Aperçu des sections

  • Généralités

  • Cette section

    نظرية الحضارة عند ابن خلدون (732-808هـ =1332-1406م):

      تقديم:

     عبدالرحمن بن محمد بن محمد، ابن خلدون أبو زيد، وليّ الدين الحضرميّ الإشبيلي، من ولد وائل بن حجر: الفيلسوف المؤرخ، العالم الاجتماعي البحاثة. أصله من إشبيلية، ومولده ومنشأه بتونس. رحل إلى فاس وغرناطة وتلمسان والأندلس، وتولى أعمالا، واعترضته دسائس ووشايات، وعاد إلى تونس. ثم توجه إلى مصر فأكرمه سلطانها الظاهر برقوق. وولي فيها قضاء المالكية، ولم يتزيّ بزيّ القضاة محتفظًا بزيّ بلاده. وعزل، وأعيد. وتوفي فجأة في القاهرة.

    كان فصيحًا، جميل الصورة، عاقلا، صادق اللهجة، عزوفًا عن الضيم، طامحًا للمراتب العالية.

    ولما رحل إلى الأندلس اهتزّ له سلطانها، وأركب خاصته لتلقيه، وأجلسه في مجلسه.

    اشتهر بكتابه (العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر- ط) في سبعة مجلدات، أوّلها (المقدمة) وهي تعد من أصول علم الاجتماع، ترجمت هي وأجزاء منه إلى الفرنسية وغيرها. وختم (العبر) بفصل عنوانه (التعريف بابن خلدون) ذكر فيه نسبه وسيرته وما يتصل به من أحداث زمنه. ثم أفرد هذا الفصل، فتبسّط فيه، وجعله ذيلا للعبر، وسماه (التعريف بابن خلدون، مؤلف الكتاب، ورحلته غربا وشرقا- ط) ومن كتبه (شرح البردة) وكتاب في (الحساب) ورسالة في (المنطق) و(شفاء السائل لتهذيب المسائل- ط) وله شعر. وتناول كتّاب من العرب وغيرهم سيرته وآراءه، في مؤلفات خاصة، منها: (حياة ابن خلدون– ط) لمحمد الخضر بن الحسين، و(فلسفة ابن خلدون- ط) لطه حسين، و(دراسات عن مقدمة ابن خلدون- ط) لساطع الحصري، جزءان، و(ابن خلدون، حياته وتراثه الفكري- ط) لمحمد عبدالله عنان، و(ابن خلدون- ط) ليوحنا قمير، ومثله لعمر فروخ

    اولا: حياة ابن خلدون:

    اجتاز ابن خلدون في حياته أربع مراحل، تمتاز كل مرحلة منها بمظاهر خاصة من نشاطه العلمي والعملي:

    (المرحلة الأولى) مرحلة النشأة والتلمذة والتحصيل العلمي. وتمتد من ميلاده سنة 732هـ لغاية سنة 751هـ، فتستغرق زهاء عشرين عامًا هجريًّا. وقد قضاها كلها في مسقط رأسه بتونس، وقضى منها نحو خمسة عشر عامًا في حفظ القرآن وتجويده بالقراءات والتلمذة على الشيوخ وتحصيل العلوم

    (المرحلة الثانية) مرحلة الوظائف الديوانية والسياسية. وتمتد من أواخر سنة 751هـ إلى أواخر سنة 776هـ، فتستغرق زهاء خمسة وعشرين عامًا هجريًّا، قضاها متنقلا بين بلاد المغرب الأدنى والأوسط والأقصى وبعض بلاد الأندلس، وقد استأثرت الوظائف الديوانية والسياسية بمعظم وقته وجهوده في أثناء المرحلة.

    (المرحلة الثالثة) مرحلة التفرغ للتأليف. وتمتد من أواخر سنة 776هـ إلى أواخر سنة 784هـ، فتستغرق نحو ثمان سنين، قضى نصفها الاول في قلعة ابن سلامة ونصفها الأخير في تونس، وقد تفرغ في هذه المرحلة تفرغًا كاملاً لتأليف "كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر". ويطلق الآن على القسم الأول من هذا الكتاب اسم مقدمة ابن خلدون، وهو يشغل مجلدًا واحدًا من سبعة مجلدات يشغلها هذا الكتاب بحسب طبعة بولاق، ولم يستغرق تأليف هذا القسم في وضعه الأول إلا خمسة أشهر فحسب. 

    (المرحلة الرابعة) مرحلة وظائف التدريس والقضاء. وتمتد من أواخر سنة 783هـ إلى أواخر سنة 808هـ، فتستغرق زهاء أربع وعشرين سنة قضاها كلها في مصر؛ وقد استأثرت وظائف التدريس والقضاء بأكبر قسط من وقته وجهوده في أثناء هذه المرحلة.

    ثانيا: الظروف والأحداث في حياة ابن خلدون:

    لكل عصر قيمه وعاداته وطرائقه وأساليب الحياة السائدة فيه، التي تحدد ملامح حضارة هذا العصر، والتي يعكسها الإنتاج الفكري لعلمائه ومثقفيه. كما يعكس هذا الإنتاج الفكري ملامح الحضارة والعصر التي ينتمي إليها فهو أيضًا يتأثر بهما، لهذا ترتبط عملية استيعاب وفهم الإنجاز العلمي والفكري للعلامة "ابن خلدون" بالتعرف على ظروف عصره وملامحه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية.

    • ·               الحياة الاقتصادية والاجتماعية في عصر "ابن خلدون":

    كان النشاط الاقتصادي من أكثر الأنشطة الاقتصادية رواجًا في المغرب العربي، حيث كانت قوافل التجارة تقطع فيافي هذه البلاد. ويصف ابن بطوطة بلاد المغرب بأنها هي أرخص البلاد، وأكثرها خيرات، وأعظمها فوائد. وبخلاف النشاط التجاري كان هناك نشاط زراعي واسع في بلاد المغرب الأقصى، وكان استثمار الأراضي للزراعة كان يدرُّ مدخلات طيبة. وقد انعكس هذا الرخاء الزراعي على مستوى ونوعية الحياة في تلك البلدان التي عرفت أيضًا نهضة عمرانية كبيرة أشارت كتب الرحالة إلى أبرز معالمها، ولم تقتصر النهضة العمرانية على القصور فقط ولكنها تضمنت الكثير من الطرق البرية والبحرية التي سهلت التنقل من مكان إلى آخر.

    أما من الناحية الاجتماعية: فالعصر الوسيط الذي ينتمي إليه "ابن خلدون" لم تعرف مجتمعاته الطبقات الرأسية –كما هو الحال اليوم- بل كانت طبقات ومراتب وأصنافًا أفقية على طول امتداد العالم الإسلامي. فهناك طبقة الجنود وطبقة العلماء وطبقة التجار وطبقة المتصوفة...إلخ. وكان أفراد كل طبقة يتعاطفون فيما بينهم بغض النظر عن اختلاف جنسياتهم، مهما بعدت بهم المسافات وفرقت بينهم السياسات، بمعنى أن العالمية والوحدة كانتا من سمات العصر الوسيط، وهو أمر كان ملائمًا لطبيعة البنية السياسية والنشاط الاقتصادي لذلك العصر. 

    ولم تختلف أوضاع الحياة الاقتصادية والاجتماعية بمصر - البلد التي قضى فيها ابن خلدون الربع قرن الأخير من حياته - كثيرًا عن الحياة في بلاد المغرب العربي؛ من حيث ازدهار الحياة الاقتصادية، وهو ما يظهر بوضوح في الانطباعات الخلاقة التي أوردها "ابن بطوطة" من خلال وصفه لهذه البلاد التي زارها أثناء رحلته، ووصفه لمصر الحضارية التي بهرته مثلما بهرت معاصره "ابن خلدون".

    • ·                    الحياة الثقافية والسياسية في عصر ابن خلدون:

    لا يمكن الفصل بين الإنجاز العلمي الذي قدمه "ابن خلدون" للإنسانية وبين طبيعة الحياة الثقافية والفكرية والسياسية التي عاصرها "ابن خلدون"، وشكلت ملامح فكره وتكوينه المعرفي. فقد كان "ابن خلدون" تجسيدًا في شخصه لوحدة علمية وثقافية شملت العالم العربي الإسلامي، كما كان تجسيدًا في فكره لفلسفة التاريخ الإسلامي، وممثلا لحال الثقافة العربية الإسلامية في عصر توهُّجها الأخير؛ حيث عاش في زمن "كان" العرب والمسلمون فيه ما يزالون يقودون البشرية صوب التقدم والرقي، ومن ناحية أخرى كان العصر الذي عاش فيه "ابن خلدون" هو عصر "التجميع"، الذي أنتج الموسوعات الكبرى، عصر التوهج الأخير الذي شهِد محاولات "الجمع" أكثر من محاولات "الإبداع"؛ فقد كتب النويري "نهاية الأرب في فنون الأدب"، وكتب العمري "مسالك الأبصار"، وكتب القلقشندي "صبح الأعشى"، كما كتب غيرهم مؤلفات وموسوعات ومعاجم "جامعة"[8].

    ومن ناحية أخرى، ازدهرت الكتابة التاريخية العربية، وتنوعت أنماط الكتابة التاريخية ما بين الكتب العامة، والرسائل ذات الموضوع الواحد، والسير الملكية، والتاريخ الحضري الذي يختص بمدينة ما، وفضائل البلدان، والخطط. كان "ابن خلدون" هو ابن العصر الأخير من عصور الثقافة العربية الإسلامية (القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي).

    وإذا كان هذا العصر قد تميز - كما أسلفنا - بغزارة الإنتاج العلمي لعمالقة الفكر في الغرب الإسلامي، إلا أنه يمكن القول: بأن أدب الرحلات هو من أهم الآثار التراثية التي ميزت هذه الحقبة. فقد جاب عدد كبير من الرحالة المغاربة والأندلسيين الشمال الإفريقي طولاً وعرضًا، وجاسوا فيه خلال الديار، وفحصوا أغواره، وأنجاده، واصفين لنا بدقة الأحوال السياسية، والثقافية، والتاريخية، والاجتماعية، والاقتصادية، والعمرانية لهذه البلاد.

      ورغم ما تؤكده كتب الرحلة من ازدهار الحركة العلمية والثقافية في عصر "ابن خلدون" نجدها تشير أيضًا إلى ملامح الحياة السياسية في تلك الحقبة، وهي الملامح التي أثرت على رؤية "ابن خلدون" الفكرية، والتي يعكسها كتاب "العبر في ديوان المبتدأ والخبر" بجميع أجزائه، ففي هذا العمل وضع "ابن خلدون" خلاصة تجاربه، وبرز كمؤرخ فهم التاريخ بمعناه الحقيقي الشامل الذي يتلخص في: أن الحدث التاريخي أكبر من أن يكون حدثًا سياسيًّا فقط، بل هو نتيجة لتفاعل عدد من العوامل السياسية والجغرافية والاقتصادية والاجتماعية، وكذلك النفسية أيضًا، وهذا مما دعا "ابن خلدون" إلى الكلام عن مفهوم التاريخ على أنه أشبه بمفهوم الحضارة؛ أي: جعله تاريخًا للأمم والشعوب بدلاً من سير الملوك والأمراء وطبقات الأعيان، لهذا لا يمكن فصل رؤية "ابن خلدون" عن أسباب قيام الحضارات والدول وانهيارها بمعزل عن واقع الحياة السياسية في عصره بكل تعقيداتها والتي كان "ابن خلدون" نفسه طرفًا في بعضها، فقد حكمت الشمال الإفريقي في هذا العصر إمارات تميَّزت إلى حد ما بالرفاهية والقوة والمنعة، وهي الإمارات التي تجزَّأت إليها دولة الموحدين بعد سقوطها عام 667هـ/1268م.

    وقد تواترت في رحلات الرحالة في تلك الفترة الإشارة إلى الصراعات السياسية بين الإمارات المتنازعة وجهود بعض الحكام لتوحيدها.

    وبجانب الصراعات السياسية الناشئة بين حكام الإمارات، وما أدت إليه من اضطراب سياسي، كان هناك أيضًا مشكلات الصراعات القبلية التي نجَمت عن ضعف السلطة السياسية، وأدت إلى خروج العديد من القبائل عليها وممارستها لعمليات السلب والنهب.

    كذلك تشير كتب الرحلة في تلك الفترة إلى ظلم واستبداد الحكام ونهبهم للمحكومين بدون أي رادعٍ.

    كان العالم الإسلامي أيضًا يعاني من أعداء صليبيين، ولا سيما في المغرب والأندلس؛ حيث كثيرًا ما لجأت الأندلس لاستصراخ إخوانها المغاربة للجهاد ضد المسيحيين.

    أما الجناح الشرقي للعالم الإسلامي، فقد كان يتعرض لخطر هجمات التتار الذين احتك بهم "ابن خلدون" بنفسه.

    هذه هي أهم الصور والأحداث التي أثرت في فكر "ابن خلدون"، وكان لها اكبر الأثر في فكره وكتابته.

     

    ثالثا: قيام الحضارات وسقوطها عند ابن خلدون:

    اهتم ابن خلدون بقضية الحضارة والعمران وبيان أسبابها ومظاهرها، وأسباب اندثارها وانحطاطها، هذا ما برز في مقدمة ابن خلدون، وسوف نتحدث عن هذه القضية من كلام ابن خلدون نفسه.

    ولكن قبل أن نبدأ نقرر: أن ابن خلدون لم يرتكب خطأً حصر نفسه في المتغيرات الاقتصادية وحدها لتفسير التنمية والانحطاط، بل إنه اعتمد على مقاربة دينامية متعددة فروع المعرفة؛ ليُبين كيف أن العلاقة المترابطة للعلاقة الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية، والسياسية والتاريخية والديموغرافية، تؤدي إلى نهضة المجتمعات وسقوطها. 

    رابعا: أسباب الحضارة والعمران عند ابن خلدون:

    1- العوامل الطبيعية الجغرافية:

    إن للحضارة عند ابن خلدون سببًا طبيعيًّا جغرافيًّا، ففي المقدمة الثالثة يعنونها ابن خلدون بعنوان: "في المعتدل من الأقاليم والمنحرف وتأثير الهواء في ألوان البشر والكثير من أحوالهم"، ثم يفسر ذلك بقوله: "قد بينا أن المعمور من هذا المنكشف من الأرض إنما هو وسطه لإفراط الحر في الجنوب والبرد في الشمال، ولما كان الجنبان من الشمال والجنوب متضادين في الحر والبرد، وجب أن تندرج الكيفية من كليهما إلى الوسط، فيكون معتدلاً، فالإقليم الرابع أعدل للعمران، والذي حافته من الثالث والخامس أقرب إلى الاعتدال، والذي يليهما من الثاني والسادس بعيدان من الاعتدال، والأول والسابع أبعد بكثير، فلهذا كانت العلوم والصنائع والمباني والملابس والأقوات والفواكه، بل والحيوانات وجميع ما يتكون في هذه الأقاليم الثلاثة المتوسطة مخصوصة بالاعتدال، وسكانها من البشر أعدل أجسامًا وألوانًا وأخلاقًا وأديانًا، حتى النبوات فإنما توجد في الأكثر فيها، ولم نقف على خبر بعثة في الأقاليم الجنوبية ولا الشمالية، وذلك أن الأنبياء والرسل إنما يختص بهم أكمل النوع في خَلْقهم وأخلاقهم؛ قال تعالى: ﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس ﴾ [آل عمران:110]

    • 2- الانتقال من البداوة إلى الحضر:

      ثاني هذه العوامل التي تساعد في قيام الحضارة والعمران الانتقال من طور البداوة إلى طور الحضارة.

      فقد بين ابن خلدون أن أجيال البدو والحضر طبيعية، فاختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نِحْلَتِهِم من المعاش، فإن اجتماعهم إنما هو للتعاون على تحصيله والابتداء بما هو ضروري منه وبسيط قبل الحاجي والكمالي، فمنهم من يستعمل الفلح من الغراسة والزراعة، ومنهم من ينتحل القيام على الحيوان من الغنم والبقر، والمعز والنحل والدود، لِنتَاجِها واستخراج فضلاتها، وهؤلاء القائمون على الفلح والحيوان تدعوهم الضرورة - ولا بد - إلى البَدْو؛ لأنه متسِعٌ لما لا يتَّسِعُ له الحواضر من المزارع والفُدُن والمسارح للحيوان وغير ذلك، فكان اختصاص هؤلاء بالبدو أمرًا ضروريًّا لهم، وكان حينئذ اجتماعهم وتعاونهم في حاجاتهم ومعاشهم وعمرانهم من القوت والكِنِّ والدَّفاءة، إنما هو بالمقدار الذي يحفظ الحياة، ويحصِّلُ بُلغَة العيش من غير مزيد عليه، للعجز عما وراء ذلك.

      ثم إذا اتسعت أحوال هؤلاء المنتحلين للمعاش، وحصل لهم ما فوق الحاجة من الغنى والرَّفْه، دعاهم ذلك إلى السكون والدَّعة، وتعاونوا في الزائد على الضرورة، واستكثروا من الأقوات والملابس، والتأنق فيها وتوسعة البيوت، واختطاط الأمصار للتحضر، ثم تزيد أحوال الرَّفْه والدَّعة فتجيء عوائد الترف البالغة مبالغها في التأنق في علاج القوت واستجادة المطابخ، وانتقاء الملابس الفاخرة في أنواعها من الحرير والديباج وغير ذلك، ومعالاة البيوت والصروح، وإحكام وضعها في تنجيدها، والانتهاء في الصنائع في الخروج من القوة إلى الفعل إلى غاياتها، فيتخذون القصور والمنازل، ويُجْرون فيها المياه ويعالون في صَرْحها، ويبالغون في تنجيدها، ويختلقون في استجادة ما يتخذونه لمعاشهم من ملبوس أو فراش، أو آنية أو ماعون، وهؤلاء هم الحضر، ومعناه الحاضرون أهل الأمصار والبلدان، ومن هؤلاء من ينتحل في معاشه الصنائع ومنهم من ينتحل التجارة. وتكون مكاسبهم أنمى وأرفه من أهل البدو؛ لأن أحوالهم زائدة على الضروري ومعاشهم على نسبة وُجْدهم .فقد تبين أن أجيال البدو والحضر طبيعية لا بد منها كما قلنا.

      3- وجود سياسة ينتظم بها أمر العمران:

      يرى ابن خلدون أن الاجتماع البشري ضروري، وأنه لا بد لهم في الاجتماع من وازع حاكم يرجعون إليه، وحكمه فيهم: تارة يكون مستندًا إلى شرع منزل من عند الله يوجب انقيادهم إليه إيمانُهم بالثواب والعقاب عليه الذي جاء به مبلَّغُه؛ وتارة إلى سياسة عقلية يوجب انقيادهم إليها ما يتوقعونه من ثواب ذلك الحاكم بعد معرفته بمصالحهم. فالأولى يحصل نفعها في الدنيا والآخرة لعلم الشارع بالمصالح في العاقبة، ولمراعاته نجاة العباد في الآخرة، والثانية إنما يحصل نفعها في الدنيا فقط.

      وما تسمعه من السياسة المدنية فليس من هذا الباب، وإنما معناه عند الحكماء ما يجب أن يكون عليه كل واحد من أهل ذلك المجتمع في نفسه وخلقه حتى يستغنوا عن الحكام رأسًا: ويسمون المجتمع الذي يحصل فيه ما يسمى من ذلك "بالمدينة الفاضلة"؛ والقوانين المراعاة في ذلك "بالسياسة المدنية". وليس مرادهم السياسة التي يُحْمل عليها اهل الاجتماع بالمصالح العامة؛ فإن هذه غير تلك. وهذه المدينة الفاضلة عندهم نادرة أو بعيدة الوقوع، وإنما يتكلمون عليها على جهة الفرض والتقدير.

      ثم إن السياسة العقلية التي قدمناها تكون على وجهين. أحدهما يراعي فيها المصالح على العموم ومصالح السلطان في استقامة ملكه على الخصوص. وهذه كانت سياسة الفرس وهي على جهة الحكمة. وقد أغنانا الله عنها في الملة ولعهد الخلافة، لأن الأحكام الشرعية مغنية عنها في المصالح العامة والخاصة والآداب، وأحكام الملك مندرجة فيها، الوجه الثاني أن يراعى فيها مصلحة السلطان وكيف يستقيم له الملك مع القهر والاستطالة، وتكون المصالح العامة في هذه تبعًا، وهذه السياسة التي يحمل عليها أهل الاجتماع التي لسائر الملوك في العالم من مسلم وكافر، إلا أن ملوك المسلمين يجرون منها على ما تقتضيه الشريعة الإسلامية بحسب جهدهم؛ فقوانينها إذًا مجتمعة من أحكام شرعية، وآداب خلقية، وقوانين في الاجتماع طبيعية، وأشياء من مراعاة الشوكة والعصبية ضرورية، والاقتداء فيها بالشرع أولاً، ثم الحكماء في أدبهم والملوك في سيرهم.

      4- الثروة ودورها في الحضارة والعمران:

      المال عند ابن خلدون لا يعتمد على الحظ أو قراءة النجوم، أو وجود مناجم الذهب والفضة؛ يقول ابن خلدون: "اعلم أن كثيرًا من ضعفاء العقول في الأمصار يحرصون على استخراج الأموال من تحت الأرض، ويبتغون الكسب في ذلك، ويعتقدون أن أموال الأمم السالفة مختزنة كلها تحت الأرض مختوم عليها بطلاسم سحرية لا يفض ختامَها ذلك إلا من عثر على علمه، واستحضر ما يحله من البخور والدعاء والقربان".

      وقد أكد ابن خلدون أن الكسب والإنتاج والعمران لا يتحقق إلا بالعمل، فيقول: "فلا بد من الأعمال الإنسانية في كل مكسوب ومتمول؛ لأنه إن كان عملاً بنفسه مثل الصنائع فظاهر، وإن كان مقتنى من الحيوان والنبات والمعدن، فلا بد فيه من العمل الإنساني كما تراه، وإلا لم يحصل ولم يقع به انتفاع".

      5- العدل ودوره في العمران والحضارة:

      فقد أكد ابن خلدون على أهمية العدل في قيام الحضارات، ففي عنوان له في المقدمة "الظلم مؤذن بخراب العمران"؛ يقول ابن خلدون: "اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابُها من أيديهم، وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك، وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب، فإذا كان الاعتداء كثيرًا عامًّا في جميع أبواب المعاش، كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه الآمال جملة بدخوله من جميع أبوابها، وإن كان الاعتداء يسيرًا كان الانقباض عن الكسب على نسبته، والعمران ووفوره ونَفَاق أسواقه، إنما هو بالأعمال، وسعي الناس في المصالح والمكاسب، ذاهبين وجائين، فإذا قعد الناس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران، وانتقضت الأحوال وابْذَغَرَّ. الناس في الآفاق من غير تلك الإيالة في طلب الرزق فيما خرج عن نطاقها، فخف ساكن القطر، وخلت دياره، وخربت أمصاره، واختل باختلاله حال الدولة والسلطان؛ لما أنها صورة للعمران تفسد بفساد مادتها ضرورةً".

      ثم يقول ابن خلدون: "واعلم أن هذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم، وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه، وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري، وهي الحكمة العامة المراعاة للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة، من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، فلما كان الظلم كما رأيت مؤذنًا بانقطاع النوع لما أدى إليه من تخريب العمران، كان حكمة الحظر فيه موجودة، فكان تحريمه مهمًا، وأدلته من القرآن والسنة كثيرة، أكثر من أن يأخذها قانون الضبط والحصر".

      • خامسا: أسباب انهيار الحضارة والعمران عند ابن خلدون:

        أشار ابن خلدون في مقدمته عن أسباب انهيار الحضارات وخراب العمران، ومن هذه الأسباب التي ذكرها ابن خلدون:

        1- تغلب العرب على الأوطان:

        وقد أشار ابن خلدون إلى هذا الأمر، وعنون له عنوانًا: "العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب"، وقد فسر ذلك بقوله: "والسبب في ذلك أنهم أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم، فصار لهم خلقًا وجبلة، وكان عندهم ملذوذًا لما فيه من الخروج عن رِبقة الحكم، وعدم الانقياد للسياسة، وهذه الطبيعة منافية للعمران ومناقضة له".

        2- الاستبداد بالملك وحصول الترف:

        وقد بين ذلك ابن خلدون بقوله: "وبيانه من وجوه:

        الوجه الأول: ما كان المجد مشتركًا بين العصابة، وكان سعيهم له واحدًا، كانت همتهم في التغلب على الغير والذّبِّ عن الحَوْزَةِ، وإذا انفرد الواحد منهم بالمجد قرع عصبيتهم، وكبح من أعنَّتهم واستأثر بالأموال دونهم، فتكاسلوا عن الغزو، وفشل ريحهم، ورئموا المذلة والاستعباد، ثم رُبِّي الجيل الثاني منهم على ذلك، يحسبون ما ينالهم من العطاء أجرًا من السلطان لهم على الحماية والمعونة.

        الوجه الثاني: أن طبيعة الملك تقتضي الترف، فتكثر عوائدهم وتزيد نفقاتهم على أعْطِياتهم، ولا يفي دخلهم بخرجهم؛ فالفقير منهم يَهْلك، والمترف يستغرقُ عطاءه بتَرفِه، ثم يزداد ذلك في أجيالهم المتأخرة إلى أن يقصُر العطاء كله عن الترف وعوائده.

        وأيضًا فالترف مفسد للخُلق بما يحصل في النفس من ألوان الشر والسفسفة وعوائدها، فتذهب منهم خلال الخير التي كانت علامة على الملك ودليلاً عليه، ويتصفون بما يناقضها من خلال الشر، فتكون علامة على الإدبار، والانقراض بما جعل الله من ذلك في خليقته، وتأخذ الدولة مبادئ العطب، وتتضعضع أحوالها وتنزل بها أمراض مزمنة من الهرم إلى أن يقضي عليها.

        والوجه الثالث: أن طبيعة الملك تقتضي الدعة، وإذا اتخذوا الدعة والراحة مألفًا وخُلُقًا، صار ذلك طبيعة وجِبلة، فتربَّى أجيالهم الحادثة في غضارة. العيش ومهاد الترف والدعة، وينقلب خلق التوحش، وينسون عوائد البداوة التي كان بها الملك؛ من شدة البأس، وتعود الافتراس، وركوب البيداء، وهداية القفر، فلا يفرَّق بينهم وبين السُّوقة من الحضر إلا في الثقافة والشارة، فتضعف حمايتهم، ويذهب بأسهم، وتنخضد شوكتهم، ويعود وبال ذلك على الدولة بما تلبس به من ثياب الهرم...".

        3- الظلم مؤذن بخراب العمران:

        "ومن أشد الظلمات وأعظمها في إفساد العمران تكليف الأعمال وتسخير الرعايا بغير حق، فإذا كلفوا العمل في غير شأنهم واتُّخذوا سُخْريًّا في معاشهم، بطَل كسبهم واغتُصبوا قيمة عملهم ذلك، وهو مُتموَّلهم، فدخل عليهم الضرر، وذهب لهم حظ كبير من معاشهم، بل هو معاشهم بالجملة، وإن تكرر ذلك أفسد آمالهم في العمارة، وقعدوا عن السعي فيها جملةً، فأدى ذلك إلى انتقاص العمران وتخريبه".

        "وأعظم من ذلك في الظلم وإفساد العمران والدولة التسلط على أموال الناس، بشراء ما في أيديهم بأبخس الأثمان، ثم فرض البضائع عليهم بأرفع الأثمان على وجه الغصب والإكراه في الشراء والبيع، وربما تُفرض عليهم تلك الأثمان على التراخي والتأجيل، فيتعلَّلون في تلك الخسارة التي تلحقهم بما تحدثهم المطابع من جبر ذلك بحوالة الأسواق في تلك البضائع التي فرضت بالغلاء إلى بيعها بأبخس الأثمان، وتعود خسارة ما بين الصفقتين على رؤوس أموالهم...".

        4- الحضارة غاية العمران ونهاية لعمره ومؤذنة بفساده:

        "الملك والدولة غاية العصبية، والحضارة غاية للبداوة، وأن العمران كله من بداوة وحضارة وملك وسوقة له عمر محسوس، كما أن للشخص الواحد من أشخاص المكونات عمرًا محسوسًا، وتبين في العقول والنقول أن الأربعين للإنسان غاية في تزايد قواه ونموها، وأنه إذا بلغ سن الأربعين وقفت الطبيعة عن أثر النشوء والنمو برهة، ثم تأخذ بعد ذلك في الانحطاط، فلتعلم أن الحضارة في العمران أيضًا كذلك؛ لأنه غاية لا مزيد وراءها، وذلك أن الترف والنعمة إذا حصلا لأهل العمران دعاهم بطبعه إلى مذاهب الحضارة والتخلق بعوائدها، والحضارة كما علمت هي التفنن في الترف واستجادة أحواله، والكَلَف[35] بالصنائع التي تؤنق من أصنافه وسائر فنونه من الصنائع المهيَّئة للمطابخ أو الملابس، أو المباني أو الفرش، أو الآنية ولسائر أحوال المنزل، وللتأنق في كل واحدة من هذه صنائع كثيرة لا يحتاج إليها عند البداوة، وعدم التأنق فيها، وإذا بلغ التأنق في هذه الأحوال المنزلية الغاية تبعه طاعة الشهوات، فتتلون النفس من تلك العوائد بألوان كثيرة لا يستقيم حالها معها في دينها ولا دنياها، أما دينها فلاستحكام صبغة العوائد التي يعسر نزعها، وأما دنياها فلكثرة الحاجات والمؤونات التي تطالب بها العوائد ويعجِز الكسب عن الوفاء بها". 

        هذه هي نظرية "ابن خلدون" في قيام الحضارات وسقوطها، ولا شك أنه تحليل مهم قد سبق به علماء الاجتماع في العالم أجمع، ولا شك أن "ابن خلدون" نظر فيه نظرة شمولية، غير قائمة على الجزئية في النظر، لكنه وصف للظاهرة من كل جوانبها، فاستحق بذلك أن يكون عالم الاجتماع الأول في تاريخ الإنسانية.

        لقد كانت النظرة التقليدية إلى التاريخ تهتم، غاية ما تهتم، بجمع الوقائع العسكرية، والتحولات السياسية، التي تتخذ صور المعـاهــدات ، أو التنازلات، أو ما إلى ذلك من أمور تتصل بطريق أو بآخر بالخط السياسي والعسكري .وقلما كان قارئ التاريخ يجد بين ثنايا الكتابات الموضوعية، أو الحولية البالغة حد المجلدات، سطورًا أو صفحات، تتناول ناحية فكرية أو اعتقادية، أو تحولاً اجتماعيًا أو اقتصاديًا، أو رؤية نفسية، أو نظرة شبه شاملة ـ فضلا عن النظرة الشاملة ـ ترصد سائر العوامل المحركة والمسهمة في صنع الحدث التاريخي!!

        وقد يكون بإمكاننا في هذا البحث أن نقول : إن ذلك المنهج -بصفة عامة- قد سيطر على حركة التاريخ البشري، في سائر كتابات المؤرخـين باستثناء النظرات العارضة التي تناولناها آنفًا حتى ظهر ذلك العملاق العبقري المغربي الأندلسي المسلم، عبد الرحمن بن خلدون .

        إلا أننا -خضوعاً للموضوعية- نضطر إلى القول: بأن مؤرخنا المسلم العظيم، قد استطاع أن يضع فعلاً رؤية تنظيرية لتفسير التاريخ، بعوامل مختلفة، سماها طوراً (العصبية الدينية أو القبلية)، وسماها طورًا (البيئة)، (أي الأثر الجغرافي)، كما ألمح إلى العوامل البيولوجية والاقتصادية.

        إلا أن المؤرخ الكبير لم يقدم لنا دراسة تاريخية تطبيقية، نستطيع أن نتكئ عليها لكي نقول : إنه قد فتح عصرًا جديدًا في نهج التأليف التاريخي، كما أنه من سوء حظ مؤرخنا الكبير، ومن سوء حظنا ـ كأمة ينتمي هذا المفكر العملاق إليها ـ أن اشعاعات ابن خلدون القوية، واجهت أمة نائمة، كانت تعيش فترة اضطراب حضاري، فلم تستطع إيقاعاته بالتالي أن تقوم بدورها في تحريك المجتمع الإسلامي الفوار بالاضطرابات والشرور، خلال القرون التي سبقت عصر اليقظة في أوروبا ... أي الثامن والتاسع والعاشر للهجرة (الرابع عشر، والخامس عشر، والسادس عشر للميلاد).

        وبين صخب الصراعات الصغيرة الطائفية، في المجتمع الإسلامي العريض، ضاعت إيقاعات ابن خلدون ... فلم تظهر إلا بعد أن اكتشف أصداءها أوروبيون اتصلوا بالعالم الإسلامي المتحضر. وهذا حق لا يمكن إنكاره، فإن ابن خلدون كان خميرة قوية، وإن لم نستطع نحن المسلمين الإفادة منها، فإن الأوربيين قد أفادوا منها أيّ إفادة..ويعتبر ابن خلدون من القلائل الذين ترجمت أعمالهم في وقت مبكر إلى كل لغات العالم الحية تقريبًا ، وقد كتب الأوروبيون حول مقدمته الشهيرة (وهي الجزء الأول من كتابه الكبير: ( العبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومن جاورهم من ذوي السلطان الأكبر) عشرات، بل مئات الدراسات، بحيث لايجد المؤرخ المسلم أي حرج في أن يصرح بأن تأثير فكر ابن خلدون (بمقدمته في تفسير التاريخ وعلم العمران البشري) كان تأثيرًا مباشرًا وقويًا وحاسمًا في يقظة الحضارة الأوروبية، وتعتبر القائمة التي أوردها الدكتور (عبد الرحمن بدوي) حول الدراسات الأوروبية عن ابن خلدون -( في كتابه عنه )- من الأدلة الواضحة على عمق هذا التأثير ووضوحه.

         

        وقد تيقظ الأوروبيون منذ بداية عصر النهضة على أصداء المقدمة، وقد بدأوا في النظر إلى التاريخ نظرة أقرب إلى الشمول والتكاملية، فلم يعد التاريخ مجرد حروب ومعاهدات، بل أصبح في رأي أكثرهم : (الأرض التي يجب أن تقف الفلسفة عليها، وهي تنسج سائر ألوان المعرفة في نسيج واحد، لينير طريق الحياة الإنسانية) .

        • سادسا: الفكر الخلدوني في العصبية والعروبة

          لم تحتل مشكلةٌ من مشكلات الفكر الخلدوني بخاصة، والفكر التاريخي الإسلامي بعامة، المكانة التي احتلتها نظرية ابن خلدون في العصبية، ودورها في قيام الدول وسقوطها.

          كانت العصبية هي المفتاح الذي حل به ابن خلدون جميع المشكلات التي يطرحها سير أحداث التاريخ الإسلامي إلى عهده.. وقيمة آراء ابن خلدون ، تكمن في الإشكالات العديدة التي تطرحها نظريته في العصبية والدولة، وفي العلاقة القائمة بينهما، هذه العلاقة ، التي تحدد ، في نظر ابن خلدون ، شكل العمران، وتجسد حركة التاريخ..

          أولاهما: صلة الإسلام بهذه العصبية.

          ثانيهما: موقف الفكر الخلدوني من العنصر العربي.

          ليست العصبية الخلدونية، مرحلة واحدة تقف عند النسب والمصاهرة والدم، وإنما كانت هذه هي المرحلة الأساس -على الأقل- في مستوى البدو، الذين كانوا موضوع البحث الاجتماعي والحضاري عند ابن خلدون... لكن هذه العصبية القائمة على الرحم القريب، في أقوى حالاتها الخاصة، والبعيد في حالاتها العامة -تتطور لتتجاوز النسب، وتصبح الالتحام الحاصل بسببه، حيث تفقد العصبية معناها النسبي، بعد أربعة أجيال، فتصبح الجماعة المعينة -أو العصبية- أقرب إلى الجماعة، التي جمعها العيش لفترات في مكان معين، وارتبطت مصالحها المشتركة، بحيث وجب عليهم أن يكونوا (قوة للمواجهة) في وجه التحديات.

            وفي مجتمع البادية، تبرز عصبية المستوى الأول (الخاص)، وفي مجتمعات العمران أو الحضارة، يبرز المستوى العام، فعصبية البادية قابلةٌ للتطور مع الانفتاح على العمران .. والمجتمع المتحضر، تظهر فيه آفاق جديدة للتعاون والتكافل.. والدين أو الدعوة الدينية، سواء كانت نبوة، كما وقع على يد رسول الله صلى الله عليه و سلم، أم دعوة إصلاحية ، كما رأينا في عصرنا الحديث على يد محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله ، تصبح الأكثر تفوقاً على العصبية في المستوى الأول، فهي الأقدر على جمع القلوب، وتأليفها {لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم} ، وهكذا كما يقول ابن خلدون: فإذا كان فيهم النبي، أو الولي، الذي يبعثهم على القيام بأمر الله، ويذهب عنهم مذمومات الأخلاق، ويأخذهم بمحمودها، ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق، ثم اجتماعهم، حصل لهم التغلب، والملك، بل يسرع ابن خلدون في عبور هذه المرحلة البدوية إلى مرحلة العصبية الدينية الجامعة، فيرى أن وحدة الدين تزيد العصبية بالنسب قوةً، وتُصبح قادرة على إحداث انقلاب في الأوضاع، يتجلى في تحول هؤلاء الرعاة الجفاة الموغلين في الفيافي والقفار، إلى بناة حضارة، ومشيدي عمران ، ومؤسسي ممــالك ، ودول.

          بل إن ابن خلدون يكاد ينفصل عن عصبية النسب، والدم، إلا في مستواه البدوي، حين يقرر أنه ما من دولة كبيرة إلا وأصلها الدين (إما بالنبوة أو دعوة حق)، فالدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية، بسبب أن الصبغة الدينية، تذهب بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية، وتفرد الوجهة إلى الحق، فإذا حصل لهم الاستبصار في أمرهم، لم يقف شيء لهم، لأن الوجهة واحدة، والمطلوب متساوٍ عندهم، وهم مستميتون عليه، فالعلاقة بين العصبية والدين ، علاقة تآزر وتكامل، وبالدين وحده تتطور هذه العصبيةُ، التي تشكل -مؤقتاً ومرحلياً- بوتقة التحام، وانصهار، إلى مشروع حضاري تذوب فيه العصبية، وترتفع فيه الأخوة الإسلامية، التي تجعل (سلمان منا أهل البيت)، (وأبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا)، أي بلال الحبشي، رضي الله عنهم.

            وهكذا نجد أن صلة الإسلام بالعصبية في الفكر الخلدوني، إنما هي صلة الروح بالمادة، فالدين هو الذي يجعل من هذه (الكائنات القومية)، كائنات قابلة للحضارة، والفعالية، والإبداع، والخروج من مستوى التحديات المناخية، والجغرافية، والعدوانية القبلية، إلى مستوى المشروع العالمي الروحي، والعقلي، والخلقي، والمادي، والذي يقدم حضارة منفتحة لائقة بإنسانية الإنسان

          لقد كتب العلامة ابن خلدون سبعة فصول، تُقدّم عناوينُها أسلوباً واضحاً، بل يراها بعضهم تُشكل منظوراً متطوراً، استفزازياً أوعدوانياً، ضد العرب، وفي الفصول السبعة، ترد العناوين على النحو التالي:

          - فصل في أن العرب لا يتغلبون إلا على البسائط.

          - فصل في أن العرب إذا تغلبوا على أوطانٍ، أسرع عليها الخراب.

          - فصـل في أن العـــرب لا يحصــــل لهم الملـــك إلا بصبغة دينيــة، من نبــوة أو ولاية، أو أثر عظيم من الدين على الجملة.

          - فصل في أن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك.

          - فصل في أن العرب أبعد الناس عن الصنائع.

          - فصــل في أن المـباني التي كـانت تختطــها العــرب يسرع إليها الخراب إلا في الأقل.

          - فصل في أن حملة العلم في الإسلام، أكثرهم العجم.

             وبدهي أن يكون هؤلاء الناس، أبعد الأمم عن الصنائع والعلوم العقلية، فذلك نتيجة منطقية لقوم يرفضون أن يحترموا طبيعـتـهم الفطرية، ويريد لهم بعضهم أن يمشوا في التاريخ من غير الإسلام.

            فالدكتور عبد الواحد وافي، رحمه الله، في بداية عرضه للقضية ،وقبل القيام بعملية التحليل يصدر النتيجة المريحة قائلا: (والحقيقة أن ابن خلدون لا يقصد من كلمة (العرب) في مثل هذه الفصول، الشعب العربي، وإنما يستخدم هذه الكلمة بمعنى الأعراب، أو سكان البادية، الذين يعيشون خارج المدن، ويشتغلون بمهمة الرعي).

          ولم ينكر ابن خلدون سُموّ العرب وعظمتهم حين يرتبطون بالإسلام، ارتباط عقيدة، وإخلاص، ودعوة، وليس ارتباط مصلحة سياسية أو اجتماعية...وابن خلدون يتحدث عن العرب في هذه المرحلة... مرحلة ذوبانهم في الإسلام، وتبدل طباعهم بالصبغة الدينية فيقول:( وإنما يصيرون إليها -أي إلى سياسة الملك- بعد انقلاب طباعهم وتبدلها بصبغة دينية، تمحو ذلك منهم، وتجعل الوازع لهم من أنفسهم، وتحملهم على دفاع الناس بعضهم عن بعض ـ )

            وهكذا كان ابن خلدون واضحاً كل الوضوح، في ربطه العرب والعروبة بالإسلام، صعوداً وهبوطاً، فهم بالصبغة الإسلامية أفضل الناس، وهم بدون الإسلام أحط الناس، وأذلهم، وأقلهم عقلاً، وخلقاً ، ورشدًا. فالعرب حين يُصبَغون بالصبغة الإسلامية، يقدّمون النماذج الملائكية والإنسانية، قلبًا، وعقلاً، وضميرًا، وأخلاقًا ... وحين يفقدون هذه الصبغة، يفقدون ـ وبطريقة مباشرة ـ مؤهلاتهم للحياة، فينحدرون إلى مستوى عميق في التشرذم، والتخريب لغيرهم إن استطاعوا ، ولأنفسهم بالدرجة الأولى، ويفقدون ـ بطريقة فذّة فريدة (!!) - الرؤية الصحيحة للأشياء، ولأبجديات البقاء، وربما يتلهون بتدمير أنفسهم ، وقبول مخططات أعدائهم ـ بسذاجة نادرة، تعكس شللاً عقليًا مريعًاـ ويتشرذمون تشرذمًا لا حدود له ، بحيث يعجب الناظر للبون الشاسع بين حالي هؤلاء القوم .. حالهم حين يصبغهم الدين .. وحالهم حين يفقدون هذه الصبغة !!

          وأما عندما يقبلون صبغة الإسلام، فإنهم يصبحون ـ كما كانوا بحق وكما يمكن أن يكونوا في مستقبل الأيام بإذن الله ـ (خير أمة أخرجت للناس) ..

          • سابعا: ملامح النظرية العمرانية الخلدونية يدعوننا ابن خلدون إلى النظر إلى العمران في شموليته لنستقرأ فيه القانون أو القوانين الأبدية في تمييز الحق من الباطل ، لقد حاول ابن خلدون استنباط تلك القوانين أو العوارض الذاتية وصياغة النظرية حول إشكالية العمران

            سابعا: ملامح النظرية العمرانية الخلدونية

             

               يدعوننا ابن خلدون إلى النظر إلى العمران في شموليته لنستقرأ فيه القانون أو القوانين الأبدية في تمييز الحق من الباطل ، لقد حاول ابن خلدون استنباط تلك القوانين أو العوارض الذاتية وصياغة النظرية حول إشكالية العمران والدولة وتطورهما ودورتهما التاريخية في الماضي التاريخي والحاضر الواقع والمستقبل المنتظر وفي ذلك إيجاد للتوازن المطلوب بين الزمان والمكان للمجتمع الإنساني عامة والمجتمع العربي الإسلامي خاصة ..

            و العمران عند ابن خلدون له ثلاثة أبعاد رئيسية هي :

            الانسان : هو محور الوجود وقيام العلاقات الحياتية وإطاره المجتمع .

            المكان :  هو محور العمل وضمان بقاء الوجود والحياة وإطاره الدولة .

            الزمان :  هو محور التغيير .. والإستمرارية في الحياة أو الفناء وإطاره العلاقة التبادلية بين المجتمع والدولة .

            ومن خلال قراءة تحليلية للتجربة الحضارية حدد ابن خلدون ثلاثة عوامل فاعلة في عمران المجتمعات عموما والمجتمع العربي بصفة خاصة وهي :

            العامل الأيديولوجي : وركيزته الأساسية في المجتمع العربي هي الدين الذي يلعب دورا محوريا في عمران المجتمعات الإسلامية إلا أن فاعلية هذا الدور مشروطة لدى ابن خلدون بعوامل اخرى على رأسها :

            العامل الاجتماعي: ويتمثل في " العصبية" فهي آلية المجتمع في تأسيس الدولة ونشوئها وسقوطها ، فبقدر قوة العصبية تقوم الدولة وتتطور وبقدر انحلال العصبية في الأجيال التالية المترفة تسقط أو تنحل .

            العامل الاقتصادي : فالحاجات الإنسانية تحتل مكانة بارزة في تفسير نشأة العمران وتطوره فهي التي تدفع الأفراد الى تأسيس الجماعات التي تضمن لهم توفير تلك الحاجات .

            وتتفاعل تلك العوامل فيما بينها حسب قوة كل منهما وهيمنته على غيره من العوامل لترسم شكل العمران الإنساني وتحدد طبائعه بل وتقرر فترات تألقه وتحدد توقيت انهياره ..

             ويتمثل العمران دائما عند ابن خلدون في محوران متوازيان لاغنى لاحدهما عن الآخر بل لا وجود لأيهما دون الآخر هما : الدولة و المدينة .

             

            1 ـ الدولة :

            " الدولة والملك للعمران بمثابة الصورة للمادة ، وهو الشكل الحافظ بنوعه لوجودها ، وقد تقرر في علوم الحكمة انه لا يمكن إنفكاك أحدهما عن الآخر ، فالدولة دون العمران لا تتصور ، والعمران دون الدولة والملك متعذر ، لما في طباع البشر من العدوان الداعي الى الوازع " يرى ابن خلدون أن كلية العمران تتجسد في الدولة وعلاقتها بالمجتمع ، فكما أن كل شيء في الوجود حسب المنطق القديم مادة وصورة فكذلك العمران : "مادته الإجتماع وصورته الدولة ". وحجر الزاوية في هذه الإشكالية عند ابن خلدون هو ذلك التوازن الخفي بين الدولة والمجتمع أو بين الراعي والرعية ، هذا التوازن الذي يضمن الإستمرارية الحضارية المتطورة للمجتمع والدولة  والعمران . هذا التوازن الذي حمله المشروع الحضاري للأمة الإسلامية منذ إنطلاقتها الأولى على يد سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم وحملها المسلمون الأوائل فاتحين الامصار مجاهدين ومجتهدين في تنظيم أمورهم ومؤسساتهم الدنيوية ولا سيما المدينية .

            2 ـ المدينة :

            وتقوم المدينة عند ابن خلدون باعتبارها " غاية العمران " التي هي نفسها " غاية الملك " ومتى وصل العمران إلى غايته كان ذلك إيذانا بفساده وخرابه .

            وإذا كانت نشأة المدن هي حالة من حالات تطور العمران البدوي إلا أن هذا التطور يرتبط بصورة أساسية لدى ابن خلدون بالدولة ..أي بالمؤسسة الحاكمة  أو كما يسميه ابن خلدون" كرسي الملك" فوجوده هو العامل الأكثر فعالية في تطور أي مدينة " إن الدول أقدم من المدن والأمصار ، وإنما توجد ثانية عن الملك " فهو يربط بين قيام الدولة وتطورها وما يطرأ على الخريطة العمرانية من ازدهار لحركة التمدين والنمو ، كما يربط ابن خلدون في المقابل بين اضطراب أحوال الدولة في أواخر أيامها وما تتعرض له المدن من تدهور وخراب وذلك لما يحدث في مثل هذه الفترات من أحداث ترتبط بطبيعة هذه المرحلة من حياة الدول .

            إن التجربة الواقعية التي عاصرها ابن خلدون لزمن فقدت فيه الأمة الإسلامية للتوازن بين قوى الدولة والمجتمع وانحلت فيه أواصر العصبية التي طالما ربطت بين عناصر تلك الأمة ونتج عن ذلك كله الانهيار الأكيد لتلك الحضارة العريقة بالإضافة إلى قدرته على تحليل الأمور ورؤيتها بطرق فلسفية تبحث ما وراء الظواهر لتستنتج القواعد العامة التي تحكم سريان الأمور هي التي أصّلت لأن تكون لدى ابن خلدون نظرياته الخاصة المتعلقة بالعمران والحضارة الإنسانية وأن تكون تلك النظريات أقرب ما تكون للواقع .

            وخاصة أن مرحلة التحول التي عاشها فرضت عليه الكثير من التساؤلات التي جعلها محورا لفكره وعاش باحثا ومحاولا أن يوضح ويفهم لماذا انتقل الملك من العرب؟ وما هي الأشكال الجديدة للسلطة ؟ وما هي الدورة الحضارية الحاضرة ؟ ولماذا توشك ان تنتهي ؟

            • ثامنا: الدورة الحضارية

              " إن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر ، وإنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة ، وانتقال من حال إلى حال ، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول " إن مرحلة التحول في تاريخ الإنسانية التي عاشها ابن خلدون أملت عليه احد أهم أهداف دراسة العمران الإنساني ألا وهو فهم الكيفية التي تسير بها تلك التغيرات والتحولات والعوامل المؤثرة فيها .. فوصل من دراسة نشأة الدول وانهيارها إلى ما نعرفه بإسم " الدورة الحضارية " ، وجاءت رؤيته للدورة الحضارية متلخصة في أن عمران العالم يسير في دورات تاريخية ، هذه الدورات تختلف إحداها عن الأخرى بطريقة غير واضحة بعض الشيء عن طريق التبدل في العصور ومرور الأيام التي تتغير خلالها الأحوال في الشعوب والدول القبائل . ويقيم ابن خلدون ثلاثة أسس على أساسها يتحرك التاريخ :

              الأساس الأول:  يرى أن سقوط دولة من الدول ليس كافيا لختم فترة تاريخية أو دورة تاريخية والبدء بدورة تاريخية أخرى .

              الأساس الثاني : لابد أن تحدث عصبية في أمة لم تكن مهيأة للسلطة من قبل ، والعصبية تكون بإتحاد رأي هذه الأمة واجتماع شملها واستلامها السلطة وعند هذا فقط تبدأ دورة تاريخية جديدة .

              وعندما تتحد الأمة في ظل العصبية الجديدة وتقوم الدولة الواحدة يكون ذلك مصحوبا عادة إما بحدوث ملة جديدة أو بإنتهاء حضارة أو إعتمار ماض ، وبهذا يتحقق الاساس الثالث لنشأة دورة تاريخية جديدة على هذه الأسس الثلاثة .

              • تاسعا: منهجية ابن خلدون وآرائه التاريخية

                لابن خلدون آراء ونظريات متعددة في التاريخ يمكن تلخيصها فيما يلي:

                أ/  النظرية الخلدونية في فلسفة التاريخ أو ماهيته:

                1 ـ  اعتبر التاريخ من قبيل العلوم الفلسفية،حيث قسم العلوم إلى نوعين. 

                ü      نقلية:  وهي التي تعتمد على السند والخبر 

                ü     فلسفية: وتستند إلى الاستنباط الفكري الإنساني.


                1. 2.  دعا إلى فلسفة وضعية واقعية للتاريخ مستمدة من تأمل البيئة وظروفها، وإجالة العقل في مظاهرها وملابساتها فقد ابتعد عن التخبط فيما وراء حدود العقل.
                  3.  صاغ فلسفة للتاريخ تمثل بما لا يدع أي مجال للشك منهجه البحثي العقلاني المتفرد به بحسب مقاييس عصره،حيث عرف التاريخ بأنه: " خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يتعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال: مثل التوحش، والتأنس، والعصبيات، وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول، ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش، والعلم والصنائع، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعة الأحوال"
                  4.  يرى أن التاريخ ليس مجرد سرد لأخبار الماضي، وإنما هو علم قائم بذاته حيث يقوم على ثلاثة أركان هي: أ- النظر ب- التحقيق ج- التعليل للوقائع وكيفياتها.
                  5.  ليست مهمة المؤرخ الإخبار عن الأيام والدول والحروب والجيوش بل دراسة ما يعرض للاجتماع الإنساني من الأحوال والأطوار.
                  6.  كانت نظرته للآفاق المستقبلية للتاريخ تشير إلى أن العالم يسير بخطوات ديناميكية سريعة نحو التطور الاستمراري، وهكذا نجد بأن توقعاته كانت تؤكد بأن كل شيء تقريباً قابل للترقي والتقدم . وعليه فقد امتازت شخصيته وآراءه بروح التجديد في علم التاريخ.



                ب/ النظرية الخلدونية في أخطاء المؤرخين:


                1. 1. لاحظ ابن خلدون أن كثيرا من المؤرخين لا يتجاوزون في كتابتهم التاريخية النقل المباشر عن سابقيهم ، وكأن التاريخ حكاية عن السلف ،مع إن التاريخ في جوهره فلسفة عميقة لقوانين الاجتماع ، وبهذا النهج عارض من سبقه من المؤرخين الذين جمعوا الروايات دون نظام منهجي خاص يفرق فيه المؤرخ بين الأخبار الحقيقية والأسطورية.
                  2.  كان أغلب المؤرخين يحصرون عملهم في حشد الروايات وتوثيق السند ، دون القيام بنقد الأخبار على أساس طبائع العمران، " ً. 
                  3.  إن حركة التاريخ عند ابن خلدون هي حركة انتقال مستمرة من البداوة إلي الحضارة على شكل دورة وهذا الانتقال يتم عبر الدولة والتي تنشأ على أنقاض دولة سابقة لها...الخ.

                  4.  التاريخ في نظر ابن خلدون" فن عزيز المذهب، جم الفوائد، شريف الغاية".ورأى أن حسن النظر والتثبت يقضيان الحق ويبعدان عن الزلل، ومع أنه آثر أعمال عدد من المؤرخين الذين سبقوه كالطبري والمسعودي لكنه ذكر الأخطاء التي يقع فيها المؤرخون والتي يمكن لأمثالهم الوقوع فيها في كل زمان ما لم يتنبهوا لها. ويرجع ابن خلدون أسباب الخطأ عند المؤرخين إلى:


                1  عدم الموضوعية:  بسبب" التشيعات للآراء والمذاهب": لأن التشيع أشبه بغطاء على عين البصيرة يحول بينها وبين التمحيص والنظر وهما المعول في تبيان الصدق من المزيف.
                2. عدم تحكيم العقل: " الثقة في الناقلين": فمن الضروري بمكان إن يعني المؤرخ وهو ينقل الروايات والأخبار أن يدقق فيما ينقله على إثباته أو اعتماده.


                3. الذهول عن المقاصد": كأن يفوت المؤرخ إدراك القصد بما عاين أو سمع فينقل الخبر على ظنه وتخمينه فيقع الكذب.


                4.توهم الصدق:  وهذا ناتج في رأي صاحب المقدمة عن الثقة بالناقلين.


                1. 5.  الجهل بتطبيق الأحوال على الواقع": بسبب ما يداخلها من التلبيس والتصّنع فبعض الأمور ظاهرها غير باطنها وجهل ذلك يؤدي إلى الوقوع بالخطأ .الناتج عن الجهل بطبائع الأشياء ولا سيما قوانين الطبيعة التي وضعها الله ولهذا قبلت عقولهم المستحيلات.
                  6   تقرب الناس لأصحاب التجلة والمراتب بالثناء والمدح، وتحسين الأحوال وإشاعة الذكر": بدوافع الرغبة والرهبة لاسيما وأن النفوس مولعة بحب الثناء والناس متطلعون إلى الدنيا وأسبابها من جاه و ثروة، وليسوا في أكثريتهم براغبين في الفضائل ولا متنافسين فيها.

                 7 الجهل بطبائع الأحوال في العمران ": وهي من أسباب مقتضيات الأخطاء، ويرجع ابن خلدون هذه العوامل إلى بواعث نفسية وخلقية تتعلق بشخصية الراوي وسلوكه.

                والجهل بطبائع الأشياء ولا سيما قوانين الحضارة ،وكيفية تدرج الأمور والحوادث، وفق قوانين محددة للتطور والسقوط.

                8  ولوع الناس بالغرائب وسهولة التجاوز على اللسان:  وعدم محاسبة النفس عن الخطأ، خاصة في الأخبار التي تتناول الأعداء.

                9 القياس والمحاكاة:  فيخرج الإنسان عن هدفه خاصة إذا امتزج بالغفلة وعدم الإتقان.

                10 عدم إدراكهم للأهداف الاجتماعية، والمعاشية، والتاريخية.

                11. عدم وجود معيار منهجي، تنقد به الوقائع والأخبار.

                 

                ج/   النظرية الخلدونية في المنهج التاريخي النقدي:

                  اهتم ابن خلدون بشكل رئيس بالمنهج النقدي التاريخي فبعد أن فرغ ابن خلدون من تفنيد الأغلاط التي يقع فيها المؤرخون قام بوضع الآتي: 


                1 ـ وضع قواعد في النقد التاريخي متناسقة متسمة بالصرامة والدقة في وضع القواعد والأصول.

                2 ـ  فنقد ابن خلدون للتاريخ يغلب عليه النزعة العقلية المنطقية.

                3  ـ أدرك بأن حقيقة التاريخ تتجسم في كونه خبراً عن الاجتماع الإنساني، وهذا يعني إمعان النظر في أعمال البشر وصنعهم، ومنشآت الإنسان وتحاوره وتعايشه وعلاقاته مع بني الإنسان.
                4 ـ منهجيته العلمية وعقليته الناقدة والواعية، حيث إنه يستقرئ الأحداث التاريخية، بطريقة عقلية علمية، فيحققها ويستبعد منها ما يتبين له اختلاقه أو تهافته الأمر الذي ضبطه في مقدمته وغفل عن جزء منه في متن كتابه العبر.

                5 ـ يرى أن ظاهر التاريخ يتساوى في فهمه كل الناس لأنه أخبار متداولة،أما في باطنه فهو نظر وتحقيق وتحليل وتعليل ولا يفطن له إلا المؤرخ النافذ.

                د/  النظرية الخلدونية التجديدية والحداثة في التاريخ

                1 ـ اتبع أسلوب التجديد والمتمثل في تنظيم مؤلفه وفق منهج جديد يختلف كثيرًا عن الكتابات التاريخية التي سبقته، فهو لم ينسج على منوالها مرتبًا الأحداث والوقائع وفق السنين على تباعد الأقطار والبلدان، وإنما اتخذ نظامًا جديدًا أكثر دقة، فقد قسم مصنفه إلى عدة كتب، وجعل كل كتاب في عدة فصول متصلة .

                2 ـ تميزت آراؤه بالوضوح والدقة في الترتيب والتبويب، والبراعة في التنسيق والتنظيم، والربط بين الأحداث. ولكن يؤخذ عليه أنه نقل روايات ضعيفة ليس لها سند موثوق به خصوصا في كتابه العبر.

                3ـ  تمكن ابن خلدون من استخدام المنهج الاستقرائي الاستنتاجي التحقيقي معتمدا فيه على الملاحظة، ثم الدخول في الموضوع، وبدون فكرة مبيتة، لذلك جاءت قوانينه أقوى أساساً، وأمتن بنياناً، وأقرب إلى وقائع الأمور. 

                4 ـ  سار ابن خلدون على منهج علمي سليم، وإن كان استقراؤه ناقصاً بعض الشيء، لأن كثيراً من القوانين والأفكار التي وصل إليها لا تطبق إلا على أمم عاصرها في فترة معينة.
                5 ـ اعتبر التاريخ فنا من فنون الأمم حيث قال" أما بعد فإن فن التاريخ من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال، وتشد إليها الركائب والرحال ، وتسمو إلى معرفته السوقة والأقيال ، ويتساوى في فهمه العلماء والجهال .

                6 ـ التاريخ عند ابن خلدون في ظاهره لا يزيد عن الأخبار والأيام والدول والسوابق من القرون الأولى ،وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق ، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق ، لذلك فهو منهج أصيل وعريق.

                7 ـ استخراج الحقائق الكبرى الكامنة والتوصل إلى الإدراك الحدسي لحقيقة الحداثة التي تعني الارتفاع من مجرد إدراك التغير في التاريخ إلى إدراك أهمية الجديد فيه.
                8 ـ الإبداع المنهجي الخلدوني في الشك والتمحيص: فقد ابن خلدون ورث ميراثا من الشك العقلي فقد كان تواقا إلى الكشف عن السبب في حدوث أي ظاهرة دون القناعة بمجرد وصفها أو الاكتفاء بالإشارة إليها.

                9 ـ التشخيص المادي فقد اعتمد على استقراء معظم أفكاره من الوقائع التاريخية والغوص في بواطنها.

                10 ـ استطاع التوصل إلى تحديد ثلاثة قوانين من شانها أن تجنب المؤرخ الوقوع في الخطأ وهي:

                قانون السببية:  ومفاده أن الوقائع الاجتماعية من قبيل الأحداث التاريخية، وهي خاضعة للحتمية التاريخية وليست بفعل الإرادة أو المصادفة.
                قانون التشابه:  بين الماضي والحاضر، ومرده وحدة الأصل والعقل البشري،إذ يرى وجود تشابه ترابطي بين الماضي والحاضر والمستقبل.
                قانون التباين:  فالغرض أن يدرك المؤرخ ما يطرأ على المجتمع بفعل العوامل المختلفة فيقول:" من الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال".

                11 ـ يرى أن من يريد البحث في التاريخ فلا بد عليه من معرفة الآتي:

                ـ  المعرفة بالسياسة للدولة لأنها كالمحور الذي يهيكل الحياة الاجتماعية وبالتالي تجسيد التاريخ.

                ـ الانطلاق من الحاضر لفهم الماضي، والغوص في الماضي لفهم الحاضر.

                ـ المعرفة التاريخية تتطلب: النقد الصارم فالمؤرخ يحتاج إلى موسوعة معرفية وعلوم متعددة تسمح له بالتنقل بحرية عبر الزمان والمكان بحثا عن الأسباب والعلل لفهم حركة التاريخ.

                 

                 


                هـ / النظرية الخلدونية في الدولة:

                1 ـ تناول تاريخ كل دولة على حدة بشكل متكامل، فالدولة كما يراها ابن خلدون بناء طبيعي اضطراري لا مناص من نشأتها.

                2 ـ اعتبر أن للدول أعمار افتراضية زمانية وهي الفتوة والقوة والشيخوخة.

                3  ـ أعطى ابن خلدون في كتابه لحوادث الدول عللا وأسبابا وهو ما يعرف بالتعاقب الدوري للتاريخ وهو يطمح أن يصبح أصلا يقتدي به من بعده من المؤرخين ، يقول :" لقد سلكت في تربيته وتبويبه مسلكا غريبا ، واخترعته من بين المناحي مذهبا عجيبا ، وطريقة مبتدعة ، وأسلوبا وشرحت فيه من أحوال العمران والتمدن ، وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية ، وما يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها ، ويعرفك كيف دخل أهل الدول من أبوابها ، حتى تنزع من التقليد يدك ، وتقف على أحوال ما قبلك من الأيام والأجيال وما بعدك" .


                و/  النظرية الخلدونية في العمران البشري:


                1.  ـ يرى ابن خلدون انه لابد من معرفة طبائع العمران لأنها تساعد المؤرخ في تمحيص الأخبار وان تغير الأحوال العمرانية هي مادة التغير التاريخي لأن لكل حادث من الحوادث طبيعته التي تخصه في ذاته.

                2.  ـ إن مفهومه للعمران يشمل جميع مقومات الاجتماع الإنساني ومظاهره.

                3.  ـ اهتدائه إلى فكرة التقدم من خلال نظريته عن الأدوار في تطور الدول وفي الانتقال من العمران البدوي إلى العمران الحضري وفي عوامل الانحطاط التي لا يفلت من تأثيرها أي عمران حضري. لان المجتمع كالكائن الحي يعيش ويتطور ويضمحل وفقا لقوانين محددة لأن الأحداث التاريخية تخضع لحتمية تاريخية ثابتة وليست عشوائية وفوضوية.

                ي/  النظرية الخلدونية في العصبية:

                يؤكد ابن خلدون مصدر العصبية بأنه بيولوجي وأن العصبية ذات مغزى سياسي اجتماعي لا غنى للفرد عنه، فالعصبية هي المحور والمحرك الديناميكي للمجتمع وبالتالي يتبلور الفكر الإنساني إلى تجسيد تاريخي في الزمان والمكان.

                 

                عاشرا: إبن خلدون رائد التفسير العلمي للتاريخ:

                لقد كانت النظرة التقليدية إلى التاريخ تهتم، غاية ما تهتم، بجمع الوقائع العسكرية، والتحولات السياسية، التي تتخذ صور المعـاهــدات ، أو التنازلات، أو ما إلى ذلك من أمور تتصل بطريق أو بآخر بالخط السياسي والعسكري .وقلما كان قارئ التاريخ يجد بين ثنايا الكتابات الموضوعية، أو الحولية البالغة حد المجلدات، سطورًا أو صفحات، تتناول ناحية فكرية أو اعتقادية، أو تحولاً اجتماعيًا أو اقتصاديًا، أو رؤية نفسية، أو نظرة شبه شاملة ـ فضلا عن النظرة الشاملة ـ ترصد سائر العوامل المحركة والمسهمة في صنع الحدث التاريخي.

                وقد يكون بإمكاننا في هذا البحث أن نقول : إن ذلك المنهج -بصفة عامة- قد سيطر على حركة التاريخ البشري، في سائر كتابات المؤرخـين باستثناء النظرات العارضة التي تناولناها آنفًا حتى ظهر ذلك العملاق العبقري المغربي الأندلسي المسلم، عبد الرحمن بن خلدون.

                إلا أننا -خضوعاً للموضوعية- نضطر إلى القول: بأن مؤرخنا المسلم العظيم، قد استطاع أن يضع فعلاً رؤية تنظيرية لتفسير التاريخ، بعوامل مختلفة، سماها طوراً (العصبية الدينية أو القبلية)، وسماها طورًا (البيئة)، (أي الأثر الجغرافي)، كما ألمح إلى العوامل البيولوجية والاقتصادية. 

                إلا أن المؤرخ الكبير لم يقدم لنا دراسة تاريخية تطبيقية، نستطيع أن نتكئ عليها لكي نقول : إنه قد فتح عصرًا جديدًا في نهج التأليف التاريخي، كما أنه من سوء حظ مؤرخنا الكبير، ومن سوء حظنا ـ كأمة ينتمي هذا المفكر العملاق إليها ـ أن اشعاعات ابن خلدون القوية، واجهت أمة نائمة، كانت تعيش فترة اضطراب حضاري، فلم تستطع إيقاعاته بالتالي أن تقوم بدورها في تحريك المجتمع الإسلامي الفوار بالاضطرابات والشرور، خلال القرون التي سبقت عصر اليقظة في أوروبا ... أي الثامن والتاسع والعاشر للهجرة (الرابع عشر، والخامس عشر، والسادس عشر للميلاد).

                وبين صخب الصراعات الصغيرة الطائفية، في المجتمع الإسلامي العريض، ضاعت إيقاعات ابن خلدون ... فلم تظهر إلا بعد أن اكتشف أصداءها أوروبيون اتصلوا بالعالم الإسلامي المتحضر. وهذا حق لا يمكن إنكاره، فإن ابن خلدون كان خميرة قوية، وإن لم نستطع نحن المسلمين الإفادة منها، فإن الأوربيين قد أفادوا منها أيّ إفادة..ويعتبر ابن خلدون من القلائل الذين ترجمت أعمالهم في وقت مبكر إلى كل لغات العالم الحية تقريبًا ، وقد كتب الأوروبيون حول مقدمته الشهيرة (وهي الجزء الأول من كتابه الكبير: ( العبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومن جاورهم من ذوي السلطان الأكبر) عشرات، بل مئات الدراسات، بحيث لا يجد المؤرخ المسلم أي حرج في أن يصرح بأن تأثير فكر ابن خلدون (بمقدمته في تفسير التاريخ وعلم العمران البشري) كان تأثيرًا مباشرًا وقويًا وحاسمًا في يقظة الحضارة الأوروبية، وتعتبر القائمة التي أوردها الدكتور (عبد الرحمن بدوي) حول الدراسات الأوروبية عن ابن خلدون -( في كتابه عنه )- من الأدلة الواضحة على عمق هذا التأثير ووضوحه. 

                وقد تيقظ الأوروبيون منذ بداية عصر النهضة على أصداء المقدمة، وقد بدأوا في النظر إلى التاريخ نظرة أقرب إلى الشمول والتكاملية، فلم يعد التاريخ مجرد حروب ومعاهدات، بل أصبح في رأي أكثرهم : (الأرض التي يجب أن تقف الفلسفة عليها، وهي تنسج سائر ألوان المعرفة في نسيج واحد، لينير طريق الحياة الإنسانية).

                 ويروج الأوروبيون أن (فولتير) هو الذي بدأ هذه النظرة الشاملة للتاريخ إذ أنه صاحب أول كتاب ذائع الصيت في تطبيق النظرة الجديدة للتاريخ، وهو كتاب: (رسالة في أخلاق الشعوب وروحها، ووقائع التاريخ الرئيسة منذ شارلمان وحتى لويس الثالث عشر).. لكن الحقيقة أن (فولتير) مسبوق بكثيرين، لعل من أهمهم (الراهب بوسيه)، الذي كان يرى أن التاريخ (دراما إلهية، مقدمته وكل حادثة فيه هي درس من السماء تعلمه للإنسان)، كما سبقه أيضًا المؤرخ المشهور (جيوفانو باتستافيكو) الذي كان يعترف بوجود العناية الإلهية (مثل الراهب بوسيه)، ولكنه في الوقت نفسه كان يفسِّر أحداث التاريخ تفسيرًا أرضيًا وبشريًا، خاضعًا لقوانين شبه كلية، سواء كانت مسيرة التاريخ في اتجاه صحيح أو اتجاه فاسد. 

                وقد توصل (فيكو) إلى تقسيم ثلاثي للتاريخ، على أساس أنه ثلاث مراحل: ( مرحلة الهمجية، ومرحلة البربرية، ومرحلة الحضارة)، وهو تقسيم يذكرنا بتقسيم (هيجل)، وتقسيم (أوجست كونت)، وإن كانت ثمة فروق كثيرة بينهم ، وعلى أية حال، فإن النظرة الأوروبية تعتبر (فولتير) بداية عصر جديد في النظرة إلى التاريخ، ووظيفته، وتفسيره; لدرجة أن (أناتول فرانس) يبالغ فيسمي الفترة الي ظهر فيها (فولتير): ( عصر فولتير) ،ويبالغ أكثر فيقسم تاريخ الفلسفة إلى عصور أربعة هي : عصر سقراط، وعصر هوراس، وعصر دابلين، وعصر فولتير.

                والحق أن ابن خلدون هو المفتاح الكبير، الواضح القسمات والمعالم، والمتكامل الرؤية والمنهج في قضية تفسير التاريخ ، بل إننا نستطيع أن نقول مطمئنين: إن كتابة التاريخ ينتظمها عصران: 

                 ـ عصر ما قبل ابن خلدون. 

                - وعصر ما بعد ابن خلدون. 

                ومهما وجدت نظرات متناثرة في تفسير التاريخ قبل ابن خلدون، أو وجدت كتابات سردية تقليدية بعد ابن خلدون، فإنه من الناحية الرسمية ـ على الأقل - يعتبر ابن خلدون مفرق طريق بين مرحلتين ، وليس ذلك في الفكر التاريخي الإسلامي فحسب ، بل في الفكر التاريخي الإنساني كله. 

                وليست هذه المكانة التي نعطيها لابن خلدون، رأياً عنصريًا، أو عاطفياً، بل هي حقيقة اعترف بها كبار فلاسفة التاريخ الأوروبين، وسجلوها في شهادات صريحة واضحة، فإن أكبر مفسر أوروبي للتاريخ في العصر الحديث، وهو الأستاذ (أرنولد توينبي)، يتحدث عن ابن خلدون في مواضع كثيرة من كتابه (دراسة للتاريخ)، ويفرد له في المجلد الثالث، سبع صفحات (321 - 327)، وفي المجلد العاشر أربع صفحات (84 - 87) .. وهو يقرر أن ابن خلدون (قد تصور في مقدمته، ووضع فلسفة للتاريخ، هي بلا مراء أعظم عمل من نوعه ابتدعه عقل في أي مكان أو زمان) (المجلد الثالث ص 322)، وهو يقول عن ابن خلدون في الفقرة نفسها : ( إنه لم يستلهم أحدًا من السابقين ، ولا يدانيه أحد من معاصريه، بل لم يثر قبس الإلهام لدى تابعيه، مع أنه في مقدمته للتاريخ العالمي قد تصور وصاغ فلسفة للتاريخ تعدّ بلا شك أعظم عمل من نوعه).

                وأما المؤرخ العالمي (روبرت فلنت)، فيقول عن ابن خلدون في كتابه الضخم (تاريخ فلسفة التاريخ):  إنه لا العالم الكلاسيكي ولا المسيحي الوسيط قد أنجب مثيلاً له في فلسفة التاريخ ، هناك من يتفوقون عليه كمؤرخ، حتى بين المؤلفين العرب، أما كباحث نظري في التاريخ، فليس له مثيل في أي عصر أو قطر، حتى ظهر (فيكو) بعده بأكــثر من ثلاثــة قـــرون ، لــم يــكن ( أفـــلاطـــون ) أو (أرسطو) أو (سان أو غسطين) أندادًا له، ولايستحق غيرهم أن يذكر إلى جانبه.. إنه يثير الإعجاب بأصالته وفطنته، بعمق وشمول، لقد كان فريداً ووحيدا ًبين معاصريه في فلسفة التاريخ، كما كان (دانتي) في الشعر، و(روجر بيكون) في العلم، لقد جمع مؤرخو العرب المادة التاريخية ، ولكنه وحده الذي استخدمها). ويقول عنه جورج سارتون : (لم يكن فحسب أعظم مؤرخي العصور الوسطى، شامخًا كعملاق بين قبيلة من الأقزام، بل كان من أوائل فلاسفة التاريخ سابقًا : ميكافيلي، وبودان، وفيكو، وكونت، وكورنو)

                وبما أن ابن خلدون أسبقهم زماناً، وأبعدهم مكانة، وكلهم كانوا عالة عليه; فمن البدهي أن نقول: إنّه الإمام لمدرسة فلسفة التاريخ، والفيصل بين مرحلتين حاسمتين في منهج البحث التاريخي .. إنه بداية عصر جديد في الكتابة التاريخية، نستطيع أن نسميه بلا تحفظ: (عصر ابن خلدون). 

                ولم يكن ابن خلدون مجرد رائد لتفسير التاريخ، مع أسبقيته الزمانية لكل من ذكرناهم.. فمع كل ما ذكرناه من ملاحظات عن الفكر الخلدوني بين التنظير والتطبيق، هناك جانب آخر يؤكد أصالة ابن خلدون وريادته في مجال التنظير العلمي للتاريخ.. 

                فمن البدهي أن تفسير التاريخ أو فلسفته، إنما تقوم على أساس أن هناك قوانين في الحركة التاريخية يمكن اكتشافها، والإفادة منها في معرفة مراحل قيام الحضارات والدول، وأسباب سقوطهما.

                 وبما أن مصطلح (قانون) يعني الثبات والاضطراد والقبول المستمر للتكرار، عندما تتحق الشروط، إيجابًا أوسلبًا ، على النحو المعروف في العلوم الفيزيائية والرياضية والكيميائية، فإن القول بخضوع التاريخ لقوانين اجتماعية تشبه قوانين العلوم الطبيعية، يؤدي إلى القول: بأن التاريخ (علم) وبأنه لاينفصل في ذلك كثيرًا عن العلوم الطبيعية، وبأنه بعيد عن مستوى (الفن) الخاضع للذاتية ... وبالتالي فإن إطلاق مصطلح (فن التاريخ) عليه ـ عند بعضهم ـ يكون من باب التجوز، أو يكون إطلاقًا خاطئاً، نشأ من سيطرة المناهج التقليدية في دراسة التاريخ

                وجدير بالذكر أن الحديث عن فلسفة التاريخ أو تفسيره، لابد أن يتصل اتصالاً وثيقًا بقضية علمية التاريخ، فهما -في الحقيقة- وجهان لموضوع واحد. 

                وعندما نصل إلى الحديث عن ابن خلدون، ومدى علمية التاريخ عنده، اعتمادًا على أنه أحد الفلاسفة المسلمين الكبار، الذي أبرز بعض قوانين الحركة التاريخية، مثل قوانين: السبب والمسبب، التشابه والتباين، والاستحالة والإمكان، والجغرافية والبيئة، وصلتهما بتكييف الحضارة ... والعصبية وصلتها بكيان الدولة، سقوطاً وصعودًا ... عندما نصل إلى ابن خلدون، نجده أقرب ما يكون إلى القول بعلمية الحركة التاريخية، وأنه بالإمكان استخلاص قوانينها الاجتماعية المضطردة .. وهذا أمر يتساوى مع بنائه الفكري، بل هو جوهر تجديده، وأبرز ما انتهى إليه من إبداع، وما استحق من أجله الريادة والفضل.

                لقد كان ابن خلدون مدركًا لثلاث قواعد إسلامية في تفسير التاريخ، عجز كثير من مفسري التاريخ المعاصرين عن إدراكها: 


                أولاهــا: أن التاريخ علم، لايقل عن بقية العلوم الكونية، حتى وإن عجزنا عن اكتشاف كثير من مفاتيح القوانين التاريخية، نظرًا لأن الظواهر الاجتماعية أعقد من الظواهر الطبيعية. 
                وثانيهما: أن هذه القوانين، التي يمكن أن تخضع للسببية بطريقة حاسمة، لا تتناقص مع فعل الله وإرادته، وقدرته في التاريخ; إذْ أن هذه الأسباب المادية هي وسائل الله، وهي جنوده، وتعليماته الصارمة، بل هي الجبلة التي فطر الله الأشياء عليها، وهداها لتحقيق مشيئته ـ التي هي وظيفتها ـ من خلالها .. 
                وتأتي المعجزات لتكشف بين الحين والحين عن يد الله الخفية القادرة، التي تبطل الوسائل، وتغير التعليمات، في حالات استثنائية ولظروف طارئة!! 
                بل إن إرداة الله تعطي الوسائل والأسباب عنصر الفاعلية والإيجابية والبقاء، وتزودها بإمكانيات رصد المستقبل -في حدود- واكتشاف بعض الآفاق الضرورية لنموّ الحياة ورقيها ، تحقيقًا لقوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق )(فصلت : 53)، واكتشاف الأسباب وتسخيرها، هي هذه الآيات!!! 
                ثالثهما : أن مايشاع عن وجود فوارق كثيرة بين مستوى الثبات والاضطراد في العلوم الطبيعية، وبين قوانين الحركة التاريخية، هو نوع من المبالغة.. فالحق أنّ الفوارق بينهما، هي في النسبة لا في النوع .. فهذه العلوم (العلمية)، ذات (القوانين العلمية الثابتة)، تتعرض كذلك لتحولات نسبية، وتغيرات، بل وتناقضات لا تقل عن النسبية والتحول في العلوم الإنسانية.

                لقد استعمل ابن خلدون كلمة (فن) كثيرًا وهو يتحدث عن علم التاريخ .. وهذا الاستعمال الذي جاء في مثل قوله: ( إن فن التاريخ من الفنون التي تتداولها الأمم ) ، أو قوله : ( اعـلم أن فــن التــاريخ ... ) ، أو قوله: (صار فن التاريخ واهيًا)، هذا الاستعمال لايعني إطلاقًا الميل إلى أن التاريخ (فن)، بالمعنى المعروف والمعاصر لمصطلح (فن)، وهو أنه الإبداع القائم على الاتساق، والذاتية، والحرية ، في نسيج واحد.. 

                فالشائع لدى أسلافنا ـ رحمهم الله ـ أن كلمة (فن)، تخضع لكثير من القوانين والاضطراد، وهي قد تطلق عندهم على علوم الطبيعة والكيمياء والجغرافيا ... وبدليل آخر هو أن ابن خلدون أطلق كذلك ـ كلمة علم التاريخ، في عملية مزج بين المصطلحين، تخضع لرؤية تراثية... فقال مثلا: (التاريخ علم بكيفيات الوقائع وأسبابها ، عميق)، وقال: (المقدمة في فضل علم التاريخ)، وهكذا .


                ويرى أحد المفكرين المعاصرين، أنه من السهل ملاحظة التقارب بين رأي ابن خلدون ورأي العلماء المعاصرين، فالعناصر الأساس في تعاريفه هي: الإنسان، والماضي ، (والتقلب)، وهي مطابقة للعناصر التي وجدناها في تعاريفهم، بل يزيد على ذلك وجود التفلسف والتعليل واكتشاف أسباب الحوادث. 

                لكن هذا المفكر المعاصر، يرى ـ مع ذلك ـ أن ابن خلدون لا يرى علمية فلسفة التاريخ (في الرؤية الخلدونية)، لأن هذه القوانين المزعومة ليست مطلقة، والشاذ منها قدلايقل عن القياس، والمهم في ذلك أن المؤرخ -يعني ابن خلدون- قد أبطل سلطانها بنفسه ، لأنه آمن بالمعجزات، وقال بالسحر والطلسمات. 

                  ثم يقرر الباحث في حسم، أن ابن خلدون عرّف التاريخ تعريفًا جامعًا يقبله حتى علماء العصر الحاضر، وأنه وضع لدرس التاريخ أهدافًا مشابهة لأهدافهم، ولكنه لم يجعل من التاريخ علمًا، بالمعنى المفهوم في الوقت الحاضر، رغمًا عن ابتكاراته في فهم العمران والحضارة، فهماً لم يسبقه إليه علماء المسلمين. 

                والحق أن (العلمية) عند ابن خلدون ـ كما أوضحنا ـ لاتعني الاطراد الحتمي، فهذا الاطراد الحتمي غير موجود حتى في العلوم الطبيعية ... إن يد الله تسوق الطبيعة الكونية والاجتماع البشري لمشيئة واحدة ... والفرق يكمن في قدرتنا على الفهم والاستنباط، وليس في فعل الله .. وحتى مساحة الحرية الممنوحة للإنسان، تخضع لقوانين حضارية وأخلاقية قد لا نبصر آثارها إلا بعد أمد من الزمان، نعجز معه عن الربط بين الأسباب والنتائج ... فضلا عن أن القوانين كلها ـ كما ذكرنا ـ إنْ في الطبيعة أو في الإنسان، ليست صارمة بالمعنى المادي الذي يريد أن يلغي المقنِّن والمسِّبب، اعتمادًا على اضطراد القانون والسبب!!. 

                ويشير باحث معاصر لهذه الحقيقة بعبارة واضحة، فيرى أننا على مايبدو أمام صياغة جديدة للعلم، يبتعد فيها عن الحتمية، ويسلم بمفاهيم العشوائية، وعدم الثبات، واللاخطية، وبأن الطبيعة تتضمن مظاهر جوهرية لعشوائية الأحداث والانعكاسية، وبأن القوانين الحتمية التي صيغت على امتداد القرون الأخيرة، لاتنطبق إلا على حالات قليلة جداًً مما يحدث في الطبيعة ... إن عمليات طبيعية مألوفة وشائعة، مثل اضطراب سريان الموانع، والانتشار، والتفاعلات الكيميائية، عمليات يستحيل وصفها بالقوانين الحتمية، ولا تكرار لحدوثها بنفس الشكل. 

                إن النتيجة المنطقية لهذا، هي انعدام إمكانية التنبؤ بما سيحدث!! 

                إن هذا التحول الجذري، قد أدّى إلى تقارب في المنهج بين العلوم الطبيعية والاجتماعية.. وإذا ما كان هذا التقارب قد بدأ أيضًا بتحرك العاملين في العلوم الاجتماعية نحو تطبيق كثير من أساليب البحث في العلوم الطبيعية، مثل التحليل الإحصائي والنمذجة الرياضية، فإن الصياغة الجديدة للعلم الطبيعي، والتي تتبلور الآن أمام أعيننا ، قد أظهرت أن النظم المعقدة، التي تدرسها العلوم الاجتماعية، ليست أكثر تعقيداً من النظم الطبيعية. 

                إن الصياغة الجديدة للعلوم الطبيعية، تسمح الآن -مثل العلوم الاجتماعية - مع وجود المعلومات غير الكاملة، وأوضاع عدم الاستقرار في القيم (!!) بالتسليم بإمكانية صعود أشكال متباينة للمستقبل، وتدعو إلى اهتمام أكثر تركيزاً على منظومة القيم في النظام الاجتماعي، والبعد عن المحاولة اليائسة لصياغة علوم اجتماعية غير محملة بالقيم. 
                والحقيقة أن القصور في استقصاء كل حضارات التاريخ ووقائعه الجزئية، لا يمثل خللاً رئيساً في العملية التفسيرية للتاريخ، وإني لأستطيع أن أزعم أن العلم الطبيعي، ليس أفضل كثيراً من العلوم الإنسانية في هذا السبيل. 

                فالقوانين المستنبطة في الطبيعة، لا تخضع لمنهج الاستقراء التام، وإلا لفقدت قيمتها -من جانب- وأيضاً فإن ذلك غير ممكن، فضلاً عن أن الاستقراء التام، لا يخدم مستقبل العلم في شيء ذي بال، وقد تعرضت المادة (التي يهلل بعضهم لثباتها) لكثير من التشكيك. 

                فعلم الطبيعة، الذي يعتبر في رأي كثير من العلماء، أوثق العلوم منهجاً، ونتائــج بحــث ، لم تســتقر أســسه أو قواعــده الأســاس ، فضلاً عن نتائجه حتى الآن. 
                فبعد هذه الرحلة الطويلة مع هذا العلم، يزعم العالم الرياضي الكبير (برتراندرسل)، أنه علم يقترب فقط من الكمال، وقوله هذا مبالغ فيه. 
                وقد رد عليه كثير من العلماء، مثل (هنري بوانكاريه)، الذي يرى أن علم الطبيعة الحديث في حالة من الفوضى، فهو يعيد بناء جميع أسسه، وفي أثناء ذلك لا يكاد يعرف هذا العلم أين يقف، وقد تغيرت أفكاره الأساس عن حقيقة الطبيعة، تغيراً تاماً في العشرين سنة الأخيرة، فيما يختص بالمادة والحركة، كلتيهما...ولم تعد تسمح أعمال كوري ورذل فورد، وسودي، وآينشتاين، ومينكوفسكي، لأي تصور قديم عن الطبيعة (النيوتونية) بالبقاء (نسبةً إلى نيوتن) أي أن عالم نيوتن، ونظرية النظام الوحيد للعالم ـ قد أصبحت مجرد أثر تاريخي متحفي ـ ولم تعد مسألة التثاقل Gravitatopm مسألة جاذبية، بل تمزقت قوانين الحركة في كل جهة بنظرية النسبية. 
                و حتى في منهج البحث الذي وصف طويلاً بأنه المنهج العلمي، فإنه قد تغير، ولم يعد يبحث في المادة، أي المحسوس، والحقائق الواقعية، بل أصبح مجموعة من القوانين المستوردة المجردة. 

                وقد أعجبني عندما كنت أقرأ كتاب (النظرة العلمية) لبرتراندرسل، عنواناً لفصل وضعه المؤلف تحت اسم: (الميتا فيزيقا العلمية )، وقد تساءلت : هل ارتفع العلم إلى (الميتا فيزيقا) ? أم أنه هبط إلى منهجها ـ كما يقولون ـ بعد هذا الغرور الذي سيطر على الماديّين ؟!!

                وفي هذا الفصل (الميتا فيزيقا العلمية )، يسجل (راسل)، أسفه لأن رجل الشارع ما كاد يؤمن بالعلم، حتى بدأ رجل المعمل يفقد إيمانه به; بحيث إن الفلسفة الجديدة لعلم الطبيعة، فلسفة متواضعة متلعثمة، بينما الفلسفة السابقة متكبرة متغطرسة. 

                لقد كان مفكرنا العظيم عبد الرحمن بن خلدون، مدركًا، بل مسلحًا برؤية إسلامية واضحة في تفسير التاريخ، ولم يجد أي تناقض بين الأسباب وإرادة الله، وبين الأسباب ونسبية الاضطراد، وبين العلم والفن، وبين القوانين السببية والمعجزات الإلهية!! 

                بل إنه كان أسبق في معرفة أن الفواصل بين القوانين الطبيعية والاجتماعية ليست كبيرة ... لأنها تتحرك بإرادة واحدة، وتخضع لمشيئة واحدة ، وتهدف لغايات واحدة .. 
                وبالإضافة إلى كل ذلك ، فإن ابن خلدون يحتل مكانته في ريادة علم(تفسير التاريخ)، على أساس موضوعي بحت، يتمثل في أن مقدمة ابن خلدون ، وما تلاها من أجزاء كتابه (العبر)، يعدَّان بحق المحاولة الأولى لإعطاء تاريخ عالمي معلل، كما يعدَّان النظرية المتكاملة الأولى في التاريخ الإنساني، لتفسير التاريخ... 
                وقد اتسمت منهجية ابن خلدون، بالشروط الأساس لتفسير التاريخ، تلك التي لا يقوم (علم تفسير التاريخ) بدونها، وهي: 

                1 - الشمولية العالمية في النظرة إلى التاريخ، أو حسب تعبير بعضهم (النظرة الكلية) : فالتاريخ المحلي أو النظرة الجزئية المحدودة، لايمكن أن تشكل أساساً لتفسير التاريخ، ولا ينتظر أن يستقرئ كل مفسر للتاريخ سائر الأمثلة، التي تقدمها الوقائع التاريخية في سائر الحضارات، فذلك عمل، وإن كان هدفاً مثالياً، إلا أن تطبيقه من الصعوبة بمكان كبير، وحَسْب مفسر التاريخ أن يقدم شرائح من حضارات مختلفة، بحيث تكون نتائجها المستخلفة صالحة للتكرار والتعميم. 

                2 - العلِّية: فلا تفسير بدون تعليل، ولن تتحقق العبر واستخلاص السنن والقوانين بدون هذه العلِّية، وأي فلسفة، في أي علم من العلوم، لابد أن تعتمد على التعليل، وهذا من الفروق الأساس بين المنهج التاريخي التقليدي، والمنهج الحضاري، أو منهج تفسير التاريخ.

                 والتعليل - أيضاً - يكون قابلاً للتكرار، في أطر حضارية أخرى، ولابد أن يكون عاماً شأن سائر القوانين، وأما التعليل الجزئي، الذي يشبه (الحكمة) الخاطفة، فإنه لا يرقى إلى التعليل المطلوب لمفسر التاريخ. 

                والتعليل التاريخي، الذي يعتمده مفسر التاريخ، ليس تعليلاً جزئياً -كما ذكرنا- وليس تعليلاً خارجياً، بل هو تعليل باطني مستقى من الرؤية الشاملة الفلسفية لما يقبع خلف الوقائع الظـاهرة.. إنه نظر إلى الواقعة من داخلها، ومن نقطة الإحاطة بكل جوانبها، ومن ربطها بإطارها العام. 

                3 ـ الفكر : فإذا كان المؤرخ مجرد مسجل للحدث، باحث عن الطرق الصحيحة لإثباته، فإن مفسر التاريخ يحتاج إلى عمليات فكرية معقدة، في محاولة لجمع جزئيات الماضي، ولاستحضاره من حاضره، عن طريق بنائه بناءً تركيبياً، ولاستخلاص أسباب اتجاهه للإيجاب أو السلب، فالجانب المعرفي، والفكري، أساس لمفسر التاريخ. 

                4 ـ الحركة أو(الديناميكية) : المفسر للتاريخ يقدم لنا صورة تبدو وكأنها إعادة حية (متحركة) للواقع، حتى نحس بطبيعة العوامل التي تقف خلف الأحداث، ولهذا يلجأ فيلسوف التاريخ لرصد كل العوامل النفسية، و(البيلوجية)، والفكرية، والعقدية، والاقتصادية، ويربط بينها، ويعطي لكل عامل حجمه في مرحلته التاريخية. 
                أما المؤرخ فيقدم لنا التاريخ، أقرب إلى السكونية الجامدة، التي تعطينا جانباً معرفياً منظوراً، ولا تحرك فينا جوانب الاستحضار، والتفاعل، والبصر، بالعوامل الباطنية. 

                • حادي عشر: التأصيل الإسلامي لنظريات ابن خلدون:

                  لم يكن لرجل في مثل عقل ابن خلدون، إلا أن يكون "رجل تاريخ"، بالمعنى المزدوج، يكتب التاريخ ويفعله، يتأثر بالتاريخ، ويؤثر فيه، إنه مؤرخ وإنسان تاريخي، وبصرف النظر عن الهدف الذي يسوق من أجله (عبد الله العروي) النص التالي، ومع اختلافنا مع هدفه، إلا أننا نوافقه على أن ابن خلدون، يمثل: "راويًا مثل غيره من الرواة، عندما يتكلم على أصول العرب، والبربر، والترك.. شاهدًا بل صحفيًّا، عند ما يتكلم على نفسه، وعلى سلاطين بني مرين.. مؤرخًا يزاحم في الإتقان والنباهة، والاطلاع، (المسعودي) أو (البيروني)، منظرًا لقواعد الكتاب التاريخية، مبدعًا لعلم العمران في مستوى فلاسفة عه التنوير.. كاشفًا عن الحقيقة التاريخية، كميزة بشرية" .. إلا أن ما لم يدركه العروي، أن كل ذلك كان وفق منهج إسلامي، وكان انبثاقة عن روح إيمانية، ولم يكن دنيويًا أو علمانيًّا… 

                  إن ابن خلدون، مثل سابقيه الموسوعيين العظماء، الذين نبغوا في أكثر من تخصص، وكانوا قادرين على المزج بين العلوم الشرعية، والإنسانية، والطبيعية، ويرونها كلها -إذا صلحت النية والهدف- علومًا إسلامية. 

                  ويأتي الخطأ في توجيه آراء ابن خلدون وتقويمها، عند ما تُتجاهل هذه (الحقيقة الإسلامية الموسوعية)، عند ابن خلدون، فأي محاولة للنظر لابن خلدون بعيدًا عن انتماء عقله للمنهجية الإسلامية القرآنية، التي تتجاوز كل ضغوط الحاضر السياسية، وإسقاطاته الفكرية، وتحقق لصاحبها موسوعية في الفكر… وقفزًا فوق إسقاطات الواقع، أي محاولة من هذا القبيل محكوم عليها بالفشل. 

                  و مع ذلك، فما أكثر الدراسات، التي تجاهلت هذه الحقيقة، ونظرت إلى ابن خلدون بمنظار معين، وحاولت نزع انتمائه عنه، وإلباسه رداءًا لا يصلح له، ضيًّقا كان أو فضفاضًا. 
                  وكم من قراءة معاصرة لأفكار ابن خلدون، لا تتوافر فيها شروط الجودة البحثية، والعطاء الفكري، إلا نادرًا.. وكم من قراءة عائبة المنطلق، قاصرة النظر والمنهج، وكم من قراءة تتخذ الخلدونية ذريعة مختزلة تمارس فيها وحولها، شتى أنواع التهافتات، والإسقاطات المفهومية، ذات الجعجعة ولا طحين.. هذا فضلاً عن القراءاتـ، التي تتم في حالات الغفوة والسهو، وأخرى مدرسية، أو مكتظة بالنسوخ و الاجترارات. 


                  لقد بلغ من هذا الإسقاط التأويلي، الذي يعتسف مفردات اللغة ودلالاتها، ويلغي معجميتها، ويجعلها كائنًا زئبقيًا قابلاً لأي تشكيل.. بلغ هذا الإسقاط إلى المستوى الذي يعتمد فيه (محمد عابد الجابري) عبارة "مكسيم رودنس"، التي يصف فيها تراث "كارل ماركس" بأنه تراث من اليسير أن نجد فيه ما يبرر أية فكرة، فيرى الجابري أن هذا الوصف يصدق أيضًا على مقدمة ابن خلدون: "فإن المؤمن، والملحد، والكاهن، والمشعوذ، والفيلسوف، والمؤرخ، ورجل الاقتصاد، وعالم الاجتماع، وحتى كارل ماركس نفسه، كل أولئك يستطيعون أن يجدوا في (المقدمة) ما يبررون به أي نوع من التأويل يقترحونه لأفكار ابن خلدون". 

                  بل إن الأمر، يمتد إلى مصادرة المستقبل في التعامل مع أفكار المقدمة، فيقفز بنا أحد الكُتَّاب إلى التيئيس الكامل من أية قراءة مستقبلية، تزعم أنها انتهت إلى قراءة محددة لأفكار ابن خلدون الواردة في المقدمة.. فالعامة الذين يظنون أن الأفكار الخلدونية أضحت مكشوفة بدليل المئات من الدراسات المتراكمة، والخاصة الذين صاغوا حول التراث الخلدوني أطروحات، والواحد منهم تحدوه الرغبة في أن يقول: إني آخر القارئين… كلتا الفئتين تخطئ الصواب، وتغلّب الوهم. 

                  إن هذين القولين مردودان، جملة وتفصيلاً، وهما لا يستقيمان إلا في إطار المنهجية الظالمة المتأولة، التي ترى أن كل نص مهما كان وضوحه، وانسجامه مع اللغة، والعقل، والمنطوق، والمفهوم، يمكن تأويله وتوجيهه، وفق دعوى منهجية معينة (عصرانية) أو (ظرفية تاريخية) أو (تحديثية).

                  إن التأويل في رأي هؤلاء (أي إخضاع النص لهوى الباحث وأفكاره)، منهج ألسني و (سوسيولوجي)، يسمح (بتحريف) كل النصوص، (وتعبير التحريف هو التعبير الصحيح)… حتى تزول معلم اللغة، وضوابطها، ودلالاتها، باسم (التاريخانية)، ومعالم العقل، والمنطق، والدين، باسم (القراءة العقلانية المعصرنة للنص !!). 
                  ومهما يكن تقديرنا الكبير لمقدمة ابن خلدون،وقابليتها لاسترسال القراءات، وتراسلها، إلا أننا لا نراها فوق (إمكان القراءة المحددة)، حتى ولو كانت من "أمهات النصوص، حافلة بالدقائق والمعاني، غنية بقدرتها على تفجير قرائح القارئين، واجتهادات المؤولين" . . فكل الأمهات - حتى الكتب المقدسة - تقبل القراءة المحددة، إذا ما احترمت اللغة، ودلالاتها الظاهرة الواضحة، وأوقف هذا السيل من العبث باللغة، والعقل، والموضوعية، باسم التأويل، الذي لا يحكمه ضوابط صارمة، وإلا فإن كل فكر هو لا فكر، وكل معنى هو لا معنى.

                  تمتاز أفكار ابن خلدون، التي ترد في المقدمة، بأنها ترد وفق منهجية شمولية، تمزج بين جوانب المعرفة الإنسانية، مزجًا كاملاً، وتنظر للإنسان نظرة عضوية مترابطة، ثم تنطلق من ذلك إلى النظر للمجتمعات دون تشقيق، ثم ترى في الحضارة كائنًا حيًا يشبه الكائنات الحية العضوية، أو يكاد، يخضع للشروط نفسها، وللتكاملية بين العوامل الفاعلة فيه، على النحو الذي تخضع له المجتمعات والإنسان الفرد.. ويوشك ابن خلدون، أن يضع أيدينا على أعمار الدول، أو الدورات التاريخية المتعاقبة، وكأننا نشاهد طفلاً ينشأ، ثم ينمو، ثم تدب في مُحيّاه مخايل الشباب... ثم ينحدر بطيئًا إلى الشيخوخة. 

                  هذه النظرة، التي قد يختلف فيها كثيرون معه، إنما كانت فقهًا خلدونيًّا اجتماعيًّا، لما ورد في القرآن الكريم، والسنة النبوية، حول تداول الأيام بين الناس، وحول أثر الظلم،والترف، والكفر بأنعم الله في سقوط الدول، قال تعال: (لكلّ أمةّ أجلُ إذا جاء أجلهم فلا يستئخرون ساعة ولا يستقدمون )(يونس:49). وقال تعالى: (وتلك الأيام نداولها بين الناس )(آل عمران:140). وقال تعالى: (وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدًا من كل مكانٍ فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون )(النحل:112). وقال تعالى: (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون )(الأعراف129). وقال تعالى: (وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً يتلوا عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون )(القصص):59 

                  بل إنني أرى أن ابن خلدون قاس الدولة، أو الدورة التاريخية، قياسًا كاملاً على عمر الفرد، ومراحل تطوره، على ضوء الآية القرآنية الكريمة: (خلقكم من ضعفٍ ثم جعل من بعد ضعفٍ قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفًا وشيبة (الروم):54.

                  كما أننا لا نستطيع أن نتهم ابن خلدون بالغفلة عن القصص القرآني، وعواقب كل أمة، كما فصّلها الوحي الكريم، بل إننا نراه في المقدمة، وفي العبر، على وعي كامل بالقصص القرآني، والعبر، المستخلصة منه، سواء في جانب الرخاء، والنعمة، والمن، والنصر، وغيرها من ثمار الإيمان، والالتزام بشريعة الله، أم في جانب الترف، والظلم، والانحلال، وغيرها من مظاهر البعد عن الشريعة والكفر بنعمة الله، والعواقب الحتمية الوخيمة - مهما طال الزمن - لهذه السلوكيات الجالبة لغضب الله،والمدمرة للحضارة. 
                  ولم تكن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، في شؤون الحياة كلها، بعيدة عن فكر ابن خلدون، بل إن ابن خلدون، ابن روحي للإمام مالك بن أنس، إمام دار الهجرة، وقد ولي القضاء في مصر ست مرات على المذهب المالكي، ومعروف أن المذهب المالكي من مذاهب الحديث والأثر، وليس من مذاهب الرأي، وهذا يلزم الفقيه المالكي، الملتزم، فضلاً عن القاضي المالكي، أن يكون على وعي تام بالسنة والأثر.. والدارس لفكر ابن خلدون، يكتشف بسهولة عمق الصلة بين آراء ابن خلدون في النظام السياسي بعامة، ونظام الحكم بخاصة، وبين السنة النبوية والقرآن الكريم. 

                  إنه منذ البداية يقرر أن أحكام السياسة القائمة على النظام الدنيوي (العالماني)، طريق خراب للناس، فهي تحصرهم في مصالح الدنيا فقط، وتقتل فيهم الجانب الأخلاقي، ووازع الضمير، وترتفع بحريتهم الفردية، ومصالحهم الذاتية، على مصالح الأمة، ومصالح الملّة. 

                  و بعد أن يُقدم ابن خلدون نماذج من الحكومات الدنيوية (العالمانية)، يرفضها جميعًا، ويدعو المسلمين إلى الاحتكام إلى الشريعة الإسلامية، التي هي الضمان الوحيد لكفاية العباد، وإسعادهم، وضمان انقيادهم والتزامهم.. يقول ابن خلدون عن هذه الحكومات الدنيوية: 

                  "وقد أغنانا الله عنها في الملة والخلافة، لأن الأحكام الشرعية مغنية عنها في المصالح العامة، والخاصة، وأحكام الملك مندرجة فيها". 

                  ويصف هذه الحكومات الدنيوية العالمانية، بأسوأ الصفات قائلاً: 

                  "…فما كان منه - أي من نظام الحكم - بمقتضى القهر، والتغلب، وإهمال القوة العصبية في مرعاها، فجور وعدوان" "وما كان منه بمقتضى السياسة وأحكامها، فمذموم أيضًا، لأنه نظر بغير نور الله، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور، لأن الشارع أعلم بمصالح الكافة، فيما هو مغيب عنهم، من أمور آخرتهم. وأعمال البشر كلها عائدة عليهم، في معادهم، من ملك أو غيره. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنما هي أعمالكم ترد عليكم"، وأحكام السياسة إنما تطلع على مصالح الدنيا فقط، يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا، ومقصود الشارع بالناس صلاح آخرتهم، فوجب بمقتضى الشرائع، حمل الكافة على الأحكام الشرعية، في أحوال دنياهم وآخرتهم". 
                     وعندما كان ابن خلدون يتحدث عن نظريته في "أن الدولة لها أعمار طبيعية، كما للأشخاص"، وهي النظرية التي تمثل جوهر فكره في (الدورة العضوية) للدولة، أو (للحضارة)، حسب فهم بعضهم، كان القرآن، هو مصدره لهذا التصور.. ونحن نرى هذا جليًّا في قول ابن خلدون: "إن الدولة في الغالب لا تعدو أعمار ثلاثة أجيال، والجيل هو عمر شخص واحد من العمر الوسط، فيكون أربعين، الذي هو انتهاء النمو، أو النشوء إلى غايته، قال تعالى: (حتى إذا بلغ أشدّه وبلغ أربعين سنة )(الأحقاف:15)، ولهذا قلنا: إن عمر الشخص الواحد هو عمر الجيل، ويؤيده ما ذكرناه في حكمة التيه الذي وقع في بني إسرائيل، وأن المقصود بالأربعين فيه، فناء الجيل الأحياء، ونشأة جيل جديد آخر، لم يعهدوا الذل ولا عرفوه". 

                  وهكذا كان ابن خلدون، وهو يتحدث في الفكر التاريخي، أو العمراني، أو السياسي.. يعتمد على القرآن والسنة، وقصص الأنبياء، اعتمادًا مباشرًا، وكان لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، مكانة متميزة في استشهاداته، واقتباساته، ، وقياساته. . . كما أنه تحدث عن الرسول عليه السلام، التي يدعو إليها ابن خلدون، ويعمل على بيان جدارتها، وأحقيتها وحدها، للتطبيق على المجتمع الإنساني. 

                  لقد صمم ابن خلدون، نظرية العمران، أو المجتمع الإنساني، على أنه مجتمع "إسلامي" الحكومة والرعية، وقد خصص المقدمة كلها - إلا في القليل - لهذا الأمر، وقرر ضرورة أن يكون الحكم خلافة، وأن الخلافة لحراسة الدين وسياسة الدنيا، ورفض الحكم الدنيوي العلماني العقلي، والحكم الطبيعي الشهواني، وحدد المعالم الكبرى لنظام الحكم، معتمدًا على الرسالة التي وجهها طاهر بن الحسين إلى ولده عبد الله بن طاهر، لما ولاه المأمون الرقة ومصر وما بينهما، كما حدد معالم نظام القضاء، وآدابه، معتمدًا على الرسالة التي وجهها الخليفة العظيم عمر بن الخطاب ، إلى الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما. 

                  وعلى الرغم من الجهود الهائلة التي يبذلها - وبذلها بسخاء وإسراف شديدين - الشيوعيون المندثرون والعلمانيون الملحدون، والقوميون غير الإسلاميين، فإن نسيج المقدمة كلها، ألفاظًا ومصطلحات ولغة و استشهادات، وأفكارًا، ومضامين، هو نسيج إسلامي، ينبع من مصادر الإسلام الأساس، ومن الفكر المعتمد والموثق في التراث الإسلامي. 
                  وكل المحاولات غير العلمية، بل والسوقية أحيانًا، التي حاولت توجيه أفكار ابن خلدون توجيهًا ماديًا، أو علمانيًا عقليًا، لا صلة له بالوحي، هي محاولات تتحدث عن شخص آخر غير ابن خلدون، وعن مقدمة أخرى غير مقدمة ابن خلدون.. بل إنها تتحدث عن كاتبها المادي، وفكره غير الديني. 

                  إن أحد الباحثين الغربيين، وهو (دي بوير) الهولندي، يذكر أن الدين لم يؤثر في آراء ابن خلدون العلمية بقدر ما أثرت الآراء الأرسطوطاليسية الأفلاطونية.. ويشير باحث آخر، هو (ناتانيل شميت)، الأستاذ في جامعة كورنل بأمريكا، إلى أن ابن خلدون، إذا كان يذكر خلال بحثه كثيرًا من آيات القرآن، فليس لذكرها علاقة جوهرية بتدليله، ولعله يذكرها فقط ليحمل قارئه على الاعتقاد بأنه في بحثه متفق مع نصوص القرآن!! 

                  و ثمة مستشرق ألماني هو (فون فيسندنك)، يقول: إن ابن خلدون، تحرر من أصفاد التقاليد الإسلامية في درس شؤون الدولة والإدارة وغيرهما، وأنه حرر -كذلك- ذهنه من القيود الفكرية، التي ارتبطت في عصره بالعقائد العربية. 

                  لكن المستشرق (غوستاف ريختر) ينفي هذه الصورة التاريخية المسقطة على ابن خلدون، ويؤكد أن المقدمة تقف شامخة باعتبارها ذروة من ذري الإبداع في العصور الوسطى كلها. 

                  ويقول (ريختر): "إن إنجاز ابن خلدون، إنجاز لا يبتعد كثيرًا عن الروح العربية الإسلامية، كما يحلو للبعض أن يصور. إن ابن خلدون، الذي تتميز نظريته بالطابع الواقعي التجريبي، يبقى في السياق العالم للثقافة الإسلامية، ولا يخرج عليه، كما لا يحاول تغييره. 

                  إنه يبقى عالمًا مسلمًا، عميق الاطلاع، ومنظومته نفسها، لها حدودها، التي هي حدود الثقافة العربية الإسلامية"!! 

                  ومن الطريف.. أن يتولى مستشرق مثل (هاملتون جب)، في كتابه المعروف: دراسات في حضارة الإسلام)، الرج على العرب العلمانيين، والمستغربين، الذين يسعون إلى توجيه المقدمة، وصاحبها توجيهًا يخدم أفكارهم المادية، وغير الدينية. 

                  وقد أشرنا من قبل إلى أن المفكر المصري المعروف: (عبد الرحمن بدوي)، مع نزعته الوجودية، والاستغرابية -خضع للحكم العلمي- فأكد الإسلامية الالتزامية الواضحة لابن خلدون ومقدمته، وأدان كل محاولات تحريفها، وفق أفكار مذهبية، أو عنصرية. 

                  أما (هاملتون جب)، فإنه - في فصل كامل في كتابه، الآنف الذكر، يتولى الرد على نموذج من هذه النماذج الانهزامية الاستغرابية، وهو الأستاذ (كامل عياد) في أطروحته التي قدمها لإحدى الجامعات الأوروبية، بعنوان: (نظرية ابن خلدون التاريخية الاجتماعية)، وفيها يذهب إلى أن ابن خلدون، (لا يعدّ النبوة ضرورة للاجتماع الإنساني)، وأنه (ارتفع فوق معتقداته الدينية، وهو يحقق منجزاته الضخمة)، وأنه (يبني نظريته العلمية بطريقة فريدة على المادة التجريبية)!!.. وكل هذا الذي يقوله كامل عياد، ضرب من الوهم لا سبيل لإثباته، إذا كان الفكر فكر ابن خلدون، وإذا كان الكتاب هو مقدمته.. فالمقدمة موجودة، لكنه الاعتساف غير الأخلاقي. 

                  ويرد (جب) على هذا الباحث -وأمثاله- ردًّا حاسمًا، فيعود برأي ابن خلدون في النبوة، وضرورتها للاجتماع الإنساني - إلى رأي عالم سني يتهمه بعضهم بالتشدد وهو الإمام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، رحمه الله (ت: 728هـ).

                  وينقل (هاملتون جب)، نص ابن تيمية من كتابه: (الحسبة)، مبينًا أنه لا فرق بين الرأيين، وبالتالي فابن خلدون عالم سني مثله مثل ابن تيمية. 

                  بل إن ابن خلدون -كما يقول (جب)- لم يكن مسلمًا فحسب، بل كان كما تكاد كل صفحة من المقدمة تشهد، فقيهًا متكالمًا من أتباع المذهب المالكي المتشدد، وكان يرى أن الدين أهم شيء في الحياة، وأن الشريعة هي الطريق الوحيد إلى الهدى. 

                  و يرى (جب) أن الأساس الأخلاقي الإسلامي في فكر ابن خلدون، ضمني يستشف خلال عرضه كله. عدا عن أنه يلجأ دائمًا إلى الاستشهاد بالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية. أما مبدؤه في العّلية والقانون الطبيعي… ذلك المبدأ الذي يراه الدكتور عياد معارضًا -على نحو حاد- للآراء الكلامية الإسلامية في القرآن، فليس هو -(في رأي جب)- إلا سنة الله، يتردد ذكرها في القرآن. 

                  على أننا قد نسلم بأن ابن خلدون، ينص بقوة على الاقتران المحتوم بين السبب والمسبب في صورة قانون طبيعي، أكثر مما يفعل سواه من المؤلفين المسلمين، فالأمر لا يعدو اجتهادًا من الاجتهادات الدائرة في المحيط الإسلامي!! 

                  وبطريقة ذكية يبسط (جب) أفكار ابن خلدون، مع ربطها بالرؤية الإسلامية فيقول: "فنحن إذا حاكمنا نظرية ابن خلدون التاريخية، خرجنا بنتيجة متشابهة، فاجتماع النوع الإنساني ضروري للتعاون ( لتتم حكمة الله في بقائه وحفظ نوعه)، وإلا لم يكمل وجودهم وما أراده الله من اعتمار العالم بهم، واستخلافه إياهم".. وأيضًا فإن السياسة والملك هي كفالته للخلق، وخلافةُ لله في العباد لتنفيذ أحكامه فيهم سواء كان الملك خيرًا ، أو شرًا، والعصبية إنما تتم بجمع القلوب، وجمع القلوب وتأليفها إنما يكون بمعونة من الله في إقامة دينه". 

                  وهكذا يؤكد (جب) أنه من المستحيل علينا أن ننحي عن أنفسنا الشعور بأن ابن خلدون، إلى جانب أخذه في تحليل تطور الدولة، كان كغيره من فقهاء المسلمين في عصره، مهتمًا بالتوفيق بين المتطلبات المثالية التي تريدها الشريعة، وبين وقائع التاريخ. 

                  فالقارئ المتأني ، يلحظ أنه ينبه الأذهان، مرة إثر مرة، إلى أن سياق التاريخ لم يكن كما هو عليه، إلا لانتكاث الشريعة، من جراء آثام ثلاثة هي: (الكبر، والترف، والجشع).. حتى التوفيق في الحياة الاقتصادية، لا يتأتى إلا حين تكون أوامر الشرع مرعية. 

                  و حول مصادر فكر ابن خلدون بصفة عامة، يؤكد (جب) أن ابن خلدون "استمد بعض المواد التي بنى عليها تحليله من تجربته… واستمد بعضها الآخر من المصادر التاريخية، التي كانت لديه، متصلة بتاريخ الإسلام، فقد فهمها وتأولها على نحو فذ من طرح التحيزات القائمة، ولكن الحقائق الأولية، أو القواعد التي تقوم عليها دراسته، هي الحقائق والقواعد التي توصل إليها عمليًا كل الفقهاء والسنيين السابقين، والفلاسفة الاجتماعيين الأولين!! 

                  و تفصيلاً لهذه الحقيقة، التي ينتهي إليها -صادقًا- "هاملتون جب"، نذكر أنه بالإضافة إلى المصادر الأساس التي اعتمد عليها فكر ابن خلدون، والتي أشرنا إليها سلفًا، وعلى رأسها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإن ابن خلدون، وإن لم يكن ابن عصره المتخلف والممزق، فإنه كان ابن الفكر الإسلامي، وتلميذ العقول الإسلامية الكبيرة، في عصور الإسلام السابقة كلها… لقد اغترف من تراثها، وتمثله خير تمثل، وأحسن إخراجه، كما تخرج النحلة عسلها من غذائها. 

                  و يخص أستاذنا الدكتور مصطفى الشكعة الباب السادس من كتابه الرائع عن (الأسس الإسلامية في فكر ابن خلدون ونظرياته)، للحديث عن تأثر ابن خلدون بعليّ علاء الدين بن أبي الخرم، المشهور بابن النفيس (607-687هـ)، فيما يتصل بنظرية العمران. بل إن الأمر - كما يذهب أستاذنا الشكعة - يتعدى ظاهرة التأثر إلى واقع النقل، ففي مؤلفه (السيرة الكاملية)، يعالج ابن النفيس ضرورة الاجتماع من خلال قصة كامل الذي نشأ منفردًا معزولاً في جزيرة نائية، مثل صاحب قصة ابن الطفيل (حيّ بن يقظان).

                  و يورد الدكتور الشكعة مقارنات بين نصوص وردت في (السيرة الكاملية)، ونصوص وردت في مقدمة ابن خلدون)، ويبين أوجه التشابه في المعاني - بل والألفاظ - بين هذه النصوص وتلك. 

                  و في قضية التعامل بين الناس في الاجتماع الإنساني، يورد الدكتور الشكعة نصًا لابن النفيس، ثم يذكر أن ابن خلدون أخذ الموضوع نفسه والظاهرة نفسها، وقدمها من خلال كلمات لا تخر عما قصد إليه ابن النفيس، وأجاد التعبير عنهما.. ومثلما انتهى ابن النفيس في (السيرة الكاملية) إلى ضرورة الحكومة الشرعية، انتهى ابن خلدون إلى النتيجة نفسها في مواطن شتى من مقدمته. 

                  والحقيقة أن التشابه كبير، وأن تأثر ابن خلدون بأفكار ابن النفيس لا شك فيه، وهو تأثر يمتد إلى مستوى الالتقاء في أساليب التعبير، وفي المضامين الجزئية الداخلية.. وإن كنا لا نرى أثرًا واضحًا للنقل المباشر، كما أن (السيرة الكاملية) في إطارها القصصي الفلسفي، لا يمكن أن تمثل رافدًا واحدًا من عشرات الوافد، التي يحتاج إليها عمل في زخم مقدمة ابن خلدون ومعطياتها. 

                  وبالإضافة إلى ابن النفيس، وما ذهب إليه أستاذنا الشكعة من عمق تأثر ابن خلدون به، نضيف مؤثرًا آخر من الروافد التراثية الإسلامية التي نهل منها ابن خلدون، ووجهته توجيهًا مباشرًا، وتأثر بها تأثرًا لا يمكن إغفاله، هو أبو محمد علي بن سعيد بن حزم، المتوفى سنة (456ه).


                  ويمكن القول: إن ابن خلدون، الذي تتلمذ في علم الأنساب على ابن حم، قد تتلمذ أيضا على ابن حمم، في نقد الرواية التاريخية، وبيان ما بها من جانب أسطوري "ميثولوجي"، وبيان تناقضها مع قواعد العقل، ومع الحقائق المشاهدة، ومع الحقائق الجغرافية. 

                  بل إن من الغريب أن الأمثلة التاريخية التي قدمها ابن خلدون، ليبين بها: "ما يعرض للمؤرخين من المغالط والأوهام، وذكر شيء من أسباب ذلك"، قد اقتبس بعضها من موسوعة (الفصل) لابن حزم. وليس هذا فحسب، بل إن ابن خلدون قد اقتبس نقد ابن حزم لهذه المغالط والأوهام. 

                  فأول الأمثلة التي قدمها ابن خلدون في مقدمته، بيانًا لفساد المنهج التاريخي التقليدي، ما نقله المسعودي وكثير من المؤرخين في جيوش بني إسرائيل، من أن موسى أحصاهم في التيه بعد أن أجاز من يطيق حمل السلاح خاصة من ابن عشرين فما فوقها، فكانوا ستمائة ألف أو يزيدون. 

                   و يكذب ابن خلدون هذا العد، على أساس تقدير مساحة العمران في مصر والشام، وعلى أساس صعوبة قتال جيش بهذا العدد في هذه العصور، ويقارنا بعدد جيوش الفرس في حرب القادسية، وهو عدد لا يزيد عن مائة وعشرين ألفًا. ثم يأتي ابن خلدون بحجة أخرى، وهي أن الذين بين موسى وإسرائيل (يعقوب) هم أربعة آباء فقط، عاشوا مائتين وعشرين سنة، وكان عددهم أيام يعقوب سبعين. فمن المستحيل عقلاً أن يتناسل سبعون في مائتين وعشرين سنة… أي في أربعة أجيال فيصبحوا ستمائة ألف مقاتل.. فضلاً عمن لا يستطيع القتال! 

                  هذا ما ذكره ابن خلدون في أول أبواب المقدمة، وهو الباب الذي اعتبره الكثيرون تحولاً في مسيرة المنهج التاريخي. 

                  أما ابن حزم.. فقد ذكر عشرات الأمثلة (الأسطورية) من هذا القبيل، وفنّدها بقريب من الحجج التي اقتبسها ابن خلدون.. وفي هذا المثل الذي ذكرناه، وهو الذي اخترناه للمقارنة.. يقول ابن حزم: 

                  "فصل في السفر الرابع -أي من التوراة- ذكر أن عدد بني إسرائيل الخارجين من مصر، القادرين على القتال، خاصة من كان ابن عشرين سنة فصاعدًا، كانوا ستمائة ألف مقاتل وثلاثة آلاف مقاتل وخمسمائة مقاتل، وأنه لا يدخل في هذا العدد من كان له أقل من عشرين، ولا من لا يطيق القتال، ولا النساء جملة، وأن عددهم إذ دخلوا الأرض المقدسة ستمائة ألف رجل وألف وسبعمائة رجل وثلاثون رجلاً. 


                  م يقول ابن حزم متعجبًا: "فيا للناس كيف يمكن أن يتناسل من ولادة واحد وخمسين رجلاً فقط (هم عند ابن خلدون سبعون رجلاً) في مدة مائتي عام وسبعة عشر عامًا (وهي عند ابن خلدون 220 سنة) أزيد من ألفي ألف إنسان؟ هذا غاية المحال الممتنع. 

                  إن من المستبعد عقليا أن يكون ابن خلدون قد فاته الاطلاع على كتاب (الفصل)، وألا يكون قد قرأ ردًّا ابن حزم على التوراة.. وبالتالي على من أخذوها من التوراة دون تحليل أو نقد كالمسعودي وغيره. 

                  وليس إهمال ابن خلدون لذكر ابن حزم، كأستاذ له في منهج النقد التاريخي، إلا اتباعًا سار عليه كثير من المؤرخين من أسلافنا.. وحسبنا أن نذكر أن هذه الأسطورة التي فندها ابن خلدون في أقل من صفحتين، قد نقدها ابن حزم في أكثر من خمس عشرة صفحة من القطع الكبير.. كلها إحصاءات ومقارنات، وبيان تناقضات، وتتبع تاريخي. 
                  ومن البدهي الذي لا يحتاج إلى دليل ملموس، أن ابن خلدون لم يكن -في إطاره العلمي والفكري- منفصلاً عن الأرضية الإسلامية الثقافية والحضارية -بصفة عامة- وعن رموز الحضارة الإسلامية الذين سبقوه وأحسنوا التعبير عن الحقائق الإسلامية بصفة خاصة. 

                  لم يكن هؤلاء الذين أشرنا إلى اقتباسه منهم، إلا نماذج لعدد سيبقى قابلاً للزيادة لمن نهل منهم ابن خلدون منابع فكره، وتشكلت بفضلهم ثقافته!! 
                  وعلى سبيل المثال، فإن من الصعب أن لا يكون ابن خلدون قد قرأ أبا حامد الغزالي، وأحمد بن عبد الحليم بن تيمية، وابن القيم الجوزية، وابن الجوزي، وأقطاب المذاهب الفقهية الثلاثة عشر، وأقطاب الحركات الفلسفية والكلامية والفكرية.. أو قرأ كثيرًا من إنتاجهم على الأقل… 

                  وفي محاولة ذكية، يعقد الباحث (حسن محمد الظاهر) مقارنة حول "إشكالية المعرفة والسلطة - بحث في الفكر السياسي الإسلامي" بين أبي حامد الغزالي (ت: 728هـ) وعبد الرحمن بن خلدون، وقد انتهى الباحث إلى تقرير نتائج تتصل بموقف كل منهم من إشكالية المعرفة والسلطة. 

                  وبالنسبة لابن خلدون، كانت الروح الإسلامية - كما يذكر الباحث - واضحة في نظريته حول سقوط الدولة أو هرمها، وكان انتماؤه إلى الحقل المعرفي الإسلامي جليًا… فهو - بالإضافة إلى إشارته لدور العصبية والمال في قيام الدولة وسقوطها - ويرى أن الخلل الأعظم الذي يتطرق إلى الدولة، يعود إلى عوامل غير هذين العاملين، فإن الله إذا تأذن بخراب أمة انقراضها، حملها على المذمومات وانتحال الرذائل، فينصرفون عن مؤازرة الملك ودعم سلطان الدولة، إلى الانغماس في النعيم الطارئ، فيضعفوا وتذهب ريحهم. 

                  هناك أيضًا عنصر الظلم -نقيض العد- والاستبداد من الحاكم على المحكومين، الذي عقد له في المقدمة فصلا عنوانه: "الظلم مؤذن بخراب العمران"، فجباة الأموال بغير حق ظلمة، والمعتدون عليها ظلمة، والمانعون لحقوق الناس ظلمة، وكل هذا يسرع في هرم الدولة وزوالها.. ثم هناك السخرة، التي يطلق عليها: تكليف الأعمال: (ومن أشد المظالم وأعظمها في فساد العمران، تكليف الأعمال، وتسخير الرعايا بغير حق).

                  ويرى الباحث أن المفكرين الثلاثة ينتمون إلى دوحة ثقافية، وأنهم -حسب تعبيره- لم ينفصل أي منهم عن الإطار السياسي والاجتماعي الذي عاش فيه، وتعامل معه، وتأثر به وأثر فيه. 

                  وفيما يتعلق بابن خلدون بخاصة، يستنتج الباحث أنه ذو نظرة عملية في فكره، مثل ابن تيمية، مع خلاف في المنطلقات، فابن خلدون منطلقاته القوة والعصبية، بين أمور أخرى، أما بن تيمية فمنطلقاته الشرع والدين، فالحكم مثلاً عند الأول واجب عقلاً، إذ به نحقق جلب المنافع ودرء المضار، وعند الأخير واجب شرعًا كما سبق البيان. (والعقل في الإسلام، مؤكد للوحي، لا منفصل عنه ولا مناقض له).

                  كما أن الباحث ينتهي إلى أن حديث ابن خلدون عن هرم الدولة فانهيارها، بسبب سيادة الأخلاق غير الفاضلة فيها، يؤكد هويته الإسلامية، ويؤكد أنه لم يهمل الأبعاد الأخلاقية والقيمية، ومن ذلك أيضًا حديثه عن الظلم، السخرة وتكليف الأعمال، ثم حديثه عن المذمومات والرذائل، وهو ما أشرنا إليه سلفًا. 
                  وبإيجاز، فإنني أعتقد أن كثيرًا من الذين يعكفون على دراسة الرموز الكبيرة في حضارتنا، غير ابن النفيس وابن حزم وابن تيمية، يمكنهم أن يكتشفوا تأثر ابن خلدون بها، وأثرها في المقدمة بدرجة ما. . . وبطريقة أو أخرى… ذلك لأن ابن خلدون ابنٌ لهذه الرموز العملاقة، وثمرة من ثمرات المصادر الصحيحة والمبدعة في حضارتنا الإسلامية الزاخرة.

                  • علم الاجتماع في الجزائر

                    بدأت السوسيولوجيا الإستدمارية الفرنسية في الجزائر في ممارسة مهامها عام 1833 ،و كانت أهدافها مرتبطة بأهداف السياسة­­ الاستدمارية­­ الرامية إلى سلب الأمة الجزائرية هويتها و إحكام السيطرة عليها ،ولقد ارتبطت ­­المسيرة السوسيولوجية في الجزائر بعد الاستقلال بالتراث السوسيولوجي الفرنسي الاستدماري.

                    تاريخ السوسيولوجيا الكولونيالية في الجزائر: ­­­­­بدأت السوسيولوجيا الاستعمارية تمارس مهامها في الجزائر عام 1833، و هو تاريخ تشكيل لجنة الاستكشاف العلمية للجزائر بإشراف وزارة الحرب الفرنسية­-­­  لقد جاءت ضرورة تشكيل هذه اللجنة بعد المحاولات العديدة الفاشلة للاستيلاء على بعض المناطق عن طريق القوة العسكرية، و كان يسود مخيلة الغازي الفرنسي للبلاد الجزائرية أنه في رحلة سياحية،فالجزائر لا وجود لها إلا في مخيلة الغازي و على نحو أكثر ابتذالا لا توجد إلا بوصفها قطرا تركيا جديرا بأن يستولى عليه­---ما كان يعرف عن هذه الأرض الواقعة في المغرب الأوسط تافه 'لا يعتد به ،فأولئك الذين استولوا عليها كانوا على جهل مطبق بخصمهم­---! لكن ماذا وجدوا ؟"لقد فرضت المقاومات المسلحة و محاولات الأمير عبد القادر لبناء دولة حقيقية و حركات المعارضة المتكررة و ضرورة الاستيلاء على فضاءات اكبر تغيير التصور أو الرؤية ،فالجيش الاستعماري بحاجة إلى معرفة الذي يحارب و لهذا وطن نفسه على معرفة المناطق التي أبدت مقاومة شديدة معرفة جمة، حينئذ أخذت الدراسات الإثنوغرافية العسكرية في التطور و التنامي -وهي أمر استراتيجي،­­ ­­ ­­­­قامت لجنة الاكتشاف العلمي للجزائر بوضع دليل إحصائي حول الجزائر كافة اشتمل على 60 مجلدا ، و قسمت الجزائر بمقتضى النتائج المتوصل إليها إلى ثلاث مقاطعات هي­9­الجزائر ،قسنطينة، وهران، و هو الأمر الذي يوضح بجلاء العلاقة الوطيدة بين علم الاجتماع و المصالح الاستعمارية­- هكذا اقتنعت فرنسا أن القوة العسكرية وحدها غير قادرة على الاستيلاء على الجزائر و أنه خصم لا يستهان به؛ لذلك­­لابد من توظيف العلم لفهم قوة ترابط و تماسك أفراده !بعد مرور عقد من الزمن على نزول الجيوش ، وبعد ان تم اختيار توسع عسكري بعينه ،أقدمت الحكومة على تحر واسع النطاق ، وقد تم جمع معطيات في قرابة أربعين مجلدا، و قد اضطلع العسكريون بنصيبهم في هذا التحري ، وكان على رأسهم كاريس و بوليسيي، و قد استدعيت التخصصات و العلوم كالتاريخ و الجغرافيا و العلوم الطبية و الفيزيائية و الحفريات لكي توفر نظرة أمنية ما أمكن عن الآخر أي هذا العربي أو البربري بما أنهم ينكرون عليه.

                    نماذج من المفكرين الاجتماعين الجزائريين:

                    أولا: مصطفى الأشرف:

                    ولد مصطفى الأشرف في 7 مارس 1917 بمدينة شلالة العذاورة الواقعة بالهضاب العليا، بولاية المدية، ودرس في جامعة السوربون في باريس. بعد التخرج عاد ليعمل في ليسيه مستغانم، وانضم إلى حزب الشعب الجزائري عام 1939، وكانت له مشاركات واسعة متميزة في الصحافة النضالية مكنته من التنقيب عن العديد من الأصول التاريخية الجزائرية، ومن تكوين رؤية نضالية مرتبطة اشد الارتباط بنضال الشعب الجزائري عامة.

                    التحق بالثورة الجزائرية منذ الشرارة الأولى، وفي أكتوبر 1956 القي عليه القبض في حادثة القرصنة الشهيرة إلى جانب أربعة قياديين آخرين (بن بلة، آيت أحمد، بوضياف، محمد خيضر ) ليقضي عدة سنوات في السجن·

                     كان عضوا في المجلس الوطني للثورة، ومن المشاركين في صياغة ما يسمى ببرنامج طرابلس، ذلك الذي حدد بكل وضوح الأساس الذي تقوم عليه الدولة الجزائرية، أي طابعها الديمقراطي الشعبي. وبعد الاستقلال شغل مناصب عديدة من بينها مستشار لدى الرئيس هواري بومدين؛ حيث شارك في صياغة الميثاق الوطني وعين بعد ذلك وزيرا للتربية الوطنية، ثم سفيرا لبلاده في أمريكا اللاتينية. بعد الأحداث والتقلبات الخطيرة التي عرفتها الجزائر، والتي كادت تطيح بدولتها، انتمى مصطفى الأشرف إلى المجلس الاستشاري الوطني.

                     يعتبر "مصطفى الأشرف" من أهم الكتاب و المفكرين السوسيولوجيين الجزائريين، فهو الشخصية التاريخية التي تمثل أحد أهم قادة حزب جبهة التحرير الوطني إبان حرب التحرير و بعد الاستقلال، و الكاتب و المنظر الأول للحزب العتيد، و من بين المختطفين في حادثة الطائرة الشهيرة سنة 1956. كما يعتبر الشخصية المثقفة و الواعية و المهتمة بقضايا الجزائر الفتية "أمة و مجتمعا"، فقد عالج الكثير من الإشكاليات التي آمن بها إيمانا راسخا ودعا إلى ضرورة معالجتها  و شدد على أهمية تناولها علميا و فكريا و التطرق إليها في الأوساط الثقافية، قضايا من قبيل الإستعمار، الإقطاعية، الوطنية و القومية، الحرية، الهوية، الثقافة الشعبية، اللغة و غير ذلك. و قد قدم للمثقف الجزائري و المغاربي كل ذلك في باكورة أعماله المتمثلة في كتابه الموسوم ب "الجزائر الأمة و المجتمع" و الذي ألفه سنة 1968 باللغة الفرنسية، و ترجمه إلى اللغة العربية الأستاذ الباحث المرحوم "حنفي بن عيسى" سنة 1983

                         و لعل من بين أهم الإشكاليات التي طرحها و تطرق إليها و سعى جاهدا لإيجاد الأجوبة المناسبة لها تلك المتعلقة ب "إشكالية اللغة في الجزائر"، و على الرغم من أن السياق الزماني الذي شهد مناقشة "مصطفى الأشرف" للإشكالية السالفة الذكر قد يبدو متقادما و متهالكا، و الأساليب "الإبستيمولوجية" و "الميتودولوجية" التي استخدمها كآليات و أدوات بحثية قد تبدو متهافتة، إلا أنه ينبغي التأكيد على أن مقارباته و أطروحاته مازال تلقي بظلالها و تعيد إنتاج نفسها و بقوة إلى يومنا هذا في الأوساط الثقافية الجزائرية، وبالخصوص كلما طفت إلى السطح قضية ما من القضايا الهوياتية بما في ذلك "مسألة اللغة" و علاقتها بمختلف مجالات الحياة في المجتمع الجزائري .

                          و يسمي "مصطفى الأشرف" اللغة العربية ب "اللغة القومية"، و يعتقد بأنها قد فقدت مكانتها و سيطرتها في المجتمع الجزائري لعدة عوامل أهمها المستعمر الفرنسي، فالسيطرة الاستعمارية المباشرة حسبه و خلافا للأنظمة الاستعمارية الأخرى كالانتداب و الحماية، تسعى لفرض سيطرة مطلقة لمؤسساتها و إحلالها محل المؤسسات الخاصة بالدول المستعمرة و شعوبها  المغلوبة، ذلك أن الدول الاستعمارية الكبرى تعي جيدا ما تمتلكه اللغة من أهمية في بناء الشخصيات الوطنية للشعوب باعتبارها من أهم مقومات الهوية في أي أمة من الأمم، لذلك تسعى لطمس أهم المحددات الهوياتية الخاصة بشعوب مستعمراتها و فرض أنماطها و أنواتها الثقافية و الاجتماعية تحت غطاء منظمات و تشريعات دولية إمبريالية الخلفية و براغماتية الغاية على غرار "منظمة الفرنكفونية"، أما بعد حرب التحرير الوطني و نيل الجزائر لاستقلالها فيرى "مصطفى الأشرف" بأن سبب بقاء مستوى اللغة العربية منخفضا هو نوعية العلاقات القائمة بين الغالب و المغلوب، و هنا تأثر واضح من المفكر الجزائري بالعلامة ( عالم الاجتماع و فيلسوف التاريخ) "ابن خلدون" في تفسيره لمختلف إشكاليات الإنسان و المجتمع و التي يسميها ب"سنن العمران البشري" بما في ذلك مسألة قيام الدول و سقوطها و علاقات المستعمر-بكسر الميم- (الغالب) بالمستعمر – بفيح الميم- (المغلوب). فالجزائريون وجدوا أنفسهم مضطرين لإشباع رغباتهم الثقافية و الفكرية في ظل إدخال التقنيات الجديدة و تطور العالم علميا و عمليا و هو ما تسبب في اضطرابات شديدة في الوسط الاجتماعي و الاقتصادي لدولة كانت حسب الأشرف لا تزال فتية، و هو الوسط الذي يوفر أسباب و عوامل النماء و الازدهار للغة في أي مجتمع و لدى أية أمة، حينئذ بدأت المقارنة بين اللغتين العربية (اللغة القومية) و الفرنسية (لغة الاستعمار)، فاللغة العربية الفصحى فقدت مكانتها الاجتماعية بسبب قلة تعلمها و تعليمها، وذلك أدى بالضرورة إلى قلة تداولها في المجتمع (شعبيا) و كذلك (مؤسساتيا) أي في مختلف مؤسسات الدولة – على الرغم من أنها بقيت متداولة على نطاق ضيق في المدارس و الكتاتيب القرآنية و الزوايا- إلى أن صارت كما لو أنها لغة الدين و فقط، أي أن  تداولها انحصر و اقتصر على قراءة القرآن و تعليم الدروس الدينية و أداء الفرائض أو كما عبر عنها "مصطفى الأشرف" (حسب ترجمة الأستاذ المرحوم حنفي بن عيسى لكتاب الجزائر الأمة و المجتمع) ب "لغة السمو الروحي في الآخرة"، أما اللغة الفرنسية فوجدت مناخا مناسبا  للنماء و الازدهار خاصة أن التعليم الذي يعد اللبنة الأساسية للحفاظ على اللغة قد أخذ المنحى اللغوي التغريبي "المفرنس"، و كذلك بدأ الآباء يعلمون أبناءهم تعليما فرنسيا و تم تعميم تداولها و استعمالها في مختلف مؤسسات الدولة لتكتسب حسب الأشرف لقب "لغة الدنيا" في أذهان شريحة كبيرة من الجزائريين، و من هنا نفهم القصد الدلالي من مصطلحي "لغة الدنيا" و "لغة الآخرة"، و نلمس بوضوح و جلاء مدى انتشار هذه الفكرة كصورة ذهنية رمزية لدى الكثير من الجزائريين خاصة في الولايات الكبرى و المناطق الأكثر تمدنا مقارنة بأخرى، و بالتالى فالمسألة هي ذهنية قبل كل شيئ و لو أن هناك عوامل أخرى تطرق إليها "مصطفى الأشرف" كالإستعمار و تطور التقنيات و العلوم و كذلك بعض سياسات الدولة أنذاك.

                       عرف عن المفكر و الكاتب "مصطفى الأشرف" انتصاره للاشتراكية، لهذا دعا إلى نظره ثورية سليمة فيما يخص استعمال لغة واحدة ما بين اللغتين "العربية" و "الفرنسية" و إنتقد ذلك بشدة، و السبب في ذلك هو أن الفكر السياسي في نظره إذا تم نشره بلغة واحدة عربية كانت أم فرنسية فإنه لا يؤثر إلا في نسبة قليلة من الناس (الجماهير)، أما الأغلبية الباقية و التي لا تتقن سوى اللغة الدارجة (الشعبية) فلا تفهم و لا تتأثر في آن واحد، و الحق أن هذا المنطق سليم للغاية و لا يزال كذلك إلى يومنا هذا، وهنا أيضا نلمس نزوعه نحو اللغة الشعبية الدارجة و التي يؤكد على قدرتها على إفادة الأغلبية الساحقة من أفراد المجتمع، عكس اللغات الأخرى التي من شأنها خلق اتجاهات و نزاعات طبقية و برجوازية انتهازية (وهذا ما نجده حاصل في وقتنا الراهن). كما دعا إلى عدم اعتبار اللغة غاية في حد ذاتها و إنما وسيلة من شأنها المساهمة في الاحتكاك بالثقافات الأخرى المغايرة كما فعلت أوربا في القرن الثالث عشر و الرابع عشر حين ترجمت مختلف الكتب و المؤلفات الإسلامية (عربية كانت أم أعجمية) قبل أن تقلب الطاولة على من احتكت بهم و استفادت من علومهم و فلسفاتهم و تجاربهم أيما استفادة وصارت بعدئذ في قمة الحضارة، فاللغة ليست عائقا أمام الاحتكاك و الاستفادة من الآخر كما يعتقد بعض المتزمتين سواء من المحافظين و المقدسين للغة العربية الفصحى، أو من المتغربين الراغبين في إقصائها و تفضيل اللغات الأخرى، هكذا ينظر مصطفى الأشرف إلى اللغة في علاقتها بالثقافات الأخرى و دورها في الاستفادة من هذه الثقافات .

                      ثانيا: عبد القادر جغلول: عبد القادر جغلول 1946 بالمدية و توفي سنة 2010   

                     لقد عمل جغلول على بناء جسور للتعاون بينه وبين جل المثقفين لبنات بناء على مستقبل بلدانهم، وكانت حواراته تعمل كي يكون للمثقف دور ووظيفة، وقد نجد ذلك واضحا في مضامين الحوارات التي جرت على صفحات جريدة الجمهورية في وهران، وأيضا في مضامين كتاباته وخاصة في كتاب الأنتلجانسيا في المغرب العربي، هذا الأخير الذي كان المشاركون فيه ومعظمهم متأثرين فيما كتبه غرامشي عن المثقف· لقد فتح جغلول حوارا حول دور المثقف ووظيفته، بل قدم وجهة نظر حول الواقع الثقافي، وراجع فيما قدمه ما أسست له هذه النخب على الصعيدين التاريخ الاجتماعي من تراكمات، وما حفرت له وخزنته من مرجعيات تستند عليها الأجيال في تواصلها وإضافاتها··

                    والهدف الثابت عند جغلول، التأسيس لمناخات يثمر عنها حوار وطني لا يستثني أحدا·· وهو، جغلول الذي كان يرى في البيت الجزائري الذي أسس للثورة وحقق الاستقلال الوطني مثالا يحتذى به، حيث قيادة الثورة لم تستبعد أيا من الفعاليات، ومن جميع شرائح المجتمع الجزائري· هكذا رأى من ضرورة لمشاركة شرائح الشعب المتعددة في البناء الوطني الجزائري، وهكذا كان تقييمه لتاريخ حركات التحرر المغاربية العربية العالمية، تلك التي انتصرت وحققت الاستقلال·

                       لقد انتقد جغلول الثقافات الوسيطة مع الماضي، واعتبر بأن الخرافات والأساطير لا يمكن أن تشكل مصدرا يمكن الاعتماد عليه، وقد تكون هذه أو تلك مغذية للحلم والخيال، ولكنها ليست مصدرا للتاريخ، ورأى بأن الخطورة تكمن عندما يقوم كاتب من هنا أو هناك بإلباسهما علما تحت يافطة الدين، معتبرا بأنه لا يوجد حد بين ما هو ممكن وبين ماهو غير ممكن في الطبيعة، ولكن هذا موجود في النظرة إلى الواقع الذي نعيش، يقول جغلول: ''العقل ميزان عادل يعطينا بيانات صحيحة لا أخطاء فيها، لكن علينا عدم استعماله لوزن مواد هيولية كوحدانية الله والجنة والآخرة وحقيقة النبوة· ويضيف ''عندما تتكلم عن الوظائف الملكية والحكومية، فذلك من وجهة نظر طبيعة وحضارة الإنسان التي نضعها لأنفسنا، وليس من وجهة نظر التشريعات الدينية الخاصة''، والفرق - كما يقول أحد المؤرخين- ''بين الماضي والحاضر يتلخص في أن الحاضر الواعي هو وعي للماضي بشكل وبدرجة لا نراها في وعي الماضي بنفسه''· ومعنى هذا بالنسبة للفرد أنه اجتاز التجربة، ولكن معناها غاب عنه على أن يعيها في المستقبل·

                    يقف جغلول، كما سبق وذكرنا، موقفا واضحا ضد المرجعيات التي تفسر الماضي بأدوات الماضي واستحضار تفكير من عاشوه، معتبرا أن تلك المرجعيات أوصلتنا إلى الحسابات الخاطئة· وبذا جغلول لم يستسلم ويجاري أصحاب تلك النظريات، بل وقف منتقدا، ومن خلال موقعه الأمراض الناجمة عن فشل التشخيصات التي تعرفها مجتمعاتنا من أمراض، تلك التي أصابت الفكر العربي بالتردي، بسبب ما يمارسونه ويقدمونه من نظريات وهمية وفارغة من معطيات مرجعية تاريخية وعلمية··

                     جغلول فيما رسمه وأسس له من مواقف تاريخية، كان لكل ما كتبه مرجعياته المتعددة والموثوقة، خاصة أنه يتبنى النسبية في نظرته للتاريخ وفي تعامله مع مؤرخي الماضي، ففي أبحاثه فتح أبوابا لمجاري الدورة الدموية لحركة المجتمع وتفاعلاتها سواء في الصراعات أم في المساومات، يقول جغلول ''نحن ورثة شديدو الغرابة''، قال هذا وهو يصف أولئك الذين يعممون ثقافة الوهم، دون مرجعية إلا مرجعية ذاتية ضعيفة في صلتها بتاريخ وواقع مجتمعاتها، أولئك المؤرخون الذين يعتمدون على تعميم الخرافات رابطين إياها بثقافة التقديس والدين، ويسأل ''لقد تمت كل التجارب الكبرى في بناء الدول باسم الإصلاح الديني'' ولكن ماهي النتيجة التي وصل إليها أولئك المصلحون؟ ويضيف مشيرا لكيفية بناء الدول القديمة، ''يشكل الرابط بين العصبية والقبيلة المسيطرة والنفوذ المالي والتضامن الديني مبدأ معقولية مسار تشكل الدول، فالقبيلة والدولة رغم تناقضهما لا ينفي أحدهما وجود الآخر''·

                    نجد ونحن نتابع المنهجية التي أخذ بها جغلول في كتاباته، الكيفية التي جدل بها أفكاره مستفيدا من تعددية منهجيات، هي هذه المستخلصة من مسار واقع شرائح المجتمع الذي ينتمي إليه· وكم نحن بحاجة إلى وجوده، إلى أفكاره التي أصبحت مرجعا للأجيال التي ستنهل منها وتتعلم الكثيرة، وقد تكون مئات الكتب التي صدرت ليست أكثر فائدة من كتاب واحد أصدره المعلم عبد القادر جغلول·

                       لقد بيّن جغلول عن انتماء له كمثقف في بيئة كان مثالا فيها، وهو الذي كان يعمل مع فريق من المثقفين على مناقشة الأفكار التقليدية السائدة، مستخلصا منها عدته في نظرياته التصويبية، مساهما في خلق المناخات التي تؤسس لرافعة من التطور والنمو والتراكم· لقد كان ولا زال مركز الأبحاث في وهران مثال لما أسس له جغلول وتلامذته من بعده، يقول جغلول: ''إن المقدرة الصحيحة على نقل وقائع الماضي، هي أحد عناصر الوعي القومي والديناميكي، القادر على مجابهة الحاضر والتطلع إلى المستقبل· هذه الكفاءة ليست موجودة في الوقت الحاضر، فتاريخ بلدنا لم يستوف حقه من الدراسة حتى الآن، والوعي لا يزال مثقلا بالتفتت الثقافي والتداعيات التاريخية التي جاءت بها الايديولوجية الاستعمارية، وبظهور تداعيات جديدة كانت النتيجة تاريخا ممزقا، وعيا تاريخيا ضعيفا ومشتتا سببه مواقف مجيدة ومواقف خفية···· ''لقد وجدنا من الضروري وضع حد للمعلومات الخاطئة، وبناء جهاز مراجع يسمح لشعوب المغرب بالاطلاع على تراثهم وسط التعقيدات والاستمرارية أو التقطع الذي يلف تاريخنا خلال الثلاثة آلاف سنة الأخيرة ويضيف: لم يؤسس الرومان ولا العثمانيون ولا الفرنسيون أسباب تكوين المجتمع المغربي القديم''·

                    و قد كتب عبد القادر جغلول بحثا حول ( الخارجون عن القانون، العنف الريفي و السلطة الاستعمارية) طرح من خللها، حادثة وقعت أيام الاستعمار الفرنسي بين افراد من قبيلتين، ثم اتسعت أبعاد هذه الحادثة لتأخذ بعدا وطنيا ضد الاحتلال الفرنسي، و قد اعتمد جغلول في عرض بحثه هذا على العديد من الوثائق عن تلك الفترة.

                     مؤلفاته: له أربعة كتب 1 ـ تاريخ الجزائر الحديث· 2 ـ الاستعمار والصراعات الثقافية في الجزائر· 3 مقدمات في تاريخ المغرب العربي القديم· 4 ـ الإشكاليات التاريخية في علم الاجتماع السياسي عند ابن خلدون، كما كان جغلول قد أشرف على كتابين نشرتهما الدار: 1 المرأة الجزائرية، وقد شاركت فيه أيضا مجموعة من الباحثات الجزائريات، كذلك كتاب الانتلجانسيا في المغرب العربي، شارك فيه مجموعة من الباحثين المغاربة·

                    ثالثا:عمار بوحوش:

                    ولد في 17 ديسمبر 1938 بـبلدية العنصر، دائرة الميلية، ولاية جيجل، ألتحق في عز شبابه، التحق بـجبهة التحرير الوطني الجزائرية ثم انخرط في جيش التحرير الوطني الجزائري. وهو معروف بمشاركته الفعالة في الثورة الجزائرية وذلك من خلال الانتماء إلى الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين (U.G.E.M.A.) لقد كان عضوًا باللجنة التنفيذية لفرع الكويت ثم أمين المال في فرع الولايات المتحدة الأمريكية.

                    عندما تحصل على الدكتوراه (Ph.D) في العلوم السياسية من جامعة ميزوري (University of Missouri) في عام 1970، التحق بشركة النفط ( سوناطراك) الجزائرية. ثم تم انتدابه إلى رئاسة الجمهورية في عهد الرئيس هواري بومدين (1970-1975). وفي عام 1975 قرر التفرغ للتدريس بجامعة الجزائر في معهد العلوم السياسية. ثم انتقل في عام 1980 إلى المنظمة العربية للعلوم الإدارية، ومقرها في عمّان، بالمملكة الأردنية، حيث تم تعيينه كبير الخبراء في المنظمة.

                    تحصل عمار بوحوش، خلال مساره المهني، على جوائز علمية داخل الجزائر وخارجها. فقد أشاد الأستاذ الدكتور بطرس بطرس غالي، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، بالإنتاج العلمي للأستاذ عمار بوحوش، حيث وصف كتابه: تطور النظريات والأنظمة السياسية، بأنه من أحسن الكتب التي قرأها في علم السياسة.

                    كتب كتبا عن ( دور البيروقراطية في المجتمعات المعاصرة) و في هذا الكتاب ـ الذي يدخل في حقل علم الاجتماع التنظيم ـ تناول أهمية البيروقراطية و مراحل تطور التنظيم البيروقراطي ، و إيجابيات و سلبيات التنظيم البيروقراطي و نظرياته، و قد أشار د. بوحوش إلى نقطة مهمة عند معالجته للتنظيم البيروقراطي و سلبياته، حيث قال: " و البيروقراطية التي تحتل مواقع إستراتيجية في الجهاز التنظيمي لأية حكومة، تميل إلى الفساد و الاستئثار بالسلطة و النفوذ،شأنها في ذلك شأن أي قوة مدعومة، أو تحتل مراكز قوية في المجتمع...، و الحل الوحيد لهذا الخطر المتزايد المتمثل في طغيان البيروقراطية ـ بخاصة غياب السلطة الرادعة ـ هو تقوية الأجهزة التي توازيها، و نقصد بذلك المؤسسات الموازية للبيروقراطية، و التي يمكنها دراسة القضايا التي تتعلق بالخدمة العامة و الانحراف البيروقراطي، ثم إصدار القوانين و التشريعات التي تساعد على تصحيح الأوضاع، و تقويم الاعوجاج الموجود بالأجهزة البيروقراطية.

                     يقدم الدكتور عمار بوحوش مؤلفه الجديد تحت عنوان "التاريخ السياسي للجزائر من 1962 إلى يومنا هذا"، الصادر عن منشورات "البصائر الجديدة"، ويهدف من خلال صفحاته إلى التعريف بسياسات الجزائر في الماضي والحاضر، بحيث يعتبر تتمة لكتاب أخر صدر بعنوان "التاريخ السياسي للجزائر منذ البداية ولغاية 1962" الذي تطرق إلى الحكومات والمؤسسات التي تعاقبت على حكم الجزائر منذ 800 سنة قبل الميلاد إلى 1962.

                      يأتي الكتاب في619 صفحة من الحجم المتوسط، مقسم إلى 12 فصلا تضمّ عديد المواضيع والأحداث هي:"التطورات في عهد الرئيس بن بلّة 62-65"، "نظرية بناء الدولة عند هواري بومدين"، "تقوية الجهاز البيروقراطي لتنفيذ سياسات الدولة"، "الشاذلي بن جديد يدشن سياسات الانفتاح"، "الإصلاحات الاقتصادية والتحولات الصعبة في الجزائر"، "تغيير المسار السياسي والتوجه نحو التعددية الحزبية في الجزائر"، "المجلس الأعلى للدولة يتولى عملية تصحيح المسار السياسي"، "البحث عن قيادات ذات مصداقية للحوار وإنهاء العنف"، "مبادرات العودة إلى الحوار والتفاوض مع الأحزاب"، "إعادة بناء مؤسسات الدولة في عهد الرئيس زروال"، "تقوية النظام السياسي وبسط النفوذ الرئاسي"،"نظرة شاملة على المراحل الحاسمة في التاريخ السياسي الحديث للجزائر".

                      اعتمد المؤلف عمار بوحش في تأليف العمل على مختلف المراجع العربية والإنجليزية والفرنسية، بهدف توثيق مختلف الأحداث الحاسمة التي شهدتها البلاد، حيث يقول صاحب العمل في تقديمه:"..قراءتي لآلاف الوثائق والمراجع لا يعني أنّني قلت كلّ شيء في هذا الكتاب الوجيز عن الجزائر لأنّ هناك جوانب لا زالت غامضة والوثائق ناقصة والسرّية مضروبة حولها"، ويضيف:"من حق السلطة في الجزائر أو أيّ بلد أخر أن تعترض على نشر أيّة معلومات حساسة قد تلحق الضرر بالمصلحة الوطنية أو بوحدة الشعب الجزائري"، مشيرا بأنّه لهذا السبب تجنب الخوض في القضايا المثيرة للجدل وركز بصفة خاصة على الخطوط العريضة للمواضيع بنوع من البحث"، كما أنّ هذا العمل الأكاديمي موجه للطلبة والباحثين والراغبين في معرفة مؤسسات الدولة وكذا المراحل التي شهدتها بوابة إفريقيا "الجزائر". ولم يخف المتحدث بأنّ فكرة كتابه تعود إلى 1974 حينما زار رئيس رومانيا الجزائر وحمل معه كتابا بعنوان"تاريخ رومانيا"، وبالتالي خطرت لديه فكرة تأليف كتاب يبرز أمجاد البلد ومؤسساته السياسية والعسكرية والاقتصادية وكذا أسباب سقوط ونجاح الأنظمة السياسية في بلادنا.

                      من هذا المنطلق تطرق الأستاذ بوحوش إلى فترة الرئيس بن بلّة بدأها بحديثه عن دور جبهة التحرير في تحقيق الاستقلال، لكن قبله عاد إلى الانقسام الذي حدث بين الوطنيين في لقاء طرابلس في الفترة الممتدة من 25 ماي إلى7جوان 62، إضافة إلى انتخابات المجلس الوطني التأسيسي وتشكيل الحكومة الجديدة وغيرها كالصراع السياسي بين بن بلّة وآيت أحمد والأسباب الحقيقية لانقلاب الـ19 جوان 65، وغيرها، كما وقف عند نظرية البناء عند بومدين وفلسفة الحكم لديه، إلى جانب حديث عن الجهاز البيروقراطي والمركزية في اتخاذ القرارات والعودة إلى الشرعية الدستورية وغيرها، وتطرق أيضا إلى حكم الشاذلي مركزا على سياسة الانفتاح التي طبقها والخروج من سياسة الحزب الواحد، بالإضافة إلى التحولات الصعبة التي شهدها البلد والحوار والوئام الوطني في عهد الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة والتحولات السياسية منذ أفريل 1999.

                    الكتب المنشورة:

                    ـ العمال الجزائريون في فرنسا دراسة تحليلية. الجزائر: الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، 1974.

                    ـ تطور النظريات والأنظمة السياسية. الجزائر: الشركة الوطنية لنشر والتوزيع، 1978.

                    ـ الاتجاهات الحديثة في علم الإدارة. الجزائر: الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، 1981.

                    ـ أبحاث ودراسات في السياسة و الإدارة. بيروت: دار الغرب الإسلامي، 2007[1].

                    ـ نظريات الإدارة الحديثة في القرن الواحد والعشرين.بيروت: دار الغرب الإسلامي، 2006.

                    ـ التاريخ السياسي للجزائر من البداية ولغاية 1962. بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1997.[2][3]

                    ـ التاريخ السياسي للجزائر منذ 1962 إلى يومنا هذا. الجزائر : دار البصائر، 2015.[4]

                    ـ دليل الباحث في المنهجية وكتابة الرسائل الجامعية. الجزائر : المؤسسة الوطنية للكتاب، 1990.

                    ـ الاتجاه الحديث في الاستشارات. عمّان: المنظمة العربية للعلوم الإدارية، 1983.

                    ـ نظريات الإدارة العامة. عمّان: المنظمة العربية للعلوم السياسية، 1982.

                    ـ دور البيروقراطية في المجتمعات المعاصرة. عمّان: المنظمة العربية للعلوم السياسية، 1983.

                     

                    رابعا: محمد السويدي: و هو الحاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة القاهرة في الانثروبولوجيا سنة 1978، الموسومة بـ ( من مظاهر التنمية و التحديث في المجتمع الجزائري 1962ـ 1980) و هو من البحوث القيمة التي استهدفت تسليط الضوء على التجربة الجزائرية في مجال التنمية الاجتاماعية و الاقتصادية و في الريف و الحضر، و هناك نقطة مهمة أشار إليها د السويدي في بحثه هذا، عن التحضر في الجزائر تتجسد في قوله: " من الظواهر الجديرة بالملاحظة، أن عملية التحضر في الجزائر قد سبقت عملية التنمية الاقتصادية و الاجتماعية، و لهذا لا نبالغ إذا قلنا بوجود دورين متناقضين في آن واحد لعملية التحضر. إذ يمكن اعتبار التحضر كمعوق للتنمية و كدافع لعملية التنمية في  الوقت ذاته، و إذا رجعنا قليلا إلى الوراء، فإننا نجد أن المدن الجزائرية ـ في غالبيتها ـ كانت على عهد الاحتلال مدن ذات وظيفة استهلاكية أكثر منها مدا للإنتاج، و هذا يمثل في نظرنا الجانب المعوق للتنمية. ذلك ان هذه المدن قد لعبت دور الوسيط بين الريف و الاستعمار، لأنها تمثل مراكزا تجارية بين الجزائر وفرنسا،، و بعد الاستقلال 1962، بقيت المدن الجزائرية إلى حد كبير تقوم بدور المستهلك أكثر من دور المنتج،ة بالرغم من اتساع وظيفتها الإدارية و السياسية ، وتمركز مختلف الخدمات فيها، و إذا كانت بعض الخصائص  السابقة الذكر قد بينت لنا أن التحضر قد يصبح أحد معوقات التنمية، فهو  من جهة أخرى يسبب حراكا سكانيا نحو المدن، و في نفس الوقت شجع الفئات ذات التكوين العلمي و المهني و الهجرة، و بالتالي ساعد على تحقيق الترقية الاجتماعية و الاقتصادية لهذه الفئات كما ساعد التحضر على أعادة تشكيل العائلة الحضرية و تنظيمها و في الأخير، فإن شبكة المدن الجزائرية الموروثة عن الاستعمار هي الآن في طريق استعادة ملكيتها و تخطيطها،ة كما ظهرت المدن البترولية و المراكز الصناعية و السياحية و الإدارية إلى جانب التجمعات الحضرية ذات الطابع الزراعي الناتجة عن التنمية الريفية".