخشبة ووشرها بمعنى (نشرها). أكَرَ (حرث الأرض وزرعها).أفر (نشط ووثب في عدوه). بحر الأرض (شقها) . بذر الحبَّ( ألقاه) في الأرض للزراعة) بَزَرَ الحبّ ألقاه في الأرض للانبات).بصر (نظر). بطره (شقه). بغرت الريح (هاجت فأمطرت). بعثره (فرقه وبدَّده).تار الماء توراً ( جرى). التيار ( شدة جريان الماء)

            ثار ثوَراناً وثورا وثورة (هاج وانتشر). الجذر (لحركة انتشاره في الأرض).

            جرّه. حدر السفينة (دفعها من أعلى إلى أسفل). حطره (صرعه) . حفر . حمر الشيء (قشره). حار حورا (رجع). حار الماء حيرا (اجتمع ودار) . خشر (هرب جُبْناً).خطر (اهتز وتبختر). دبر (ذهب وولى). درّ الحليب (كثر ، جرى وسال). دغر عليه (اقتحم من غير تثبُّت). دعثره(صرعه وهلكه). دمره. دار (طاف حول). . زفر(أخرج نفسه بعد مدِّه إياه). سعر الفرس (عدا شديدا). سار. شتره (قطعه). تشذَّر القوم (تفرقوا واختلفت مذاهبهم).شرّ الماء (خرّ وتساقط قليلاً). صار صيرورة ( تحول من حال إلى حال). ضبر (جمع قوائمه ووثب) ضفر (وثب عدوا). طفر (قفز).عبر. عثر. عصره (استخرج ماءه). عار عيرا وعيرانا (ذهب وجاء مترددا). فأر التراب (حفره). فرّ فرفر.

            فار الماء. قشره. قطر الماء. الكتر (مشية فيها تخلّج كالسكران). كرّ الفارس (عاد مرّة بعد مرّة). كوَّر العمامة (لفها). مخرت السفينة (جرت تشق الماء).مصر الناقة (حلبها). مغر في البلاد (ذهب وأسرع). مار الشيء مورا (تحرك وتدافع).

            نثره (رمى به متفرقاً). . هبر اللحم (قطعه قِطعاً كباراً). هشر الناقة حلب ما في ضرعها). همر الماء (انصبّ) . وثر الشيء (وطِئه). وهر الرملُ (انهار).

            وكان منها اثنان وعشرون مصدراً تدل معانيها على الرقة والنضارة والرخاوة. منها:

             البِشر. الثمر. الخضرة. الزهر. سكر (سكن وفتر). العِطر . الغضارة. القمر.الوبر. طرّ (كان ذا رواء وجمال). النضارة. اليسر.

            وكان منها عشرون مصدراً لأصوات فيها ترجيع وتكرار بما يتوافق مع الخصائص الصوتية لحرف الراء . هي:

            أرّ أريرا (صوَّت). جأر (للبقر). الخرير (للماء). خار الثور. دردر الماء (صوت أثناء تدافعه في بطن الوادي). زحر. طحر.. زمجر (ردد صوته).زمخر الصوت (اشتد). زمر (صوَّت). شخر (تردد صوته في حلقه). الصفير . صار صورا (صوَّت). عرّ الظليم (صاح). قرّ قريرا (صوّت). قرقر الشراب في حلقه (صوّت). نعر (صاح وصوّت). هرّ الكلب (نبح). هزر (ضحك). هدر الجمل (ردّد صوته في حنجرته).

            وكان منها ثلاثة مصادر لمشاعر الغضب من اضطراب وانفعال نفسي وجسدي يحاكي ما في صوت (الراء) من تردد واضطراب . هي:

            ذئِر (أنِف وغضب). ذمر الأسد (غضب). الوحر (الحقد، الغيظ، أشد الغضب). ويلحق بها لفظة (السرور) لمشاعر إنسانية مبهجة لا تخلو من رقة (الراء) ونضارتها وحلاوتها.

            لتبلغ نسبة تأثير الراء في المصادر التي تنتهي بها (62%).

            ولكن لوحظ أن ثمة عشرة مصادر أخرى تدل معانيها على الستر والاختفاء، مما يتناقض أصلاً مع خاصية الظهور والعيانية في التحرك . هي:

            خدره ، وخمره ، وطمره ، وغفره وغمره بمعنى (ستره). كفر الشيء (غطاه).ذخره (خبأه) . طبر (اختبأ واختفى). قبره (دفنه).

            ولئن كان العربي قد جعل حرف الراء في بداية بعض المصادر التي تدل على الثبات والاستقرار وضم الأشياء إلى بعضها، مضاهاة منه لتلك الأحداث التي تبدأ أصلاً بالحركة كما مر معنا آنفا،

            فإن  العربي قد جعل الراء بالمقابل في نهاية هذه المصادر لأن أحداثها تنتهي بحركة ما، وذلك (سوقا للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المراد).

            فلفظة خدر الهودج مثلاً (ألقى عليه الستر) ، تدل على حدث يبدأ بالإمساك بنسيج فيه رخاوة (للخاء) ، ولا يخلو من شدة ممسك (للدال)، لينتهي هذا الحدث بحركة إسدال الستر على باب الهودج (للراء).

            ولفظة خمرت المرأة رأسها بالخمار (غطته) ، تدل على حدث مماثل لما قبله في مراحله جميعا. ولكن بفارق أن الخمار هو أرقّ نسيجاً وأشف من ستر الهودج. وذلك لأن الميم في (خمر) أرق وأشف وأكثر إحاطة من الدال في (خدر) كما مر معنا في الحروف اللمسية.

            ولفظة كفر الزارع البذر بالتراب (غطاه)، تدل على حدث يبدأ بحك الأرض بأداة أو باليد (الكاف)، ثم بإحداث حفرة في الأرض (للفاء) ، لينتهي الحدث بحركة تغطية البذر بالتراب (للراء).

            ولفظتنا (طمر وقبر) يتماثل معنياهما من حيث الوقائع والتسلسل الزمني ، ولكن بفارق أن الطمر يكون في رمل أو أرض طرية (للطاء)، وفي حفرة سطحية (للميم). بينما القبر يكون في أرض قاسية شديدة المقاومة (للقاف) ، وفي حفرة عميقة (للباء). والراء. لحركتي تغطية المطمور والمقبور.وهكذا بقية المصادر.

            ولكن ما علاقة حرف الراء بالحاسة الذوقية؟.

            من غرائب حرف الراء، أن العربي قد أدخله في معظم الألفاظ التي تدل معانيها على أهم مصادر الحلاوة التي تذوقها في صحرائه من تمر وعسل، منها:

            الرُّب (عصارة التمر المطبوخ). الرُّضاب (رغوة العسل). الرطب (ثمر النخل إذا نضج قبل أن يصير تمرا). الرمْخ (بسر التمر). البسر (ثمر النخل قبل أن ينضج). التمر.الشَّور (العسل المستخرج من الخلية. الكمر (البسر يرطب بعد سقوطه على الأرض).الضّرَبُ (العسل الأبيض الغليظ). الطَّرم (شهد العسل).

            فما تعليل هذه الظاهرة؟.

            ان اللسان يتلاعب بصوت هذا الحرف على مثال تلاعبه بحبة التمر، أو بشهدة من عسل.ولذلك فمن المرجح أن يكون العربي قد عبّر في المرحلة الزراعية عن طعم العسل بحركة لسانية إيمائية رشيقة ترافقها حركات بدنية أخرى. وبانتقاله إلى المرحلة الرعوية احتفظ بالصوت المناسب لتكرار حركة اللسان بمعرض التعبير عن مذاقات الحلاوة . وأسقط الحركات  الجسدية الأخرى. وهكذا كانت حركة تلاعب اللسان بالمطاعم الحلوة المذاق فيما أرى، أسبق في الزمان من صوت (الراء). على مثال ما كان تلاعب اللسان باللقمة مضغا وبلعاً أسبق في الزمن من صوت اللام كما مرّ معنا.

            ومن غرائب هذا الحرف أيضاً أنه يدخل في معظم الألفاظ التي تدل معانيها على منابع الحرارة الأصليّة ، التي كان العربي يتعامل معها في الطبيعة . منها:

            أرّ النار أرّاً، وأرّثها (أوقدها). أسعر النار (أشعلها). السَّقر (حر النار أو الشمس  وأذاه). الأوار والحرور( حرر الشمس أو النار). الجمر. الحرّ. الرمضاء (شدة الحرّ).الشرار. صهر (اذاب بالحرارة). أضرم النار. كهر الحر (اشتد ، ومنها لفظة كهرباء المحدثة). النار. الهاجرة (نصف النهار عند اشتداد الحر) . وأر (اشتد حرّه).وغرت الهاجرة (اشتد حرها). الرَّضفة (الحجر المحمى بالنار أو الشمس). نجر اليوم وِرَمِهَ (اشتد حرّه). ذمر النار (أوقدها).

            وهكذا فان الألفاظ التي تدل معانيها على الحرارة مما لا يوجد فيها حرف الراء، معظمها وصف لها، أو من نتائجها . مثال:

            اللهب (ما يرتفع من النار كأنه لسان). . سخن (صار حارا). أجّج النار (ألهبها).أشعل النار (أوقدها وألهبها)...

             أما لفظة الشمس، وان كانت هي المصدر الحراري الرئيس في الطبيعة، فإنَّ حَدْسَ إشعاع نورها وتفشي أشعتها قد غلبا في ذهن العربي على حدس حرارتها. ولعلَّ جذر هذه اللفظة يعود إلى يوم كان الإنسان العربي يمارس العمل الزراعي في أوديته الريَّا قبل أن تتحول ربوعه إلى صحاري، وقبل أن يتحول هو إلى راع يكابد من حرِّ الشمس ما يرهقه.فبدأ بحرف الشين (للتفشي والانتشار) كما سوف نرى في دراسته، وهي في بعض الساميات (شمش).

            وما علة هذه الظاهرة من حيث استعمال (الراء) لمعاني الحرارة؟.

            من المرجح أن العربي قد استخدم لسانه في المرحلة الزراعية للتعبير إيماء وتمثيلاً، عن تأثر لسانه بالأطعمة والأشربة الساخنة بحركة لسانية ترافقها حركات بدنية مغايرة للتي كانت ترافق حركة اللسان بمعرض التعبير عن الحلاوة . فسقطت هذه الحركات المرافقة أيضاً في المرحلة الرعوية وبقي صوت الراء للحلاوة والحرارة:( الحرف العربي والشخصية العربية ص71-76).

            ولكن باعتماد العربي في المرحلة الرعوية صدى الأصوات في النفس للتعبير عن معانيه كما أسلفت في المرجع السابق  قد استثمر خاصية التكرار والتمفصل في صوت (الراء) إلى ابعد الحدود، وذلك للتعبير عما يماثله في الطبيعة من صور مرئية تنطوي على التحرك والتكرار والترجيع، مما ينتمي أصلاً إلى حاسة البصر.( المرجع السابق ص 137-142).

            وهنا لابد للقارئ  ان يتساءل عن السبب في تصنيف هذا الحرف ذوقياً ، بينما ظاهرة التحرك والترجيع والتكرار (البصرية) هي الغالبة على معاني المصادر التي تبدأ أو تنتهي به.

            لقد تجاوزت هذا المعيار الكمي وصنفته ذوقياً وذلك للاعتبارين التاليين:

            1- لأنه حرف لساني، واللسان هو عضو حاسة الذوق.

            2- لأنه أبدع أصلاً للتعبير إيماء وتمثيلاً عن المطاعم الحلوة المذاق والحارة الملمس على مثال ما أبدع حرف اللام بالطريقة ذاتها للتعبير عن عمليات مضغ الأطعمة وبلعها . فرأيت ان أصنفه حرفاً ذوقياً مع حرف اللام لتخصصه أصلاً بطعم الحلاوة دون سائر الحروف.

            فالفواكه حلوة الطعم التي لاراء في أسمائها ، إما هي مقتبسة من الشعوب الأخرى وإما أن أسماءها مستوحاة من شكلها مثال (تين- عنب- أجاص- خوخ- تفاح- موز- بطيخ). ولا يجرح هذا التصنيف أن يستخدمه العربي في مرحلة رعوية لاحقة للتعبير إيحاء عن التحرك والتأوُّد والتكرار.

            وعلى الرغم من ذلك كله ، إذا لم يقتنع القارئ، بهذين الاعتبارين ، فلا اعتراض لي على نقله إلى زمرة الحروف البصرية لخاصية الحركة والتكرار في صوته، حيث أثَّر في معظم معاني المصادر التي تبدأ أو تنتهي به.

            وهكذا إذا أضيفت المصادر التي تدل معانيها على الستر والخفاء، والحلاوة والحرارة موضوع الفقرات السابقة إلى الجداول أعلاه ، فإن نسبة تأثير حرف (الراء) في المصادر التي تنتهي به ترتفع من (62% إلى5،70%) مما يؤهل هذا الحرف إلى الدخول في زمرة الحروف القوية الشخصية.

            ولئن كان ثمة ثلاثة عشر مصدراً للأصوات والمشاعر الإنسانية في المصادر التي تبدأ بالراء وأربعة وعشرون في المصادر التي تنتهي به، فإن معانيها كما لحظنا سابقاً تتوافق مع خصائصه الصوتية في الحركة والتكرار مما لا يؤثر فى التزامه الطبقي في حالة اعتباره من الحروف البصرية.

            ليصبح حرف الراء بذلك من أقوى الحروف شخصية ، وأشدها التزاماً.

            ومما يلفت الانتباه في حرف الراء وما أكثر ما لفت انتباهي ، ان العربي قد كره ان يجمع بين الراء واللام في مقطع واحد (لر، رل) . وذلك للتنافر الصميمي في خصائصهما : فالراء للتمفصل،- واللام  للالتصاق. كما مر معنا.

            كما لم أعثر في المعجم الوسيط على حرف (الراء) في لفظة ثلاثية تبدأ باللام، ولا على اللام في لفظة تنتهي بالراء.

            ولئن كان ثمة كثير من الألفاظ التي تبدأ بحرف الرّاء وتنتهي باللام ، بفاصل من حرف كما في (ربْل، رتل، رطل، رجل، رمل...) فذلك لأنَّ العربي يستسيغ ان يبدأ كلامه بالمتحرك وان ينتهي بالساكن، أما العكس فلا. فالراء بتمفصله وتكراره يمثل الحركة ، واللام بالتصاقه يمثل السكون والاستقرار . ومنه يتضح أن لفظة (بلور) ، من (بلر) ليست عربية ترجيحاً . فالذوق العربي كَرِه على العموم ان يجمع بين الراء واللام في مقطع واحد، لا للتعذر وإنما للاستثقال . وذلك على مثال الحال بين حرفي (الباء والميم)، كما سيأتي.

            استطراد

            لا يبعد ان تكون المرأة بحكم اختصاصها ( المنزلي ) قد اهتدت في المرحلة الزراعية إلى الأصول  الحركية لهذا الحرف للتعبير به إيماء وتمثيلاً عن معاني (الحلاوة والحرارة) مترافقة مع الحركات الأخرى المناسبة، مما يفسح المجال للاعتراض على تصنيفة (إيحائياً).

            والرّد على ذلك بأن حرف (الراء) هو بهذا الصدد كبعض الحروف الأخرى التي عبر العربي بها عن معانيه (إيماء وإيحاء) على حد سواء ، مثل أحرف (الباء، والجيم، والشين والطاء) كما سيأتي. ولكنها صُنِّفت جميعاً في زمرة الحروف الإيحائية، لغلبة هذه  الخاصية فيها على (الإيمائية)، ولأنها لم تستوف مقومات شخصيتها (الإيحائية) إلاّ في المرحلة الرعوية. وذلك على العكس من أحرف (الفاء واللام والميم والثاء والذال ) التي استوفت مقومات شخصيتها الإيمائية في المرحلة الزراعية ، ثم جاءتها الخصائص الإيحائية لاحقاً. ولا عبرة لكثرة ما أُبدِع من المصادر الجذور التي شاركت الأحرف الإيحائية في تراكيبها، مادامت معاني معظمها قد التزمت بخصائصها الإيمائية.

            تعقيب لابد منه:

            لقد تبين لي في دراستي (إطلالة على الأعجاز اللغوي في القرآن) أن للراء. وظائف أدبية أخرى قد تعشقها الشعراء الأصلاء فأقبلوا عليها واستثمروا الكثير من خصائصها ووظائفها.  فكان نصيبها من قوافيهم أكثر من أي حرف آخر.

            أما القرآن الكريم فقد استنفد خصائص (الراء) ووظائفها جميعاً في (قوافي) آياته ومفرداته وسوره )مما لا نظير له في أدب أو شعر . ومما يدهش حقاً ان يستخدم القرآن خصائصها الحركية للقيام- بالغالبية العظمى من المعارك التي خاضها مع الكفار والمشركين في الكثير من آياته وسوره. لتبلغ (الراء) أوج فروسيتها في المعارك السبع التي خاضتها سورة (القمر) بزعامتها كقافية لآياتها جميعاً البالغة (55) . [18]

            2/ وتطرق الدكتور حسن عباس إلى تطبيق هذه الدراسة على بعض المعاني، نذكر منها: تحليل طلمة العقيدة، وكلمة الحسن.

            العقيدة هي:

            الحكم الذي لا يقبل الشك فيه لدى معتقده وفي الدين هو: ما يُقصد به الاعتقاد دون العمل، كعقيدة وجود الله وبعثه الرسل.

            من أسرتها: عقد الزهر (تضامت أجزاؤه فصار ثمرا) عقد الحبل ونحوه (جعل فيه عقدة). عقد قلبه على الشيء (لزمه)، أعتقد الشيء (صلب واشتد). (العِقد (قلادة من خرز ونحوه تُحيط بالعنق).

            والعقيدة بحسب أسرتها، هي ما انعقدت النفس عليه من معنى معين، فتتكون به تكويناً جديداً على مثال ما ينعقد الزهر في الثمر.

            من مقاطعها: عق- من عقّت انثى الحيوان (حملت). عد- من أعدّ الشيء (هيأه وجهزّه). قد- من القدّ (المقدار، والقامة والقوام). والمقطع الجذر هو (عق) لحمل الأنثى، مما يضاهي لقاح النفس بمعتقد معين. والدال (للشدّة).

            في حروفها: العين (للسمو والعيانية والوضوح والفعالية والعقد والربط). لتجمع العين بذلك كامل المضمون الروحي للعقيدة الإنسانية النبيلة. والقاف (للقوة والمقاومة) مما يضاهي قوة التمسك بالعقيدة والياء في الوسط (لاستقرار المعنى في الصميم. والدال (للشدة المادية)، مما يضاهي واقع شدة التمسك بالعقيدة بكل ما لدى صاحبها من قوى.

            وهكذا قد جمعت (لفظة) العقيدة إلى نفسها أقوى ما في أصوات الحروف من موحيات القوى الروحية والمادية، وذلك على مثال ما جمع (مفهوم العقيدة إلى ذاته أقوى ما في أغوار النفس من أسباب التفتح والنماء جيلاً بعد جيل، وعقيدة بعد عقيدة، وألف مأساة وكارثة بعد ألف، منذ فجر الحضارة الإنسانية إلى نهاية الحياة، إن كان للحياة نهاية.

            -الحُسن:

            هو الجمال، وكل مبهج مرغوب فيه.

            من أسرتها : أحسن (فعل ما هو خير). أحسن الشيء (أجاد صنعه). حاسنه (عامله بالحسنى).

            من مقاطعها:  حس- من حسّ الشيء وبه حسيساً (أدركه بإحدى حواسه). أحسّ الشيء وبه (علم به). حن من حنّ حنيناً (صوت) حنّ إليه (اشتاق). سن -من سنّ الحجر ونحوه (صقله). سنّ الشيء (صوّره وملسه، والطريق مهده)، سنّن كلامه (حسّنه وهذّبه).

            وظاهر أن كلاً من هذه المقاطع الثلاثة يصلح أن يكون جذراً لمفهوم (الحُسن). ليكون هو نفسه محصلة معانيها: فمقطع (حس) للإحساس بالشيء والعلم به، يُدخل الحسن في نطاق المحسوسات ومقطع (حن) يكشف عما يثيره الحسن في النفس من عواطف الشوق والحنين، ليتجاوز الحسن بذلك نطاق المحسوسات إلى ما هو غير محسوس من العواطف والمشاعر والمعاني، أما مقطع (سن) فيضفي على الحسن شيئاً من الصقل والملاسة، تخليصاً له من كل ما هو ناب أو متنافر.

            في حروفها: الحاء هنا (للعاطفة الجميلة والحرارة). والسين (للحركة والرشاقة والملاسة). والنون (للرقة والأناقة).

             

            وهكذا، جمع الحسن إلى نفسه أجمل الأصوات وأعذبها جرساً، وأوحاها بمشاعر الحب والحنين، وأكثرها دفئاً ورشاقة ورقة وأناقة، في تناغم صوتي وتوافق معنوي، مما لم يتوافر في أي لفظة أخرى، ليشع الحسن بذلك إشعاعاً من هذه اللفظة دونما حاجة إلى أي تفسير أو تأويل، وقد وردت هذه اللفظة ومشتقاتها في مئة وثمانية وثمانين آية في القرآن الكريم قد اختصت المرأة بواحدة منها فقط في سورة (الأحزاب)/52). (لا يحل لك النساء من بعد... ولو أعجبك حسنهن.....).

             

            3/ الوقف والوصل والدلالة:

            أ‌-     حكم البسملة والوقف عليها:

            إذا فصلت السورتين من القرآن بالبسملة فله أربعة أوجه، ثلاثة جائزة ووجه غير جائز، فالثلاثة الجائزة :

            -       قطع الجميع: قطع آخر السورة الأولى عن البسملة، وقطع البسملة عن أول السورة الثانية.

            -       وصل الجميع: وصل آخر السورة الأولى بالبسملة ووصل البسملة بأول السورة الثانية.

            -       قطع آخر السورة الأولى عن البسملة، ووصل أول السورة الثانية.

            والوجه غير الجائز:

            -       وصل آخر السورة الأولى بالبسملة وقطعهما عن أول السورة الثانية.

            ومن الأمور العجيبة في هذا المجال انتباه ورش لفصل السور الأربعة الزهر بالبسملة، وهي: المدثر والقيامة، والانفطار والمطففين، الفجر والبلد، العصر والهمزة، لأن الوصل فيه إبهام لمعنى غير المراد، فلا تلتقي الرحمة بالعذاب، ولا المغفرة بالعقابـ ولا يلتقي إثباتها مع نفيها. (أهل التقوى وأهل المغفرة. لا أقسم بيوم القيامة)، (ادخلي في عبادي وادخلي جنتي. لا أقسم بهذا البلد)، (والأمر يومئذ لله. ويل للمطففين)، (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر. ويل لكل همزة)[19]

            ب‌- ولنعطي أمثلة من القرآن الكريم لتغير المعنى بتغير الوقف والوصل:

            يقول الله عز وجل : " ألم، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين"[20]

            فلو وقفنا عند ريب صح المعنى، ولو وقفنا عند فيه صح المعنى كذلك ولكن أصبح له دلالة أخرى.

            ج- يقول الله عز وجل: " كانوا قليلا من الليل ما يهجعون"[21]

            لو لم نقف لصح المعنى، ولكن إذا وقفنا عند قليلا، أخذت الدلالة منحى آخر.

            د- يقول الله عز وجل: " يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله، أنى يوفكون" [22]

            لو وقفنا عند "هم العدو" لكان المعنى واضحا أن المنافقين يترقبون كل حين عدوهم، ولكن سرعان ما ندرك المعنى الأقرب عندما نقف عند "عليهم" ونقف عند "هم العدو" فيصبح المعنى صفة أولى للمنافقين لمعرفتهم وتمييزهم فهم العدو بحد ذاتهم، ومن ثم وجب الحذر منهم.



            [1]  د.حسن بشير صالح علاقة المنطق باللغة ص28

            [2]  المرجع السابق ص29 نقلا عن د.الشنيطي (محمد فتحي) أسس المنطق والمنهج العلمي ص31

            [3] د.حسن بشير صالح علاقة المنطق باللغة ص 348.

            [4] المرجع السابق ص286 نقلا عن ابن سينا في الشفاء، العبارة

             

            [5] المرجع السابق ص288

            [6] المرجع السابق ص 306

            [7] المرجع السابق ص 306

            [8]  الأستاذ صلاح ناجم (محاضرات سمعية في علم الدلالة) جامعة الكويت

            [9]  د.رجب عبد الجواد إبراهيم دراسات في الدلالة والمعجمية ص14.

            [10] د.أحمد مختار عمر علم الدلالة ص11 الطبعة الخامسة 1998 عالم الكتب.

            [11]  د. عليان بن محمد الحازمي (التنغيم في التراث العربي.

            [12] حسن عباس حروف المعاني بين الأصالة والحداثة ص23 منشورات إتحاد الكتاب العرب دمشق.

            [13] د.حسن عباس "خصائص الحروف العربية ومعانيها" ص 22 منشورات إتحاد الكتاب العرب دمشق.

            [14] المرجع السابق ص 37

            [15] سورة يوسف الآيتان: 74، 75.

            [16]  د. عليان بن محمد الحازمي (التنغيم في التراث العربي)

            [17] المرجع السابق

            [18] المرجع السابق ص 81.

            [19] الأستاذة رحيمة عيساني "الميسر في أحكام الترتيل" ص 22، دار الهدى عين مليلة الجزائر

            [20] سورة البقرة الآية 02

            [21] سورة الذاريات الآية 17

            [22] سورة المنافقون الآية 04

            • التغير الدلالي

              تمهيد

              ليست اللغة جثة هامدة، أو ساكنة بحال من الأحوال، بالرغم من أن تقدمها قد يبدو بطيئا في بعض الأحيان، فهي عرضة للتطور المطرد في مختلف عناصرها، أصواتها ومتنها ودلالتها، وتطرها هذا لا يجري تبعا للأهواء والمصادفات، أو وفقا لإرادة الأفراد، وإنما يخضع في سيره لقوانين يمكن تتبع مسارها، والكشف عنها، وهذه المحاضرة تتحدث عن القوانين التي تحكم نوعا معينا من هذه التطورات، ونقصد بالذكر التطور الدلالي. فما هو مفهوم التطور الدلالي؟ وما هي أسبابه؟ وما هي مظاهره؟

               

              مفهوم التغير الدلالي

              هو التغير الذي يطرأ على المفردة، سواء أكان المعنى المتطور دلاليا جديدا، أم كان قريبا من الدلالة السابقة.

               

              أسباب التغير الدلالي:

              1. الأسباب الشرعية: فقد تغيرت دلالة كثير من المفردات في العصر الإسلامي، وانتقلت دلالتها من الاستعمال العام إلى الاستعمال الخاص.

              أمثلة :

              الصلاة : التي كانت تعني الدعاء مطلقا.

              الحج: الذي كان يعني القصد مطلقا.

              الكافر: الذي يعني الذي يغطي الشيء.

              الفاسق: الذي يعني الخارج عن الطريق.

              1. الأسباب الاجتماعية والثقافية: وذلك عبر انتقال اللغة من السلف إلى الخلف، مع اختلاف الظروف الاجتماعية والثقافية، مثال ذلك كلمات البهلول والغانية، فالبهلول في الشعر القديم هو السيد الماجد الكريم، يقول حسان بن ثابت:

              بهاليل في الإسلام سادوا ولم يكن *** كأولهم في الجاهلية أول

              ولكن معناها الآن هو الرجل المعتوه الذي لا يدري ماذا يفعل،  وقد غير الناس حركة الباء في الكلمة من الضم إلى الفتح، والغانية قديما هي المرأة التي استغنت بجمالها عن كل وصف، وهي الآن المرأة الساقطة.

              يضاف إليها الألفاظ التي تستعمل بسبب التبادل بين ثقافتين، خاصة إذا كانت الألفاظ لها ما يماثلها في اللغة المتأثرة، مثل كلمة "كماش"، الفارسية بمعنى نسيج من قطن خشن، فقد تطورت فيه الكاف فأصبحت قافا، فشابهت الكلمة العربية "قماش" بمعنى أراذل الناس، وما وقع على الأرض من فتات الأشياء، ومتاع البيت، فأصبحت هذه الكلمة العربية ذات دلالة جديدة على المنسوجات.[1]

              1. الأسباب السياسية: وهو من أشد الأسباب عملا في تغيير الدلالة لارتباطه بالقوة والسلطة، ومصاحبة الإعلام له في العصر الحديث، كلمة الخليفة، التي أصبحت تشير إلى منصب معين، ومثلها كلمة قيصر التي تشير في أصلها إلى من ولد بالعملية القيصرية، ثم أطلق على المنصب، وهكذا.
              2. الأسباب اللغوية والأدبية: وذلك بسبب استعمال بعض الشعراء والأدباء لمجازات واستعارات معينة، تحتل مع كثرة الاستعمال الدلالات الحقيقية للمفردات والتراكيب، فيصبح المجاز حقيقة تحتاج إلى مجاز جديد. ومثال ذلك قولنا أسنان المشط، وأرجل الكرسي، في أصلها مجازات تحولت مع كثرة الاستعمال إلى حقائق، ومثال ذلك أيضا كلمات  "المجد والأفن والوغى والغفران والعقيقة.. وهلم جرا؛ فالمجد معناها في الأصل: امتلاء بطن الدابة من العلف، ثم كثر استخدامه مجازًا في الامتلاء بالكرم, حتى انقرض معناه الأصلي, وأصبح حقيقة في هذا المعنى المجازي, ولهذا السبب نفسه انتقل معنى "الأفن" من قلة لبن الناقة إلى نقص العقل، وانتقل معنى "الوغى" من اختلاط الأصوات في الحرب إلى الحرب نفسها، ومعنى "الغفر" والغفران من الستر إلى الصفح عن الذنوب، ومعنى "العقيقة" من الشعر الذي يخرج على الولد من بطن أمه إلى ما ذبح عنه عند حلق ذلك الشعر"[2]

              ويدخل ضمن هذا السبب القيم التي تحكم المجتمع، فالمجتمعات التي تحترم قيمها تكني عن الألفاظ المستقذرة والمستهجنة والتي تشير إلى ما يستحي الفرد من ذكره أمام الناس بكلمات بديلة، وهي كلمات دائمة التطور والتغير في دلالاتها.

              1. التطور العلمي: فظهور نظريات ومفاهيم جديدة، بمصطلحات جديدة، واختراع آلات ومعدات جديدة وتكنولوجيات متطورة يحتم إيجاد مصطلحات لها في اللغة المستقبلة، وأحيانا يتم استدعاء بعض الألفاظ الموجود في التراث بمعنى آخر لآلة أو نظرية أو مفهوم جديد، مثل مصطلحات الهاتف والريشة والقطار والبريد والسيارة ، فمصطلح الهاتف كان يدل على كلام من لا تراه مثل كلام الجن للبشر، يقول ابن منظور "وسمعت هاتِفاً يَهْتِف إذا كنت تسمع الصوت ولا تُبْصِر أَحداً"[3] فاستعير هذا المصطلح لآلة الاتصال المعروفة، "والريشة كانت تتعلق بآلة الكتابة أيام كانت تتخذ من ريش الطيور، وأصبحت الآن تطلق على قطعة من المعدن مشكلة في صورة خاصة، والقطار في الماضي هو مجموعة من الإبل على نسق واحد تستخدم في السفر، واليوم هو تلك الآلة المعروفة، وكلمة البريد كانت تطلق على الدابة التي تحمل الرسائل، ثم أصبحت تطلق على النظم والوسائل التي تتخذ لتنظيم هذه العملية في الوقت الحاضر"[4]، "والسَّيَّارَةُ القافلة والسَّيَّارَةُ القوم يسيرون أُنِثّ على معنى الرُّفْقَةِ أَو الجماعة"[5]

              وهناك أسباب أخرى ذكرها علماء الدلالة منها ما يتقاطع مع الأسباب السابقة الذكر ومنها ما يتميز عنها، مثل :

              1. غموض مدلول الكلمة: مثل ما روي عن أبي زيد الأنصاري قال: قلت لأعرابي: ما المُحَبنطي؟ قال: المُتكأكئ، قلت: ما المتكأكئ؟، قال: المتآزف، قلت: ما المتآزف؟ قال: أنت أحمق.
              2. الأسباب النفسية: بسبب التفاؤل أو الحشمة أو الأدب في التعبير عن العورات والأعمال الواجب سترها.
              3. الدعاية الاقتصادية: مثل كلمة هبال، وهايل، باطل... الخ
              4. تأثير الترجمة الحرفية من اللغات الأجنبية: مثل كلمات تدخل في الطب، وكلمة الوسط للبيئة، وكلمة المدرسة بمعنى المذهب والطريقة، وكلمة الدور بمعنى النوبة، والأدب بمعنى التخصص.

               

               

              مظاهر التطور الدلالي:

              1.  تخصيص الدلالة أو تضييقها.

              هناك ألفاظ تدل على العموم أو على الأجناس فتحدد و تخصص دلالتها باختصارها على نوع معين أو على فرد معين ، حتى تصبح كأنها علم عليه، فالأعلام هي أقصى درجات الخصوص .و لعامل ما تتطور دلالة اللفظ من العموم إلى الخصوص و ضيق المجال، فكلمة MEAT   الانجليزية كانت تعني مجرد الطعام و تعني الآن (اللحم) فقط. .ومثلها  كلمة (شراب) التي كانت تعني كل ما يشرب، ولكنها تستعمل في كثير من السياقات بمعنى الخمر، و مثل ذلك عندما تطلق الآن – في اللهجة المصرية – كلمة (العيش) على الخبز فقط . و كلمة الحج كانت تعني القصد إلى أي مكان فتخصصت بمعنى الحج إلى بيت الله الحرام بمكة... نماذج لألفاظ خصصت دلالتها:

              الخليفة: هو الذي يستخلف ممن قبله.

              السلطان: هو القوة والقهر والحجة والبرهان،

              قال تعالى: " قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)" الأعراف 71

              قال تعالى: " إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)" الحجر 42

              قال تعالى: " وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)" النمل 20-21

               ولم يكن شائعا في العصرين الأموي والعباسي، ولكنه شاع في العصر التركي، بل إن الحاكم يؤثر أن يلقب به ويستشعر منه عظمة الحكم أكثر من استشعاره لها مع لفظة الملك.

              الوالي: استعملت هذه الكلمة في العصر الجاهلي بمعنى الناصر والمعين، كما تقول الخنساء:

              وإنّ صَخْراً إذا نَشْتو لَنَحّارُ

              وإنّ صَخراً لَوالِينا وسيّدُنا

              وإنّ صَخْراً إذا جاعوا لَعَقّارُ

              وإنّ صَخْراً لمِقْدامٌ إذا رَكِبوا

              كَأنّهُ عَلَمٌ في رأسِهِ نارُ

              وإنّ صَخراً لَتَأتَمّ الهُداة ُ بِهِ

              وفي عصر صدر الإسلام ظل هذا الاستعمال قائما وأكده القرآن في قوله تعالى: " إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)" الرعد 11، وفي أثناء حكم الخلفاء الراشدين استعملت لفظة الوالي للدلالة على الشخص الذي يعهد إليه إقامة الحدود وإنفاذ الأحكام، وتوطيد النظام وقيادة الجيوش في مقاطعة من المقاطعات الإسلامية، ثم تحددت دلالة اللفظ لتنحصر في كل من يساعد أو ينوب عن السلطان في حكم بلد من البلدان، وها هو اليوم يعبر عن المعنى الأخير في الإنابة عن رئيس الجمهورية في حكم ولاية من الولايات.

              ومنها كلمات أخرى مثل (الخوارج، والشيعة، والرافضة، المرجئة، الطبيب، الأجر)

               

               

              1. توسيع المعنى أو تعميم الخاص

              (عكس الحالة السابقة) ، فقد يكون لكلمة ما دلالة محددة . فكلمة (البأس) مثلا كانت خاصة بالحرب، ثم أصبحت تطلق على كل شدة.  و مثال ذلك إطلاق كلمة (الورد) على كل زهر.

              و من ذلك أيضا إطلاق بعض الصفات التي كانت خاصة. و كانت علما على بعض الأشخاص على أشخاص اتصفوا بصفاته مثل (عنترة) عند إطلاقها على كل شجاع و قد يرى طفل مصري نهرا فيقول: النيل ......و قد يسمي كل الأنهار النيل.

              ومن الكلمات التي عممت دلالتها:

              البستان: فالأصل فيها الارتباط بالأزهار ذات الرائحة الزكية، ثم عممت لتطلق على مجتمع الأشجار والنخيل.

              الزيت: استعملت هذه اللفظة للدلالة على  عصارة الزيتون، وفي اللسان: الزيت دهن الزيتون، ثم عممت دلالتها وأطلقت على عصارة أو دهن الزيتون ودهن غيره.

              ومثل ذلك علامة بعض السلع والمنتجات التي أخذت اسم أول أو أشهر علامة عرفت بين الناس ( مثل سعيدة، clarck, bouclin, ، ...)

               

              3.  انتقال الدلالة.

              أو تغيير مجال استعمالها بسبب المشابهة بين مدلولين كقولنا: استقبال حار، و صوت عذب .و قد يكون الانتقال لحالة غير المشابهة كما هو في المجاز المرسل فتطلق كلمة (شتاء) على المطر و (الغيث) على العشب.

              ومن الكلمات التي غير مجال استعمالها:

              الغش: مأخوذ من الغشش: المشرب الكدر، وهو معنى مادي ثم انتقل هذا المعنى إلى الخداع أو الخيانة في البيع وهو معنى معنوي.

              الجدال: الجدل: شدة الفتل، وجدلت الحبل جدلا إذا شددت فتله وفتلته فتلا محكما، ومن الجديل، وهو الزمام المجدول من شعر، انتقل معنى الجدل الذي هو شدة الفتل -معنى مادي – إلى الجدل بمعنى الخصومة في الرأي وإلزام الخصم وإفهام من هو قاصر عن إدراك مقدمات البرهان.

               

               

              4.  انحطاط الدلالة و انحدارها:

              قد يكون لكلمة ما معنى ذو بال و أهمية في حياة المجتمع فتفقد هذه المكانة بسبب الشيوع أو كثرة الاستعمال، أو تغير الظروف السياسية و الإدارية و الاقتصادية و العادات و التقاليد. مثال ذلك أن كلمة (الحاجب) كانت تعني في الدولة الأندلسية رئيس الوزراء، أما اليوم فتعني الحارس أمام أبواب الإدارة.

              " و قد كان لكلمة (ثور) معنى شريف، و هو السيد، و ربما ورث العرب في الأدب القديم احترام الثور من الأمم السامية، حيث كان الثور نموذجا لإله القوة و الأصالة و الكرم. و كان له في أساطيرهم جناحان يطير بهما فجعلوه للسيد مجازا حتى سميت به أعلامهم مثل: حميد بن ثور الهلالي، و سفيان الثوري، و هو من أصحاب الحديث. أما اليوم فقد اقترن الثور بالمعنى السلبي، فهو علامة الحمق و الغباء و البلادة

              ومثلها كلمتي البهلول، والغانية، وغيرها.

              5.  رقي الدلالة:

              على العكس من السابقة، قد يكون للفظ أو الكلمة دلالة أو معنى منحط أو متواضع ثم يعلو شأنها. فكلمة (القماش) كانت تدل على ما يتناثر من متاع البيت، أو ما على الأرض من فتات الأشياء، ثم أصبحت تدل على نوع من النسيج المتقن الصنع. و كلمة (السفرة) كانت في الأساليب القديمة تعني بعض الطعام الذي يحمله المسافر، ففي حديث عائشة: صنعنا لرسول الله ولأبي بكر سفرة، ثم ارتقى المدلول إلى الجلد المستدير الذي يوضع فيه الطعام، ثم ازدادت رقيا لتدل على كل ما يفرش ليوضع عليه الطعام، وأخير أطلقت على الخوان أو الموائد المرفوعة عن الأرض.

               

               



              [1] رمضان عبد التواب، لحن العامة والتطور اللغوي، مكتبة زهراء الشرق، مصر، الطبعة الثانية، 2000، ص63.

              [2] علي عبد الواحد وافي، علم اللغة، نهضة مصر للطباعة والنشروالتوزيع، مصر، الطبعة التاسعة، 2004، ص321.

              [3] ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، مادة هتف، ج9 ص344.

              [4] عودة خليل أبو عودة، التطور الدلالي بين لغة الشعر الجاهلي ولغة القرآن الكريم، مكتبة المنار، الأردن، الطبعة الأولى، 1985، ص55.

              [5] ابن منظور، لسان العرب، مادة سير، ج4 ص389.

              • العلاقات الدلالية (الترادف)

                تمهيد

                إن المتأمل في اللغة العربية يجد أن قضية العلاقة بين اللفظ والمعنى تأخذ أشكالا عدة، خاصة إذا قورنت الألفاظ ومعانيها بغيرها، فقد تجد لفظين أو أكثر يوحيان بنفس المعنى ، وقد تجد لفظة واحدة دالة على أكثر من معنى ، كما يمكن تلمس علاقات بين هذه المعاني، من تماثل وتضاد واختلاف، فكيف درس علماء الدلالة هذه العلاقات؟

                 

                مفهوم العلاقات الدلالية

                العلاقات الدلالية مصطلح يطلقه الدرس الحديث على ظواهر متعددة، تشرح العلاقة بين الكلمات في اللغة الواحدة، ومن نواح عدة، نحو أن يكون اللفظان دالين على معنى واحد، فتسمى العلاقة هنا (الترادف)، أو يكون معنيان أو أكثر للفظ واحد، فتسمى العلاقة هنا (الاشتراك)، وغيرها من العلاقات.

                 

                العلاقات الدلالية:

                1. الترادف: وهو وجود كلمتين أو أكثر في اللغة الواحدة متماثلتين في المعنى، أي تعدد الدوال لمدلول واحد.

                1-أ- الترادف عند القدامى:     اختلف اللغويون العرب القدامى اختلاف واسعا في إثبات هذه الظاهرة أو إنكار وجودها في اللغة العربية، فكان أمام هذه الظاهرة فريقان:

                الفريق الأول: المثبتون للترادف

                يثبت هذا الفريق الترادف ويغالي في إثباته ويتوسع فيه، ويحتجون لذلك بأن أهل اللغة إذا أرادوا أن يفسروا كلمة ذكروا كلمة أخرى مماثلة لها في المعنى، نحو تفسيرهم (اللب) بـ (العقل)، كما يحتجون بما حكاه السيوطي " أنه لو كان لكل لفظة معنى غير الأخرى، لما أمكن أن يعبر عن شيء بغير عباراته، وذلك لأنا نقول في لا ريب فيه، لا شك فيه، فلو كان الريب غير الشك لكانت العبارة خطأ، فلما عبر بهذا علم أن المعنى واحد"، ويحتجون أيضا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم استخدمه في الحديث أن أبا هريرة لما قدم من دَوْس عام خيبر، لقي النبي صلى الله عليه وسلم وقد وقعت من يده السكين، فقال له: "ناولني السكين"! فالتفت أبو هريرة يمنة ويسرة ولم يفهم ما المراد بهذا اللفظ، فكرر له القول ثانية وثالثة، وهو يفعل كذلك، ثم قال: آلمدية تريد؟ وأشار إليها، فقيل له: "نعم"! فقال: أوتسمى عندكم سكينًا؟ ثم قال: والله لم أكن سمعتها إلا يومئذ، ودَوْس بطن من الأزد.

                وقد أشار إلى هذه الظاهرة نفر من اللغويين الأوائل، منهم سيبويه (ت 180 هـ) في الكتاب، وابن جني (ت 392 هـ) في الخصائص، والرماني (ت384هـ) في كتابه (الألفاظ المترادفة والمتقاربة في المعنى)،  كما دافع عن إثبات الترادف ابن خالويه ( ت 370 هـ )، الذي ألف كتابا يجمع خمسمائة اسم للأسد، وآخر يشمل مائتي اسم للحية، كما يظهر رأيه من خلال تلك الرواية التي تذكر الخلاف الذي وقع بينه وبين أبي علي الفارسي (ت 377 هـ) حول أسماء السيف. وتعد هذه الرواية من أشهر الروايات حول الخلاف في ظاهرة الترادف في العربية ، حيث يروى أن أبا علي الفارسي قال " كنت بمجلس سيف الدولة بحلب وبحضرة جماعة من أهل اللغة ومنهم ابن خالويه فقال ابن خالويه أحفظ للسيف خمسين اسما فتبسم أبو علي الفارسي وقال : ما أحفظ له إلا اسما واحدا وهو السيف . قال ابن خالويه : فأين المهند و الصارم وكذا وكذا ، فقال أبو علي هذه صفات.

                الفريق الثاني : المنكرون للترادف

                ينكر هذا الفريق الترادف ويرفضه رفضا مطلقا، واحتج أصحابه بحجج كثيرة، منهم أبو علي الفارسي، وقد ذكرنا رده على ابن خالويه في مجلس سيف الدولة، ومن المنكرين ابن فارس (ت395 هـ)، الذي يقول في كتابه الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها: " ويسمى الشيء الواحد بالأَسماء المختلفة. نحو: " السيف والمهنّد والحسام"  والذي نقوله فِي هَذَا: إن الاسم واحد وهو "السيف" وَمَا بعده من الألقاب صفات، ومذهبنا أن كل صفة منها فمعناها غير معنى الأخرى. وَقَدْ خالف فِي ذَلِكَ قوم فزعموا أنها وإن اختلفت ألفاظها فإنها ترجع إِلَى معنى واحد. وذلك قولنا: " سيف وعضب وحُسام " . وقال آخرون: لَيْسَ منها اسم ولا صفة إِلاَّ ومعناه غيرُ معنى الآخر. قالوا: وكذلك الأفعال. نحو: مضى وذهب وانطلق. وقعد وجلس. ورقد ونام وهجع. قالوا: ففي " قعد " معنى لَيْسَ فِي " جلس " وكذلك القول فيما سواهُ. وبهذا نقول، وهو مذهب شيخنا أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب."

                 

                ومن المنكرين أيضا للترادف أبو هلال العسكري ( توفى سنة 395 هـ ) حيث قال : " فأما في لغة واحدة فمحال أن يختلف اللفظ و المعنى واحد، كما ظن كثير من النحويين و اللغويين"

                والتمس المنكرون للترادف فروقا بين كل الكلمات التي رأى الفريق الأول بأنها مترادفة، نحو: المدح والثناء، حيث إن الثناء مدح متكرر، وبين القعود والجلوس، وبين الكأس والكوب ... وغيرها

                 

                 

                1-ب- الترادف عند المحدثين:  

                    يجمع المحدثون من علماء اللغات على إمكان وقوع الترادف في أي لغة من لغات البشر، ولكنهم يشترطون شروطا معينة لابد من تحققها حتى يمكن أن يقال أن بين الكلمتين ترادفا، وهذه الشروط هي :

                1 -      الاتفاق في المعنى بين الكلمتين اتفاقا تاما على الأقل في ذهن الكثرة الغالبة لأفراد البيئة الواحدة … فإذا تبين لنا بدليل قوي أن العربي كان حقا يفهم من الكلمة جلس شيئا لا يستفيده من كلمة قعد قلنا حينئذ ليس بينهما ترادف.

                2 -      الاتحاد في البيئة اللغوية أي أن تكون الكلمتان تنتميان إلى لهجة واحدة ومجموعة منسجمة من اللهجات وبذلك يجب ألا نلتمس الترادف من لهجات العرب المتباينة فالترادف بمعناه الدقيق هو أن يكون للرجل الواحد في البيئة الواحدة الحرية في استعمال كلمتين أو أكثر في معنى واحد يختار هذه حينا ويختار تلك حينا آخر وفي كلتا الحالتين لا يكاد يشعر بفرق بينهما إلا بمقدار ما يسمح به مجال القول. (ينظر إبراهيم أنيس في اللهجات العربية ص177)

                          ولم يتفطن المغالون في الترادف إلى مثل هذا الشرط بل اعتبروا كل اللهجات وحدة متماسكة وعدوا كل الجزيرة العربية بيئة واحدة. ولكنا نعتبر اللغة النموذجية الأدبية بيئة واحدة ونعتبر كل لهجة أو مجموعة منسجمة من اللهجات بيئة واحدة

                3 -      الاتحاد في العصر، فالمحدثون حين ينظرون إلى المترادفات ينظرون إليها في عهد خاص وزمن معين وهي تلك النظرة التي يعبرون عنها بالنظرة الوصفية لا تلك النظرة التاريخية التي تتبع الكلمات المستعملة في عصور مختلفة ثم تتخذ منها مترادفات .

                          فإذا طبقت هذه الشروط على اللغة العربية اتضح لنا أن الترادف لا يكاد يوجد في اللهجات العربية القديمة، إنما يمكن أن يلتمس في اللغة النموذجية الأدبية.

                          أما المنكرون للترادف من المحدثين العرب فمنهم الدكتور السيد خليل و الدكتور محمود فهمي حجازي وله رأي معتدل حيث يقول : يندر أن تكون هناك كلمات تتفق في ظلال معانيها اتفاقا كاملا ومن الممكن أن تتقارب الدلالات لا أكثر ولا أقل …  

                          وأما المحدثون الغربيون فقد عرّفوا الترادف بأنه الحالة التي يكون فيها لصيغتين أو أكثر المعنى نفسه ، ومن أول المنكرين للترادف من الغربيين أرسطو " ويبدو ذلك من النص الذي نقله الدكتور إبراهيم سلامة من كتاب الخطابة لأرسطو حيث يقول : وكذلك الكلمة يمكن مقارنتها بالكلمة الأخرى ويختلف معنى كل منهما .

                          ومن الذين أنكروا وجود الترادف من علماء اللغة الغربيين المحدثين " بلومفيلد " حيث يقول ليس هناك ترادف حقيقي .

                          وبعد النظر في هذه المواقف و الآراء المختلفة لدى الباحثين القدامى و المحدثين العرب و الغربيين نرى أنه من التعسف الشديد إنكار وجود الترادف في العربية وإيجاد معنى لكل اسم من أسماء الأسد أو السيف ، وغيرها مختلف عن غيره في بعض الصفات أو التفاصيل .فالترادف ظاهرة لغوية طبيعية في كل لغة نشأت من عدة لهجات متباينة في المفردات و الدلالة ،وليس من الطبيعي أن تسمي كل القبائل العربية الشيء الواحد باسم واحد وعليه نرى أن الترادف واقع في اللغة العربية الفصحى التي كانت مشتركة بين قبائل العرب في الجاهلية وكان من الطبيعي أن نقع على بعض الكلمات في القرآن الكريم لنزوله بهذه اللغة المشتركة (ينظر اميل بديع يعقوب، فقه اللغة العربية و خصائصها ص 175)               

                          ولا بأس أن نذكر أو نذكّر أخيرا بأن هناك رأيا ظل سائدا قديما وحديثا وهو أن لا ترادف في العربية وأن هناك فروقا بين المعاني للألفاظ التي تبدو مترادفة ذكرها العلماء في مؤلفاتهم وأوردوا لها أمثلة ،من ذلك ما جاء في كتاب فقه اللغة للثعالبي (ارجع إلى هذا الكتاب) فهو يرى أن هزال الرجل على مراحل ، فالرجل هزيل ثم أعجف ثم ضامر ثم ناحل .

                و قد يدل على درجات الحالات النفسية المتفاوتة، فالهلع أشد من الفزع، و البث أشد من الحزن، و النصب أشد من التعب و الحسرة أشد من الندامة.

                          كما أورد أبو هلال العسكري في كتابه الفروق في اللغة ( ارجع إلى هذا الكتاب)  أمثلة كثيرة ومتنوعة لهذه الفروق نذكر منها قوله :

                -                     الفرق بين الصفة و النعت: أن النعت لما يتغير من الصفات، و الصفة لما يتغير ولا يتغير.

                -                     الفرق بين الغضب و الغيظ و السخط و الاشتياط: أن الغضب يكون على الآخرين وليس على النفس، والغيظ يكون من النفس، والسخط هو الغضب من الكبير على الصغير وليس العكس، أما الاشتياط: فهو تلك الخفة التي تلحق الإنسان عند الغضب .

                -                      الفرق بين القد و القط: أن القد الشق طولا و القط هو الشق عرضا

                -                      الفرق بين البخل و الشح: أن الشح هو بإضافة الحرص على البخل أي البخيل يبخل على الآخرين أما الشحيح فهو يبخل على الآخرين وعلى نفسه.

                -                     الفرق بين السرعة و العجلة: أن السرعة التقدم فيما ينبغي وهي محمودة، ونقيضها الإبطاء وهو مذموم. والعجلة: التقدم فيما لا ينبغي ونقيضها الأناة، والأناة محمودة ( في التأني السلامة و في العجلة الندامة )

                -                      الفرق بين الفوز و النجاة: أن النجاة هي الخلاص من المكروه، و الفوز هو الخلاص من المكروه و الوصول إلى المحبوب.

                أسباب الترادف حسب رأي الباحثين المحدثين:

                و يمكن تلخيص أهم أسباب الترادف حسبهم  بما يلي (و هذا يخص اللغة العربية دون غيرها)

                1 -      انتقال كثير من مفردات اللهجات العربية إلى لهجة قريش بفعل طول الاحتكاك بينهما وكان بين هذه المفردات كثير من الألفاظ التي لم تكن قريش بحاجة إليها لوجود نظائرها في لغتها مما أدى إلى نشوء الترادف في الأوصاف و الأسماء و الصيغ .

                2 -      أخذ واضعي المعجمات عن لهجات قبائل متعددة كانت مختلفة في بعض مظاهر المفردات، فكان من جراء ذلك أن اشتملت المعجمات على مفردات غير مستخدمة في لغة قريش ويوجد لمعظمها مترادفات في متن هذه اللغة .

                3 -      تدوين واضعي المعجمات كلمات كثيرة كانت مهجورة في الاستعمال وبدائلها.

                4 -      عدم تمييز واضعي المعجمات بين المعنى الحقيقي و المعنى المجازي فكثير من المترادفات لم توضع في الأصل لمعانيها بل كانت تستخدم في هذه المعاني استخداما مجازيا (ينظر اميل بديع يعقوب، فقه اللغة العربية و خصائصها ص 177)  .             

                5 -      انتقال كثير من نعوت المسمى الواحد من معنى النعت إلى معنى الاسم الذي تصفه فالمهند و الحسام و اليماني من أسماء السيف يدل كل منها على وصف خاص للسيف مغاير لما يدل عليه الآخر .

                6 -      إن كثيرا من المترادفات ليست في الحقيقة كذلك، بل يدل كل منها على حالة خاصة من المدلول تختلف بعض الاختلاف عن الحالة التي يدل عليها غيره، فقد يعبر كل منها عن حالة خاصة للنظر تختلف عن الحالات التي تدل عليها الألفاظ الأخرى ف(رمق ) يدل على النظر بمجامع العين  و" لحظ " على النظر من جانب الأذن و " حَدَجه " معناه رماه ببصره مع حدة  و" شفن " يدل على نظر المتعجب الكاره و " رنا " يفيد إدامة النظر في سكون  و هكذا.........

                7 -      انتقال كثير من الألفاظ السامية والمولدة والموضوعة والمشكوك في عربيتها إلى العربية وكان لكثير من هذه الألفاظ نظائر في متن العربية.

                8 -      كثرة التصحيف في الكتب العربية القديمة وبخاصة عند ما كان الخط العربي مجردا من الإعجام و الشكل (نفسه ص176/177)

                9 -      تعدد الواضع أو توسع دائرة التعبير وتكثير وسائله، وهو المسمى عند أهل البيان بالافتنان أو تسهيل مجال النظم و النثر وأنواع البديع، فإنه قد يصلح أحد اللفظين المترادفين للقافية أو الوزن أو السجع دون الآخر وقد يحصل التحسين و التقابل و المطابقة ونحو ذلك بهذا دون الآخر .

                10 -    استخدام دلالات متعددة للمدلول الواحد على سبيل المجاز.

                11 -    أصل الحدث أي الفعل الذي يقع في محدث ما يقع من غيره. فيرمز الأول باسم غير الثاني فالهمس .مثلا من الإنسان، و الهيس أيضا صوت أخفاف الإبل. و الهسهسة عام في كل شيء. وقد يكون الحدث واحدا في الحالات المختلفة ،فالخرير صوت الماء الجاري أما إذا كان تحت ورق فهو قسيب، فإذا دخل في مضيق فهو فقيق ،فإذا تردد في جرة فهو بقبقة.

                • العلاقات الدلالية (الاشتراك اللفظي)

                  المشترك اللفظي  

                  تعريفه:

                  هو اللفظ الواحد الدال على معنيين مختلفين فأكثر دلالة على السواء عند أهل تلك اللغة"[1]

                  أو هو (ما اتفق لفظه و اختلف معناه)

                  المؤيدون للاشتراك:

                  اهتم القدماء من علماء العربية بهذه الظاهرة و كانت هناك مؤلفات عديدة لمعالجتها سواء فيما يتعلق بالقرآن الكريم أو الحديث الشريف أو اللغة العربية بشكل عام.

                  ووصل إلينا عدد من العناوين مثل رسالة الأصمعي (ت215 هـ) (ما اتفق لفظه واختلف معناه)، وكتابا لأبي العميثل (ت 240 هـ ) بنفس العنوان،  وكتابا صغيرا للمبرد (ت286 هـ) بنفس العنوان غير أنه حدده بالقرآن المجيد، وكتابا مفصلا لكراع (علي بن حسن الهنائي ت310هـ) الذي عنوانه (المنجد في اللغة).

                  و قد ذكره سيبويه في (الكتاب) ذلك فقال " اعلم أن من كلامهم اتفاق اللفظين و اختلاف المعنيين) (ينظر الكتاب ج/1 ص 7). كما ذكره ابن فارس في فقه اللغة فقال: " وتسمَّى الأشياء الكثيرة بالاسم الواحد نحو عين الماء وعين المال وعين السحاب"

                  وقد احتج المؤيدون لإمكان وقوعه بجواز أن يقعَ إما من وَاضعيْن بأنْ يضعَ أحدُهما لفظاَ لمعنًى ثم يضعُه الآخرُ لمعنَى آخر ويَشْتَهر ذلك اللفظ بين الطائفتين في إفادته المعنيين وهذا على أنًّ اللغات غيرُ توقيفية وإما منْ واضعٍ واحدٍ لغرض الإبهام على السامع حيثُ يكونُ التصريح سبباً للمَفْسدة كما رُوي عن أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه - وقد سأله رجلً عن النبي وقت ذهابهما إلى الغار : مَنْ هَذا قال : هذا رجلٌ يَهْديني السبيلَ[2]

                  والأكثرون أيضاً على أنه وَاقعٌ لنَقْل أهل اللغة ذلك في كثير من الألفاظ

                  ومن الناس من أوْجب وقوعَه - قال : لأن المعانيَ غيرَ متناهيةٍ والألفاظ متناهية فإذا وُزّع لزم الاشتراك

                  وذهب بعضُهم إلى أن الاشتراك أغْلبُ - قال : لأن الحروفَ بأسْرها مشتركة بشهادة النُّحَاة والأفعال الماضية مشتركةٌ بين الخبَر والدُّعاء والمضارعَ كذلك وهو أيضاً مشْتَرَكٌ بين الحال والاستقبال والأسماء كثيرٌ فيها الاشتراك فإذا ضَمَمنْاها إلى قسمي الحروف والأفعال كان الاشتراكُ أغلبَ[3]

                  و فيما يروى من الشواهد في الاشتراك قول الشاعر:

                  يا ويح قلبي من دواعي الهوى                    إذا رحل الجيران عند الغروب

                  أتبعتهم طرفي وقد أزمعــــــوا                     و دمــع عيني كفيض الغروب

                  كانوا و فيهم طفــــــــلة حـــرة                     تفتر عن مثل أقاصي الغروب

                  فالغروب الأولى غروب الشمس، و الغروب الثانية جمع غرب، و هو الدلو الكبيرة المملوءة و الثالثة جمع غرب و هي الو هاد المنخفضة (المزهر ج/1/381).

                   

                  المنكرون للاشتراك

                  و قد كان هناك من القدماء من ضيّق مفهوم المشترك حتى كاد أن ينكر وقوعه مثل ابن درستويه (ت347 هـ)، وقد قدم هؤلاء بعض الحجج أهمها أن أغلبَ الألفاظ الأسماء والاشتراكُ فيها قليلٌ بالاستقراء كما أنه لا حلافَ أنَّ الاشتراك على خلاف الأصل.

                  أسباب المشترك اللفظي:

                  1.  تداخل اللهجات.

                  2.  التطور الصوتي لبعض الكلمات حتى تتطابق لفظتان في لفظة تدل على المعنيين لكل منهما أو يحدث فيهما أو في أحدهما قلب مكاني .

                  3.   التطور المعنوي أي تغيير المعنى عن طريق المشابهة و الاستعارة و المجاز. من ذلك توسيع المعنى، أو تضييقه أو السببية فكلمة (الإثم) كان معناها الذنب، ثم أصبحت تطلق على الخمر لأنها سبب في الإثم.

                  أنواع المشترك اللفظي:

                  أما المحدثون فقد بلوروا أنواع المشترك فيما يلي:

                  1. معنى مركزي للفظ تدور في فلكه عدة معان فرعية.
                  2. تعدد المعنى نتيجة استعمال اللفظ في مواقف مختلفة.
                  3. دلالة الكلمة الواحدة على أكثر من معنى بسبب تطور المعنى.
                  4. وجود كلمتين تدل كل واحدة منهما على معنى ثم اتحاد صورتي الكلمتين في كلمة واحدة.

                  و ربما يتقارب النوعان الأول و الثاني، و نمثل لهما بكلمة (عنق) فالمعنى المركزي هو (الرقبة) ومن المعاني الهامشية عنق الزجاجة و عنق الوادي....

                  أما النوع الثالث فقد سماه اللغويون (البوليزيمي) أو(كلمة واحدة ـ  معنى متعدد) فكلمة (عملية) لا يفهم لها معنى محدد  منعزلة عن السياق و يحدد لها معنى من المعاني حسب السياق أو الحقل فتكون عملية جراحية أو عسكرية أو اقتصادية.

                  أما النوع الرابع و يسمى (الهومونيمي) فيمكن أن يمثل له بكلمة (قال) الفعل الماضي الذي يدل على معنى القول، أو الإقالة و يحدد ذلك صيغة المضارع،  قال         يقول أو قال         يقيل .

                  و قد يصعب الفصل أحيانا، في التفريق فيما إذا كان لدينا معنى مركزي تدور حوله معان أخرى، أو أن لدينا عدد من المعاني لكلمة واحدة مثال كلمة(يد) التي ترد في عدد من الاستعمالات:

                  -  كسرت يد فلان -  يد الفأس.-  يد الطائر (جناحه)-  طويل اليد (سمح جواد أو سارق).

                  -  يد الرجل (قومه أو أنصاره)

                  و للملاحظة: هناك نوعان من المجاز، أو لهما المجاز الحي الذي نشعر به و نلاحظه كقولنا أسد عن الرجل الشجاع و المجاز الميت أو الذي تنوسيت علاقته و انتقاله من الحقيقة فأصبح كأنه حقيقة مثل الكتابة لمعنى النسخ و أصل معناها الجمع، إذ هي جمع للحروف و الكلمات.

                  نماذج من المشترك اللفظي من كتب بعض اللغويين القدماء (ينظر أحمد مختار عمر ص153)

                  عن كراع: العين: مطر يدوم خمسة أيام لا يقلع.

                                عين كل شيء: خياره

                  و عين القوم : ربيئتهم الناظر لهم

                  و عين الرجل: شاهده

                  و العين: عين الشمس.

                  عن أبي عبيدة: العين: الذهب

                  العين: عين الماء

                  العين: نفس الشيء

                  العين: النقد

                  العين: التي يبصر بها

                  عن أبي العميثل:

                  العين: النقد من دنانير و دراهم

                  العين: عين البئر و هو مخرج مائها

                  و العين: ما عن يمين القبلة

                  و العين: عين الميزان.



                  [1] فايز الداية، علم الدلالة العربي، دار الفكر ، دمشق سورياّ، الطبعة 2، 1996، ص77-78.

                  [2] السيوطي، المزهر في علوم اللغة - (1 / 292)

                  [3] نفسه 1/293

                  • العلاقات الدلالية (التضاد)

                    التضاد

                    تعريفه :

                    هو استخدام اللفظ الواحد في معنيين متضادين. ويعد التضاد نوعا من المشترك اللفظي يصل فيه اختلاف المعنى للفظ الواحد إلى درجة الضدية

                    و قد اهتم علماء العربية قديما بهذه الظاهرة ووضعوا فيها كثيرا من المؤلفات، من أشهرها:

                    -   الأضداد لابن الانباري (ت 328ه)

                    -  الأضداد للأصمعي 216 ه

                    -  الأضداد لابن السكيت 244 ه     

                    و كما كان بالنسبة للمشترك فقد اختلف العلماء قديما بين مثبت و منكر و متوسط

                    و من المنكرين ابن درستويه (347هـ) الذي وضع كتابا في إبطال الأضداد، كما فعل بالنسبة للمشترك و كذلك الجواليقي.

                    و كان مما علل به المنكرون موقفهم أن وجود الأضداد ينافي الحكمة، و واضع اللغة لا بد أنه كان حكيما.

                    أما الذين يقرون بوجود الأضداد فهم كثر منهم:

                    ابن الانباري، و ابن فارس، الذي قال " وأنكر ناس هذا المذهب، و أن العرب تأتي باسم واحد للشيء و ضده........." (ينظر الصاحبي ص98)

                    على أية حال هناك من توسع في التضاد فأدخل فيه ما ليس منه، و هناك من ضيق فاعتبر أن بعضه لغات وليس من الأضداد.

                    ومن أمثلة الأضداد

                    النَّاهل في كلام العرب : العَطْشان والناهل : الذي قد شرب حتى رَوي

                    والسُّدْفة في لغة تميم : الظّلمة والسُّدْفة في لغة قيس : الضوء

                    لَمَقت الشيء ألْمُقهُ لَمْقاً إذا كتبتُه في لغة بني عقيل وسائر قيس يقولون : لَمَقته : مَحَوْته

                    الجَوْن : الأسود والجَوْنُ : الأبيض

                    الجَلَل : الشيء الصغير والجلَلَ : العظيم

                    والإهْماد : السرعة في السير والإهماد : الإقامة

                    والظّنُّ : يقينٌ وشك

                    والرَّهْوة : الارتفاع والرَّهوة : الانحدار

                     ووراء تكون خَلْف وقدّام

                    وفرّع الرجل في الجبل : صَعد وفرّع : انحدر

                     ورَتَوْتُ الشيء : شددته وأرْخيته

                     وقال الكسائي : أفَدْتُ المال : أعطيتُه غيري وأفدْتُه : استفَدْتُه

                    وأسررْت الشيءَ : أخفيتُه وأعلنته

                      وبه فُسّر قوله تعالى ( وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ) : أي أظهروها

                    • Section 10